الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المخرز والجمل

عبد الإله السباهي

2010 / 11 / 23
كتابات ساخرة


الجمل والمخرز

صبر العراق وفي جنبيه مخرزه
يغوص حتى شغاف القلب ينسمل


إن ما دفعني للكتابة هنا هو تلك القصيدة الرائعة والتي جاءت وللأسف متأخرة جدا.
تحيرت بعد قراءتها في صبر العراق الذي شبهه الشاعر بصبر ذلك الجمل الذي لم يبرك وظل يواصل السير ومخرزا ترك تحت حمله ليغور عميقا في لحمه ودمائه تنزف.

كانت القصيدة صورة شعرية جميلة ولكن ما حيرني في موضوعها هو منذ متى وهذا المخرز نابت في أحشاء ذلك الجمل.
هل القصة جديدة جاءت مع جيوش أمريكا الغازية؟
لا أظن ذلك، فأمريكا جاءت بساطور وليس بمخرز لتذبح ذلك الجمل!

أي حاد مهمل أو مجرم ترك ذلك المخرز تحت أحمال جملنا ليصل به إلى تلك الحالة؟
عدت إلى كتب التاريخ وتاريخ عراقنا بالذات مستعينا بمعلومات ( نبي الله غوغل) والتي لا تنضب، فوجدت أن الآف الصفحات من المآسي لا تغطي تاريخ هذا البلد الذي ضرب رقما قياسيا في حروبه .
وجدت أن بغداد احتلت عشر مرات منذ دخول هولاكو لها. وفي كل مرة تستباح المدينة ويقتل من فيها من الرجال وتدمر حضارتها،
وفي كل مرة يكون لحادي ذلك الجمل دورا أساسي في نحر جمله.

بعد أن اقتنعت بأن الكتابة عن كل ذلك التاريخ شبه مستحيلة رحت أنقب بأحدث المائة سنة الأخيرة وإليكم رؤوس أقلام لما وجدت.

بدأ احتلال الإنكليز للعراق عام 1914.دخلوا بغداد عام 1917 بقيادة الجنرال مود بحجة التحرير من السيطرة العثمانية التي بدأت عام 1550 ونشر الديمقراطية فيه، فماذا وجدوا في بغداد عاصمة الدنيا؟
الإحصاء الذي أجري في عام 1930 يقول أن عدد نفوس العراق 2824000 أيا ما يقرب الثلاثة ملايين وفي عام 1931 كان عدد نفوس بغداد ثمانون ألفا أصبحوا بعد الطاعون الذي فتك بالمدينة سبعة وعشرين ألفا فقط.
كان في بغداد شارع واحد أمر الألمان بشقه ونفذ العمل القائد التركي ( خليل باشا) فسمي بشارع (خليل باشا جاده سي) وكانت أنصاف البيوت المهدمة ترى على جانبيه وكذلك أثاث البيوت لم تنقل من مكانها بعد في ذلك الحين.
عندما يهطل المطر يغرق هذا الشارع اليتيم بمياه المطر فيتعذر السير فيه، عندها يقف الحمالون في باب مرفأ الجمرك لينقلوا المتميزين من البغداديين والأوربيين على ظهورهم لقاء (آنات) بسيطة .
تبدل اسم هذا الشارع إلى شارع الجنرال مود والذي مات عام 1917 بمرض الكوليرا.
ثم تبدل اسمه عام 1935 إلى شارع الرشيد ولا أعرف هل المقصود هو "هارون الرشيد" أم مطرب المقام المشهور (رشيد القندرجي).

لم تكن في بغداد غير ثلاثة جسور خشبية مثبتة على زوارق يجرفها النهر في فيضانه.
الناس في بغداد طبقة متوسطة محدودة من التجار الأغنياء وزعماء من رجال الدين وقليل من الأسر المتنفذة والتي ظلت محتكرة الوزارات حتى عام 1958. هذا عدى العامة طبعا.
كان في بغداد عائلات من أصل تركي شارك أسلافها في جيش السلطان مراد فاتح بغداد.
وهناك عائلات من أصل فارسي اغتنى بعضها بممارسة التجارة فأصبحوا يحملون لقب التكريم ( جلبي).
وإن نصف أو أقل من نصف من العائلات البارزة في بغداد والثلث من سكانها فقط كانت تجري في عروقهم دماء عربية أما باقي السكان فلم يكونون عربا.
أن ( سنت جون فلبي) وهو أحد قادة الاستخبارات البريطانية في المنطقة والذي كان يسمي نفسه عبد الله فلبي، كان يدعو لإقامة جمهورية في العراق ولكن بقية الانكليز جاءوا بفيصل ملك على العراق بعد أن طرده الفرنسيون من سوريا.

