الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دروس الإسلام والحداثة في التجربة التركية

عبدالله تركماني

2010 / 11 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


تستحق التجربة التركية المعاصرة الدراسة والتأمل، خاصة في العالم العربي الذي تتطلع أغلب شعوبه ونخبه إلى أنموذج يجمع بين الإسلام والحداثة. وفي الواقع يستفز المشهد التركي مفهوم الجدل التاريخي بين الإسلام والحداثة، حيث برزت تركيا العثمانية في القرن التاسع عشر باعتبارها ساحة هامة لمحاولات التحديث الرئيسية في العالم الإسلامي، ثم مرورها بالتجربة الأكثر راديكالية للعلمنة خلال الحقبة الأتاتوركية في القرن العشرين. كما امتازت بكونها أول دولة شرق أوسطية تعاطت بإيجابية مع رياح التغيّرات الجوهرية التي أصابت بنية النظام السياسي العالمي في مطلع تسعينيات القرن العشرين.
ومنذ بضعة سنوات تقدم تركيا إسلاماً سياسياً آخر غير إسلام الجمود والانغلاق، إنه إسلام متعايش مع العصر، منفتح على العالم، معترف بالحداثة، حريص على الهوية الإسلامية بلا تعصب وبلا إكراه وفرض، وبلا اغتيال للعقل، وبلا تكفير للمجتمع وللعالم، وإدخال الظروف والمتغيّرات المحلية والدولية في حساباته ورؤاه السياسية. بتعبير آخر، هو واقعي وعملي، يرى العالم كما هو، ويتعامل مع ظلمه وعدله بلا حساسية وبلا يأس غاضب، وبلا غريزة الانتقام والإلحاح الجنوني على إرهابه وتدميره، مما جعل تركيا ميدان اختبار لفكرة جدل الإسلام والحداثة.
ويبدو أنه من الضروري أن نبحث عن مصادر العلاقة المميزة بين الدين والسياسة في تركيا، في خصوصية الإسلام التركي التوفيقي المتأثر بأديان قارة آسيا، وأيضاً في العالم البلقاني، ومن خلال الماضي العثماني. وعلى النحو نفسه، من غير الممكن طرح المسألة الدينية بعبارات التعارض الثنائية، أي بوضع العلمانيين من جهة، والإسلاميين من جهة أخرى، إذ ثمة سلوكات هجينة مؤلفة من الموقفين على حد سواء، من دون الحديث عن خصوصية الأتراك الذين تكيّف عدد كبير منهم مع الحداثة.
‏هذه السمات كانت حاضرة في إدراك قادة حزب " العدالة‏ والتنمية "،‏ الذين كانوا جزءاً منها في بعض مراحلها‏،‏ وإذ تعلموا دروسها‏،‏ واستوعبوا شروط النجاح والاستمرار في الساحة السياسية‏،‏ فإنهم حرصوا على أن يقدموا صيغة تصالحية بين الإسلام والعلمانية والديمقراطية،‏ نجحت في استقطاب قطاع غير قليل من النخبة التركية‏،‏ وقطاع كبير من الجماهير‏،‏ التي أعطتهم أصواتها وثقتها في الانتخابات‏ البرلمانية والبلدية.‏ وحين اعتبروا أنفسهم حزباً محافظاً وديمقراطياً‏،‏ كان ذلك يعني مباشرة التزامهم باحترام القيم الأساسية في المجتمع التركي وفي مقدمتها الدين والعلمانية‏،‏ وحين فعلوا ذلك فإنهم استعادوا الركن المغيب في الهوية السياسية التركية‏،‏ وهو الإسلام الذي ذوبته العلمانية الكمالية في مشروعها المهيمن.‏ وفي حدود السقف المتاح‏،‏ فإنّ استدعاءهم للإسلام تم في الإطار الاجتماعي وليس السياسي‏،‏ وبذلك فإنهم قدموا المشروع الإصلاحي على الأيديولوجي‏،‏ وهو ما يفسر تقليلهم من شأن معركة الحجاب التي افتعلها علمانيو الأتاتوركية الغلاة‏،‏ وانشغالهم عنها بمواجهة الأزمة الاقتصادية وتعزيز الحريات والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي‏.‏
وقد نجح حزب " العدالة والتنمية " في اقناع الغالبية الكبرى من الفئة الإسلامية المحافظة بوجهة نظره، وتمكن من حشد دعم عناصرها الأكثر دينامية. وهو في مجال الاقتصاد يركز على مفاهيم " المنافسة الحرة " و " العقلانية " و " حس المسؤولية " و " شفافية السياسة الاقتصادية " التي تتبعها الدولة الحديثة. ويدعو الحزب إلى مجتمع منفتح، وثيق الصلة بنشاط مؤسسات المجتمع المدني التي ستحد من اندفاع سلطة الدولة إلى السيطرة على كل أصعدة الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وهذا المفهوم المجتمعي، الذي يهدف إلى منع حضور سلطة الدولة الطاغي، لا يؤيد فكرة الدولة الإسلامية التواقة إلى صوغ كل مجالات الحياة وفق أيديولوجيتها الخاصة. إلا أنّ المفهوم يفسح في المجال أمام نشوء مجتمع إسلامي مستعد لإعادة النظر في القيود الصارمة للنشاط الديني، وخصوصاً على مستوى التعليم وحرية التنظيم.
