الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قدر سياسي

مصطفى الحاج صالح

2010 / 11 / 22
أوراق كتبت في وعن السجن


في 15 كانول الأول من عام1985 اعتقلت .. كنت على علم بأنني مطلوب وأنهم سيعتقلونني إنْ لم يكن اليوم ففي الغد .. رغم علمي لم أهرب ليس من باب الشجاعة والتحدي لعل الأمر عكس ذلك ؛ الآن وأنا في الغربة بل وبعد الاعتقال مباشرة لطالما راودتني مشاعر ندم وتبكيت للنفس لا تخلو من اتهامات شديدة .. لربما أقول ؛ لربما عشت حياة أخرى مختلفة عن الحياة التي عشتها بعد الخامس عشر من كانون الأول .. لكن (ربما )هذه لاتنفع قط ولا قيمة لها في بلاد كـ "سوريا" حيث تشعر أنك مربوط إلى قدر أعمى ؛ لا خيارات ولا احتمالات إلا ما كان وما صار .. هو بالقطع ليس قدرا .. إذا كان القدر من عند الله .. فالله ـ كما أعرفه ـ لا يكتب أقدارا ظالمة من ذاك النوع الذي عاشه مئات ألوف السوريون إن لم يكن ملايينهم .. من كتب أقدار السوريين بتلط الطريقة الدامية الظالمة هم أيضا سوريون للأسف ؛ أهل النظام وبغض النظر عن التصنيفات والمعايير ( كالتصنيف الطائفي) أو التصنيف السياسي .. إلخ .. هم ( سوريون) رأس النظام وبغض النظر عن طائفته أو حزبه السياسي هو سوري منذ أجيال .. ضباطه ومعاونوه هم أيضا سوريون ؛ لم يأتوا من بلاد أخرى ولا من مجرات بعيده ؛ أعضاء حزبه ومنظماته الشعبية هم أيضا سوريون وسورية عناصر أجهزة الأمن بأنواعها المختلفة لا يجادل فيها مع ذلك كانوا في تصرفاتهم وفي سلوكهم ؛ ممارساتهم وأفعالهم تجاه أبناء وطنهم أسوأ بكثير من تصرفات جيش احتلال ..

في فترة الثمانينات سيئة الذكر طالما خطر ببال الناس مقارنة أفعال هؤلاء ( السوريون) مع أفعال وتصرفات جيش الاحتلال الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين أو اتجاه اللبنانيين فإن كان الإسرائيلي عدو فما حال هؤلاء ..؟ كيف يتم تصنيفهم .. إلى أي خانة ينتمون ..؟ .. هذه هي الأرضية التي انبنى عليها موقفي من الهرب أو التخفي .. فالذاكرة مليئة بقصص ( تشيب لها الولدان) كما يقال ؛ أخبار عن تصرفات الأجهزة ؛ عن سلوكها ؛ عن أفعالها تجاه أهل الفار المتخفي وكان لنا قبل ذلك( أقصد عائلتنا ؛ أسرة الحاج صالح) تجربة لا تقل مرارة عن اعتقال ( ياسين) وتوقيفه ؛ فبعد اعتقال " ياسين" اضطر أخ آخر ( .. ) إلى التواري والاختباء هذه الحالة ؛ حالة الفرار؛ حسب تقديري لا تقل مرارة ولا ألما عن آلام السجن وعن مرارته إن لم تتفوق في بعض جوانبها ففي السجن يستقر مقدار خوفك عند حد معين في حين ستجد نفسك وأنت فار ؛ متوار ؛ دائم الخوف والقلق..

كانت تجربة أخي الآخر بين عيوني وكانت ذاكرتي مليئة بأخبار ما فعلوه في حلب وحماه؛ في جسر الشغور وفي غيرها من المدن والبلدات السورية ؛ مجازر ؛ اعتقالات جماعية طالت أسر بكاملها بالإضافة إلى اتخاذ رهائن فأي نظام هذا الذي يتخذ من مواطنيه رهائن .. لم أسمع عن ذلك إلا في أمريكا اللاتينية .. حتى أسرائيل نفسها عدوتنا اللعينة ؛ سبب كل بلاء وكل مصيبة لم تكن تتخذ رهائن .. كيف يبررون ذلك..؟ بالقطع لا يمكن مقارنة أعمال مجموعة تنظيمية متطرفة حملت السلاح ضد النظام وضد طائفة بعينها مع أعمال تظام يمسك بمقاليد الدولة ويسيطر على أدوات تلك الدولة .. المقارنة بالقطع ليست في صالح النظام لا من الناحية الأخلاقية ولا من الناحية الساسية ومن يقيس هذا بهذا يسيء للنظام ذاته .. في الحقيقة هذا هو واقع الحال .. النظام نفسه من رأسه إلى قواعده ارتضى التصرف كعصابة ؛ استخدم نفس الإسلوب ؛ لجأ إلى ذات الطرق ؛ لجأ إلى الانتقام ؛ إلى الثأر وهو من أسقط عن نفسه بعضا من شرعية امتلكها حينا من الوقت .

بالإضافة إلى الخشية من تعرض أهلي لأمور لا أحب أن يتعرضوا لها خاصة وأنّ جروح العائلة ما زالت مفتوحة لم يكن لدي آنذاك بصيص أمل في خروج قريب من محنة البلاد والعباد .. إلى أين المفر..؟ لبنان لم يعد مكانا آمنا .. البقاء في البلاد متخفيا خائفا ليس حلا وفي النهاية قد تجد نفسك معتقلا.. إنّه القدر إذن وما عليّ إلا الاستسلام لمجرياته .. هل هناك خيارات أخرى .. ؟ قطعا لا .. ضيقوا علينا البلاد على سعتها .. أمسكوا بمنافذها .. بأبوابها .. سيطروا على الاقتصاد ؛ صار النظام رب عمل أوحد وحيد وليس لك فرصة العثور عن فرصة عمل بعيدا عن عيونهم ؛ كيفما تحركت ستجدهم بانتظارك.. حتى في دور السينما في محطات القطارات.. في وسائط النقل.. لا شيء البتة خارج رقابتهم؛ هم ليسوا جهازا أمنيا واحدا بل عدة أجهزة .. هم ليسوا رئيسا يدير البلاد بنفسه فلا تخفاه صغيرة ولا كبيرة بل هم حزبا يتابع أدق التفاصيل في حياة الناس وهم ليسوا جيشا تخلى عن مكانه في مواجهة إسرائيل لينشغل في احتلال مدن البلاد ومدن لبنان بل ومنظمات ( فاشية؛ شعبية) تعتقل وتعذب ؛ هم كتائب مسلحة وكتاب تقارير .. هم نصف البلاد أو أكثر .. هم كل المستفيدون من نظام يعمل عمل عصابة فيكسر المرفوع ويرفع المكسور ؛ ينصب ساحات الإعدام والسجون بنفس السهولة التي ينصب بها سرادق الاحتفالات والانتخابات.

مع ذلك مازال الندم بطانة لكل تبرير أو تصور عن تلك الفترة .. هل أخطأت بالاستسلام لمشيئة تلك العصبة ..؟ .. ربما .. لكنني لم أكن آنذاك قادرا على التفكير بهدوء وروية ليس لأنني خائف فحسب بل ولأنني أنتمي إلى بلاد غير محصنة؛ بلاد بلا قانون .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - يا حلاوة
محمد الحاج صالح ( 2010 / 11 / 22 - 21:11 )
حلاوة... عسل


2 - طوبى للمشردين والغرباء في سبيل الوطن
مريم نجمه ( 2010 / 11 / 22 - 21:43 )
تحية وشكر للكاتب المبعد عن الوطن الأخ مصطفى الحاج صالح في سبيل قضية وطنية ..
إفتخر.. فأنت سوري مشرّد .. وحر .. والنضال وسام
تحيتي وتقديري


3 - نرفع رؤوسنا فخرا بكم
بسام نيربيه ( 2010 / 11 / 23 - 13:32 )
انت وكل ابناء الحاج صالح رموز للنضال الديمقراطي دفعتم الثمن لنصرة شعب سوريا
دون تمييز دمتم لنا فخرا لن ننساه


4 - تحياتي للجميع
نبيل السوري ( 2010 / 11 / 23 - 16:08 )
أنتم لستم فقط فخراً لنا كما أشار السيد نيربية، ولكن أيضاً الدرع الأخير ضد الطغيان والعهر الذي يمارسه نظام مستبد قذر، وما عانيتم منه هو وصمة عار في جبينه المليء بالوصمات حيث تتكسر النصال على النصال من كثرة الاستبداد والطغيان وقلة الحياء والخيانة
لحسن الحظ أن هناك من أمثالكم واعذروا من لم يهب للوقوف معكم. لكن على شعبنا أن يتعلم أنه لن يتخلص من الطغيان إلا حين يتخلص من الخوف، مثلما فعلتم يا أبطال سوريا


5 - ضحاياكم لا يستطيعون الكلام لانهم ....أموات
سمير الدقر ( 2010 / 11 / 24 - 00:20 )

مع تعاطفي مع كل المشاكل الانسانية ،الا انني لا استطيع حقيقة فهم بعض من يسمّون أنفسهم معارضة ؛أنت تقول -النظام نفسه من رأسه إلى قواعده ارتضى التصرف كعصابة- طيب ياأخي لنفرض جدلا صحة هذا الكلام ،
أنتم في ذلك الوقت كنتم من أتباع الأم تريزا ؟!، أو غاندي أو مارتن لوثر كينغ ؟!
الحقيقة هي الاتي النظام سيء لكنكم قطعا أسوأ منه مرتين على الأقل
مع احترامي للجميع

اخر الافلام

.. العربية ترصد معاناة النازحين السودانيين في مخيمات أدرى شرق ت


.. أطفال يتظاهرون في جامعة سيدني بأستراليا ويدعون لانتفاضة شعبي




.. هيومن رايتس ووتش تدين تصاعد القمع ضد السوريين في لبنان


.. طلاب في جامعة كاليفورنيا يتظاهرون دعمًا للفلسطينيين.. شاهد م




.. بعد تطويق قوات الدعم السريع لها.. الأمم المتحدة تحذر من أي ه