لم تكن هناك علاقة ود وترحاب بفيصل من قبل العراقيين. وإنما فرض عليهم بطريقة ( ديمقراطية للقشر) فقد ظن الأكراد وسكان الشمال عامة أنهم يبصمون من أجل زيادة السكر وحصة التموين.
أم بدو الغربية وفي اجتماع حاشد لهم وقف فهد الهذال رئيس عشائر عنزة وعلي السليمان رئيس عشائر الدليم يخاطبون فيصل:

) يا فيصل إننا نقسم بالولاء لك لأنك مقبول من لدن الحكومة البريطانية).

أما شيعة الجنوب فكانوا يضنون فيصلا شيعي .

لقد توج فيصل في الساعة السادسة صباح اليوم الثالث والعشرين من شهر آب سنة 1921 وسط ساحة مكشوفة في القلعة. وقد توجه المندوب السامي( برسي كوكس) ورئيس أركان الجيش البريطاني( السر إلمر هالدين) بتاج من طراز( وستمنستر) وكان ذلك التاج قد تضعضع قبل أن يستقر على رأس فيصل بعد أن كان محفوظا بشكل سيء في صندوق مخصص لحفظ قناني البيرة اليابانية من علامة( آساهي).
كان معه أثناء تتويجه ك( سردوج) محمود الكيلاني نيابة عن والده وحسين أفنان وهو فارسي مجنس بالجنسية المصرية و تحسين قدري وهو سوري الجنسية .
المشاهدين الذين نشرت صورتهم جريدة التايمز اللندنية في اليوم السادس من شهر تشرين الأول ثلاث صفوف من الانكليز. أما الأشخاص المحليين فلم يسمح لهم بالمشاركة.

ثم رفرف علم العراقي
وكتب المحامي " السر أدورد بونهام كارتر" دستور العراق.
عزف جوق موسيقي لحن " ليحفظ الله الملك". وهذا أول المخارز .

لا أعرف هل أستمر بالحديث عن ذلك المخرز وكيف وضع تحت أحمال الجمل؟
منذ تأسس هذا الحكم الكارتوني وحتى ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 عاش هذا الجمل ستة عشر مرة تحت نير الأحكام العرفية فكيف يكون القمع إذا؟

لم يكن تحت حمل الجمل مخرز واحد في تلك الفترة، بل تعددت المخارز وتنوعت وإليكم مخارز الشعراء والمثقفين :والسياسيين الذين قادوا الشعب إلى هذا المصير البائس.
وقف الشاعر العراقي المشهور "الزهاوي" مناشدا الحاكم العسكري البريطاني( كوكس) في 11 تشرين الأول في حفلة استقباله في محطة قطار باب الشيخ:
عد للعراق وأصلح منه ما أفسدا
وأبثث به العدل وأمنح أهله الرغدا
إن العراق لمسعود برؤيته
أبا له من بلاد العدل قد وردا

رحت أبحث عن المخرز بين ما كتبه شعراء عظام عرفوا ليس فقط بإبداعهم الشعري وإنما بإنسانيتهم وحبهم لشعبهم ووطنهم لنرى كيف سادت ثقافة العنف:

وإليكم ما لقيت لشاعرنا وشاعر العرب الأكبر الجواهري يصف ثقافة التخلف التي سادت العراق في تلك الفترة بثقافة ( الثريد) حيث يقول:

هم أناس تولعوا بالثريد
واستميلوا بزاهيات البرود
وأتينا من بعد ألف نغني النفس
في وصف أكلهم للثريد
لقد شغلنا أفكارنا بقديم
ونسينا تقدير جيل جديد

بينما تراه في مكان آخر يراهن على ثقافة الإرهاب كون لا يصلح للعراقيين غيرها فيقول:

فإن لم يرقى بالتلطيف شعبا
فبالأرهاب فليكن الرقي

أو :
لا تبق دابر أقوام وترتهم
فهم إذا وجدوها فرصة ثأروا

أو : تصور الأمر معكوسا وخذ مثلا................