وهكذا، يمكن تفسير وصول حزب " العدالة والتنمية " إلى السلطة في العام 2002 لأنه تم تأسيس الحزب من منطلق نوع من المراجعة للذات للتيار الاسلامي‏،‏ حين طرح قادته أنفسهم كإصلاحيين مستنيرين مؤمنين بالديمقراطية والعلمانية‏،‏ ورفضوا إلصاق تعبير الإسلامي بالحزب‏،‏ لكنهم رفضوا أيضاً تجريد تركيا من هويتها الإسلامية ودعوا إلى احترام الدين‏،‏ الذي فشلت علمانية الأتاتوركية في اقتلاعه من نفوس الأتراك أو حتى تهميشه على مدى ما يزيد عن‏ 80 ‏عاماً.‏
إذن هو يغاير مفهوم الإسلام السياسي التقليدي، إنه صورة مغايرة للخطاب الإسلامي الخشبي، المتشنج، الذي تستهلكه المظاهر والتفاصيل والوثوقية الشمولية المحنطة. وتكتمل الصورة بعدم ترك فرصة لإظهار الولاء للنظام العلماني، لإغلاق الباب أمام المتربصين.
أما من حيث المضمون فإنّ الحزب عرف كيف يلعب السياسة بحنكة، أي كيف يتعاطى مع مسألة العلمانية والتوازنات داخل تركيا وطبيعة علاقاتها الإقليمية والدولية، فلم يتجاهلها أو يقفز عليها. وفوق ذلك أفلح في توظيف المخزون التاريخي للبلاد وأزمة الهوية، ليس في توجه يخيف الداخل والخارج، ولكن في الحديث عن ضرورة حل مشاكل تركيا العديدة.
وهكذا، تقدم لنا التجربة التركية، منذ وصول حزب " العدالة والتنمية " إلى سدة الحكم، أنموذجاً يمكن الاستفادة من بعض معالمه لوضع برامج للإصلاح والتطوير والعمل على تطبيقها في أقطارنا العربية أيضاً: فمن أولى معالم هذه التجربة، نجاح هذا الحزب في التوفيق بين مبادئ الدولة التركية العلمانية وبين برامجه وأهدافه التي لا تدير ظهرها لتاريخ ثقافتها الإسلامية. إذ ليس المهم أن ننادي بالعلمانية أو أن نحاربها، لكن المهم هو إيجاد الطريقة المثلى التي تحترم تاريخنا العربي - الإسلامي وتراثه الإيجابي ولا تتعارض في آن واحد مع ما تعارفت عليه المجتمعات الإنسانية من مبادئ وقيم تعزز سلامة الإنسان وتحترم كرامته وتحقق المساواة بين أفراده، بغض النظر عن أية اعتبارات قومية أو دينية أو مذهبية، وتحقق له شروط حياة لائقة وكريمة وتحميه من كل استغلال وظلم وطغيان.
أما الإضافة الأخرى التي لا تقل أهمية، فهي استيعابهم لمستحقات الخيار الديمقراطي، حيث أعلنوا التزامهم الكلي بقواعد التعددية السياسية، ولم يكتفوا بالتأكيد على مسألة الحريات بل أعلنوا عزمهم على حماية حقوق الإنسان، وعدم التدخل في الحياة الخاصة لمواطنيهم، أو التعسف بتغيير نمط حياتهم عن طريق سلطة الدولة كما فعل غلاة العلمانية في تركيا.
وهكذا، يمكن القول بولادة تيار " الديمقراطيين المسلمين " في تركيا على غرار " الديمقراطيين المسيحيين " في أوروبا الغربية، يمهد الطريق للانتقال من العلمانية على " النموذج الفرنكفوني " إلى العلمانية على " النموذج الساكسوني ". فمن المرات القليلة في التاريخ الحديث، تحاول حكومة دولة غالبية سكانها من المسلمين أن تبدأ محاولة جادة لإثبات أنّ كون المجتمع مسلماً لا يمنع انضمامه التام للمجتمع الدولي الحديث كعضو فاعل كامل العضوية، وليس كما يروج ذوو الرؤوس الحامية للإبقاء على الدول والمجتمعات العربية معزولة عن بقية هذا المجتمع الدولي. وذلك من خلال قدرتها على التعامل الجاد العاقل والمفيد مع القوى والتجمعات الحديثة، ومع المشكلات المركبة القومية والإقليمية والعالمية بحكمة، وأنها قادرة على عقد الصفقات المفيدة للجميع، وأنها - وهو الأهم - قادرة على قيادة شعبها قيادة حكيمة بلا تطرف، وقادرة أيضاً على قيادة شعبها في اتجاه الانضمام الايجابي الفعال الى المجتمع الدولي.
ومن الواضح أنّ تيار الإسلام السياسي، على المستوى الإقليمي، يتمتع بثقل سياسي مؤثر مقارنة بالقوى السياسية الأخرى في دول المنطقة، مهما اختلفت درجات التسامح والتضييق على هذا التيار، وهو مايستحق قدر من التأمل والدراسة للتعامل مع هذه الظاهرة، خاصة وأنها تعبر عن تطلعات قطاعات واسعة من شعوب هذه المنطقة من العالم. كما أنها تفرض على التيار الإسلامي العديد من الاستحقاقات، خاصة في مجال تطوير أطروحاته وأساليبه في العمل السياسي، وربما يكون الأنموذج التركي المعتدل والذي يمثله حزب " العدالة والتنمية " أنموذجاً هاماً في هذا المجال.
ويبقى أن نستخلص بعض العبر من هذه التجربة التركية التي تثير، بشكل مباشر، جدل الإسلام والديمقراطية، بل جدل الإسلام وكل مكوّنات الحداثة:
(1) - النظام الديمقراطي السلمي هو وحده القادر على إحداث التغيير، ونجاحه في تركيا يدحض ويسفِّه الاتجاه الذي يعتمد العنف والإرهاب، والمؤامرات لإعداد الانقلابات كوسائل للتغيير.
(2) - إنّ الحركات الإسلامية التي تؤمن بالإسلام السياسي وتنزلق إلى العمل بأساليب غير ديمقراطية تضل سبيلها، ومن واجبها أن تراجع تصوراتها ومفاهيمها وطرائق عملها وتتأقلم مع متطلبات الحداثة، وتندمج في مجتمع الواقع السياسي وتقبل التعاون مع مؤسساته. كما عليها أن تنأى عن إيمانها بأنها وحدها مالكة الحقيقة، بما يجعلها تجاهر غيرها بحملات الإقصاء والتنديد وأحيانا تتصدر أحكام التكفير على المجتمعات.
إنّ المثال الأفضل جاء من إعلان حزب " العدالة والتنمية " التركي أنه يقبل العلمانية التي لا تناهض الدين، وينخرط في أعماق المجتمع التركي ويتعامل ويتعاون مع المؤسسات الدستورية.
والسؤال هو: كم يلزم الإسلام السياسي العربي من تحولات ثقافية وسياسية حتى يفهم أنّ عليه أن يراجع أفكاره وتصوراته ومفاهيمه المحنطة عن الماضي والحاضر والمستقبل، وعن الدولة والمجتمع والفرد، وعن المرأة والطفل والحريات الشخصية، وعن الفلسفة والفكر والفن والأدب، والحريات العامة.
أوليست المجتمعات العربية والإسلامية في حاجة ملحة وعاجلة إلى دولة تقوم على الحق والقانون، فتكتسب المجتمعات في ظلها المناعة والقوة وتستعيد بفضلها الثقافة الإسلامية حيويتها وتقوم بتجديد نفسها ? ربما أنّ ما نشهده من بروز عصر الإسلام العلماني - الديموقراطي في تركيا، هو المقدمة الأولى والضرورية لبزوغ فجر هذا النوع من الإسلام السياسي في كل العالم العربي.
وهكذا، فإنّ إسلاميي تركيا يبعثون برسالة بليغة، إلى كل حركات الإسلام السياسي، مفادها أنه يمكن تقديم الإسلام بصورة مختلفة عما يعرضه الأصوليون المتزمتون الذين يقدمون للعالم صورة متخلفة ومرعبة للإسلام. إنهم يتحدثون بلغة عصرية مفهومة ويعبرون عن أفكار متمدنة: فصل الدين عن الدولة، الديمقراطية وحرية العمل السياسي للجميع، كفالة حقوق الإنسان، المساواة بين النساء والرجال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا تستعجل
سرسبيندار السندي ( 2010 / 11 / 27 - 00:16 )
تحياتي لك يا عزيزي الكاتب ولا تستعجل حتى تري تجربة ألإسلام التركي ... فأول الغيث أنواء جوية ... تحياتي

اخر الافلام

.. طارق متري: هذه هي قصة القرار 1701 بشأن لبنان • فرانس 24


.. حزب المحافظين في المملكة المتحدة يختار زعيما جديدا: هل يكون




.. الرئيس الفرنسي يدعو إلى وقف الأسلحة نحو إسرائيل ويأسف لخيارا


.. ماكرون يؤيد وقف توريد السلاح لإسرائيل.. ونتنياهو يرد -عار عل




.. باسكال مونان : نتنياهو يستفيد من الفترة الضبابية في الولايات