تركته على مضض ورحت لعملاق آخر أقلب دفاتره التي ضربت بعضها بعضا وتهت مع تلك الازدواجية المحيرة وهو الشاعرالكبير عبد الرزاق عبد الواحد
فتراه يستنكر القمع بقصائد رائعة ثم يكتب غيرها متغنيا بالجلاد
أقتطع لكم بعضا من قصيدة طويلة رائعة نشرت في ديوانه الأعمال الشعرية المجلد الثاني (مصادرة منشور سري):

ستكون البداية أفضل مما بدأنا
تكون البداية أفضل مما.......
نص قرار التجريم
تكون البداية ..
باسم الدولة
صادرنا هذا المنشور السري
وأمرنا بإحالة أذنيه وهذا الجرح المزعوم إلى التحقيق
وإلقاء القبض على كل الكلمات وكل الأفكار المنقولة عنه
وغير المنقولة
........................
..............................
سيدي
إن في الباب عشرين ألف
وجوههم كلها وجه هذا

ووجدت له أيضا في غير ديوانه :

أنا من بلد تقطع فيه الأيدي
تقطع فيه الآذان
موسوم جبينه بالنقصان

أو ما قاله قبل دخول الأمريكان وسقوط النظام السابق:
كبير على بغداد أني أعافها
وإني على أمني لديها أخافها

تركت شعرائنا وهم الوجه الثقافي لهذا الشعب الذي يرى فيهم نجوما لامعة وحاولت أن أدخل عالم السياسة والأحزاب فوجدت الأرض وحلة وخشيت أن أغوص فيها.

لم أجد فيهم من يرحم صاحبه ومن لا يؤله رئيسه فلا يهم تلك الأحزاب ما تؤول إليه الأمور وأكثر القرارات مصيرية تترك بيد الرعاع وهكذا سادت ثقافة السحل والقتل وعدنا للبداوة وثقافة الثريد
والشواهد كثيرة بعد أن سقط تاج فيصل ولم تنفعه كل الترميمات والتصليحات فهو من الأساس تاج مضعضع! وحلت ثقافة الكذب والرياء من جديد
( واسأل الشرطة ماذا تريد وطن حر وشعب سعيد)!
بالمناسبة الشرطة هي ذاتها التي ذبحت الشعب في وثباته المتكررة.

ثم جاء الطامة الكبرى عندما استلمت زمرة من القتلة أشباه المتعلمين الحكم فذبحت قائد الثورة التي ترجى منها العراقيون الخير وعرجوا على رفاق الأمس قتلا وتذبيحا فسادت ثقافة القمع هذه المرة مجسدة بأجهزة أمن ناظم كزار وغيره من الجلادين حتى راحوا يقتلون بعضهم بدم بارد

ثم سادت الدكتاتورية والجهل والحروب وسحق ذمة وشرف الفرد العراقي حتى تركت الأب يخاف من أطفاله أن يشوا به وتفشت تقافة الغزو والسرقة حتى إنك كنت تجد إطارات الخطوط الجوية الكويتية تباع في سوق مريدي!
مهما كانت طموحات الحكام في هذا الوطن كبيرة أو براقة يظل الغباء وكل الغباء مسيطر على سياسة أولائك القادة فكيف تبنى الصروح بحجارة هشة؟
لقد حطموا كبرياء الفرد العراق ودنسوا ذمته وسحقوا كرامته.
واليوم حلت الطامة الكبرى فتربعت العمائم الجاهلة على مصائر الناس وترك القرار بيد السراق والخونة تحميهم أحقاد إيران وأطماع أمريكا.
فهل نظل ننوح على المخرز. والجمل غارت السكاكين في سنامه؟

عبد الإله سباهي
2010/11/20








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأسم
مازن البلداوي ( 2010 / 11 / 23 - 07:26 )
تحية طيبة ايها الكريم
استرعى انتباهي توليفة اسم الكاتب فلا ادري ان كنت انت نفسه ام هو تشابه اسماء لرجل من الجنوب العراقي،وان كان لاضير في التطابق او عدمه

نعم...ماكتبته اليوم اوضح واكثر مما كتبه الكثيرون الذين (يفلترون) الأحداث والحقائق كي لايثيروا ضغينة هنا وهناك

تحياتي


2 - الجمل والمخرز
نسرين السامرائي ( 2010 / 11 / 23 - 14:52 )
الجمل والمخرز ...ليست قصيدة جديدة ، وهي للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد ألقاهها بمؤتمر شعري عقد في بغداد في ثمانينيات القرن الماضي وكان من بين حضور المؤتمر نزار قباني و ( الرفيقة العزيزة سعاد الصباح ) التي راحت تغازل ( فتى الفتيان صدام حسين ) في قصيدة لها
تحياتي

اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط