الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحن والغرب والحداثة

بدر الدين شنن

2010 / 11 / 26
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


ليس من الغرابة بشيء ، أنه كلما تعمقت وتوسعت إجراءات اقتصاد السوق الليبرالي ، وانتشرت تداعياتها الاجتماعية المؤلمة ، تزداد طروحات " الليبرالية السياسية والحداثة والتنوير " كلازمة لتلك الإجراءات . وهذا أمر مفهوم ، إذ يمكن أن يكون ذلك صدى انعكاس مألوف لهذه الإجراءات على المستوى السياسي والثقافي . لكن الغرابة أن يتأتى عن ذلك لزوم تجاوز العداء للغرب .

على أية حال ، يبدو أن خلفية هذه الطروحات ، ليس نتاج قراءة علمية ميدانية لما يحدث حقاً في البلد ، وإنما هو محصلة قياس .. مطابقة .. ماجرى في أوربا قبل عدة قرون إبان الثورة الصناعية ، ونشوء اقتصاد السوق ، وانطلاقة الحداثة والتنوير والليبرالية السياسية ، على ما يجري عندنا ، وذلك رغماً عن اختلاف الظروف الموضوعية ، التي حدث ويحدث فيها نشوء اقتصاد السوق هناك .. وهنا .. ورغماً عن التحولات التي مرت وتمر بها أوربا ذاتها من متغيرات منذئذ حتى الآن . وقد كان يمكن تجاوز الاستخدام المبسط لهذا القياس ، لو أن الأمر اقتصر فقط على إضاءة أهمية التكامل القيمي في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية ضمن بلد ما ، كدلالة تاريخية على عملية تشكيلة اقتصادية رأسمالية اجتماعية متكاملة . لكن هذه الطروحات اعتبرت أن التكامل ثابت في كل الأزمنة والأمكنة التي تجري فيها هذه العملية ، دون أي مساس بجوهره وتقلباته ، حتى عندما تتفجر الأزمات الدورية الرأسمالية ، أو تنشأ نضالات طبقية حادة في المجتمع ، أو صراعات تنافسية دموية مع كتل رأسمالية في بلدان أخرى إقليمية ودولية تطمح إلى إعادة تقاسم النفوذ والأسواق والأرباح ، ويمكن لهذا التكامل أن يتكرر وبثبات في هذا البلد المحكوم بالاستبداد المركب السياسي والاقتصادي والاجتماعي .

بل وتذهب بعض هذه الطروحات إلى أن لزوم ربط الحداثة والتنوير بتجاوز العداء للغرب يشكل الحالة الشرطية لتحقيق التغيير الديمقراطي .. وحسب الدلالات الصادرة عن هذه الطروحات ، فإن تجاوز العداء للغرب ، رغم كل عنفه ومطامعه الذي لايمكن إنكاره ، هو القناة التي ستتدفق منها الحداثة والتنوير والديمقراطية ، وحل أزمات الإقليم وأهمها الصراع العربي الصهيوني ، ما يتيح لنا أن نشترك مع غيرنا في العالم بتغيير العالم نحو الأفضل .

اللعبة هنا ، مع الاحتفاظ للبعض بحسن النية ، هي ربط تحقيق الحداثة والتنوير بتجاوز الحقد على الغرب .. الغرب عامة .. وإيجاد حل دائم للصراع العربي الاسرائيلي . وهذا الربط ينفي أية مصداقية للقوى المقاومة لعدوانية ومطامع الغرب ، والعاملة من أجل الحصول على الحداثة والتنوير في آن . ولذلك لابد من تفكيك هذه اللعبة . أي بفصل نبل ومشروعية المقاومة ضد العدوان والاحتلال والجري وراء الحداثة والتنوير عن لزوم تجاوز العداء للغرب ، وكسر وصاية الغرب على قيم الحداثة والتنوير والتكنولوجيا ، واستخدامها لإفقار وإذلال الشعوب والهيمنة عليها ، والتعاطي مع الغرب كما هو حقاً .. التعاطي باحترام وتقدير لمنجزات علمائه ومثقفيه ونضالات ومكتسبات شعوبه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .. وبالحرص الشديد على بلداننا بانتهاج المقاومة لحكومات الغرب وشركاته الاحتكارية الامبريالية المعادية لبلداننا والطامعة بثرواتنا والهيمنة علينا .

على أن السؤال الذي لاغنى عنه في هذا الصدد هو ، من هو الغرب المقصود في هذا السياق ؟ .. ومن هو المطلوب منه تجاوز عداءه للآخر .. نحن .. أم الغرب ؟ ..
لايختلف اثنان من القوى الوطنية الديمقراطية والثقافية التقدمية ، أن الغرب المقصود هو دول وحكومات أوربا والولايات المتحدة الأميركية الامبريالية ، التي تستغل شعوبها ، وتمارس في مختلف القارات العدوان واللصوصية إزاء الشعوب الأخرى .. والعداء العنفي الدموي القائم بيننا وبين هذا الغرب ، هو العداء التاريخي المزمن الصادر عن الحكام والشركات الرأسمالية الاحتكارية ضدنا ، الذي تمثل بحروبه العدوانية التي لاحصر لها من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق على بلداننا واحتلالها ونهب ثرواتها ، وليس هو العداء الصادر عنا ، عندما تعز علينا بلداننا ونصمم على الدفاع عنها . والمطلوب أن يوقف هذا الغرب عداءه لنا .. أي أن يوقف عدوانيته ومخططاته اللصوصية ، التي تستهدفنا على مدار السنين والأشهر والأيام ، وليس المطلوب أن نوقف ، نحن الضحايا المستهدفين ، عداءنا المشروع لعدائه اللئيم المغتصب .

ولعل لمحات وجيزة من حقائق تاريخ علاقة الغرب العدائية معنا ، منذ القرون الأخيرة من الألفية الثانية وحتى الآن ، تضيء لمن يلتبس عليه الأمر .. أو نسي .. أو تناسى .. هذه الحقائق . وقد أسقطنا من الحساب عن عمد ماسمي بالحروب الصليبية ، لأن تلك الحقبة لم يتخللها لدى الغرب لاحداثة ولاتنوير . والصليب الذي تلطى خلفه الغزاة لم يكن كافياً للتمويه على كذب ووحشية وبربرية غرب ذاك الزمان ، التي مارسها في الأماكن التي سيطر عليها نحو قرن من أرضنا . وهنا يقتصر الحساب على المرحلة الاستعمارية ، التي جاء بها عصر الثورة الصناعية في القرن السابع عشر وما بعده ، الذي جاء من أضلعه " عصر الحداثة والتنوير " في الغرب . بيد أن أواصر هذه القرابة لم تدم طويلاً ، إذ ما لبثت أن تقككت بانقلاب عتاة النظام الرأسمالي على محدداتها وقيمها .

الفعل الغربي الأكثر عداء لنا ، كان الغزو والاحتلال لبلداننا العربية .. بلداً إثربلد .. وقد مارس هذا العداء .. الغزو .. والاحتلال اللاإنساني واللاأخلاقي ، كل من بريطانيا وفرنسا واسبانيا وهولندا وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل . بدأت بريطانيا بغزو واحتلال إمارات الخليج منذ عام 1798 واحتلت عدن عام 1839 . واشتركت بريطانيا وروسيا وفرنسا في تدمير الجيش المصري عام 1840 وأسقطت مشروع محمد علي باشا الإقليمي الذي كان يعد بدولة نهضوية كبرى في الشرق . وقد احتلت هولندا في القرن التاسع عشر بعض الإمارات العربية بعض الوقت في الخليج . واحتلت بريطانيا مصر وأسقطت ثورة أحمد عرابي ضد الفساد والظلم الاجتماعي عام 1882 ، كما احتلت السودان عام 1898 . واحتلت اسبانيا قسماً من المغرب عام 1912 . واحتلت بريطانيا وفرنسا بلاد الشام حسب معاهدة ( سايكس - بيكو ) . فاحتلت بريطانيا فلسطين عام 1917 و العراق عام 1914 . واحتلت فرنسا سوريا ولبنان عام 1919 . واحتلت إيطاليا ليبيا عام 1911 ، واحتلت فرنسا معظم المغرب عام 1912 ، وكانت قد احتلت الجزائر عام 1830 وتونس عام 1881 . واحتلت الولايات المتحدة الأميركية العراق عام 2003 .

ومن أبرز أفعال العداء الغربي هي ، تقديم بريطانيا للصهيونية العالمية وعداً ( وعد بلفور ) عام 1917 لإقامة دولتها إسرائيل على أرض فلسطين . وقد نفذت بريطانيا هذا الوعد الاستعماري بعد احتلالها لفلسطين بدعم الهجرة الصهيونية من شتى بلدان العالم إلى فلسطين ، ودعم المنظمات العسكرية الصهيونية للسيطرة على أوسع ما يمكن من الأراضي الفلسطينية ، ولطرد أكبرعدد من الفلسطينيين باستخدام المذابح والمجازر الجماعية البشعة ، وبتقييد ومحاربة المقاومة العربية للمشروع الصهيوني ، وذلك حتى إعلان الدولة الإسرائيلية عام 1947 ، حيث احتضنتها ، وما تزال ، بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وبقية دول الغرب الاستعمارية .

بمعنى أن من مارس العداء بالاحتلال والغزو واللصوصية هو الغرب الاستعماري ، الذي ما زال يحتفظ بمفاعيله ومضامينه العدوانية ومطامعه الامبريالية ، وليس بلداننا العربية . لم يحتل العرب بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا أو الولايات المتحدة الأميركية . ولم يزرع العرب كياناً عنصرياً غريباً في أي بلد أوربي . وقد تكرست بذلك حقيقة أن الغرب هو المعتدي ووطننا العربي هو المعتدى عليه . وأن الغرب هو صانع العداء المرفوض . وهو المسؤول عن وقف هذا العداء ، المتأصل في نسيج وبنى الرأسملية الامبريالية .

لم يجر حتى الآن إحصاء دقيق عن الخسائر والآلام البشعة ، التي ألحقها الغرب الاستعماري بنا ، من قتلى ، ومن نهب متوحش للثروات الوطنية . لكن الأرقام المعروفة مذهلة ومؤلمة . في الجزائر وحدها قتلت حكومة الرأسمالية الفرنسية مليون ونصف المليون جزائري ، واستخدمت بعض الأراضي الجزائر وسكانها حقول تجارب لأسلحتها النووية ، وقتلت في سوريا خمسين ألف سوري ، وقتلت في المغرب وتونس آلاف المقاومين . وفي فلسطين قتلت بريطانيا والمنظمات الصهيونية آلاف الفلسطينيين العرب إبان عملية زرع الكيان الصهيوني اللئيمة ، وشردت بعد إقامة أسرائيل ملايين الفلسطينيين . وقتلت إيطاليا وشردت مئات آلاف الليبيين ، وقتلت وتسببت قوات الاحتلال الأميركي بقتل أكثر من مليون من المواطنين ويتمت أربعة ملايين طفل ورملت مليون امرأة في العراق . وقتلت إسرائيل في حروبها على مصر وسوريا ولبنان والأردن عشرات الآلاف من الجنود والمقاومين والسكان العزل من السلاح .

أما الخسائر المادية ، فإنها ، كالجبال ، أكبر من أن تحصى . وأخطرها أنها وضعت البلدان العربية قيد الاستهداف الاستعماري العسكري والسياسي والاقتصادي الدائم ، من خلال دعم الغرب الاستعماري للأنظمة العربية الرجعية المفوتة والاستبدادية ، ومن خلال العقود غير المتكافئة لاستثمار الثروات الوطنية وخاصة البترول وعوائده المالية ، ومن خلال تحريض ودعم الكيان الصهيوني لممارسة الابتزاز والضغط على الفضاء العربي ، لاستدامة تمزقه وتخلفه ، والقيام بحروب عدوانية ، لوأد أية فرصة نهضوية لأي بلد عربي مصنف ضمن مركز الاهتمام الغربي . وأخيراً وليس آخراً حصار غزة المتوحش .

والمشهد العربي الآن من المغرب إلى العراق ، يقدم بكثافة ما فعلت وما تفعله أيادي الغرب الاستعمارية والصهيونية من تدمير وتمزيق وإذلال لشعوبنا . ويكفي إضاءة مربعات ، الصومال الممزق المتقاتل لحساب أطراف دولية عدة ، و العراق النازف دماً وإرادة وكرامة ، والسودان الممدد على مشرحة التمزيق الجغرافي والمجتمعي ، ولبنان المطلوب رأس مقاومته وهدر وحدته الوطنية ، ومصر التي عانت من الاستبداد طويلاً وتندلع في شوارعها الآن حرائق الطائفية البغيضة ، والجزائر المتقاتلة مع ذاتها ، والمغرب الزاحف نحو الصحراء والمقطوعة أصابعه في سبتة ومليلة ، وسوريا التي يجثم على صدرها الاستبداد والميز السياسي منذ نصف قرن حتى الآن ، ودول الخليج العربي منجم الذهب الأسود والتخلف الأسود ، التي تكابد من لصوصية الوصاية الغربية على ثرواتها وعوائد نفطها ، وتكابد القلق على مصير كياناتها المركبة عشوائياً من الصراعات الإقليمية والدولية ، واليمن الذي تستعرفيه الصراعات الجهوية ( جنوب - شمال ) والمذهبية وترتع فيه منظمة القاعدة ، يكفي لمعرفة كم من التفقير في الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية يكابد إنساننا العربي نتيجة عداء الغرب ولصوصيته لنا قبل التفويت والإفقار في الاقتصاد وتأمين الرغيف ، ما يضع أمام مسألة الحداثة حواجزاً من القهر والتخلف والحصار الدولي الغربي . ويضع فوق طروحات الحداثة والتنوير المقرونة والمشروطة بتجاوز العداء للغرب يضع علامة استفهام كبيرة ، فهي أي الطروحات المشار إليها لاتخدم الغرب المعادي لشعوبنا ومصالحنا وحسب ، وإنما تخدم الأنظمة التي شرعت بإجراءات اقتصاد السوق مدعومة من الغرب على حساب وآلام الطبقات الشعبية خاصة وحساب ومصالح المجتمع عامة .

من هنا يمكن ويجب ، أن نفك الحداثة عن تجاوز العداء للغرب ، أو بالتحالف معه ، لاسيما في وقت يمارس هذا الغرب حتى اللحظة عداءه لنا في العراق ويتآمر لتمزيق السودان واليمن ومصر ولبنان والصومال ، ويدعم عدوانية إسرائيل العنصرية ، ويفرض علينا التخلف والإفقار باحتكار العلوم الأساسية والتكنولوجيا المتطورة والتلاعب بثرواتنا ومقدراتنا ، وأن نتمسك بالحداثة المقرونة والمشروطة بالتحرر من الاستبداد ومن الهيمنة الاستعمارية ومآلات التهاون معها .

إن حداثة تأتي على أجنحة المقاومة للعدوانية الاستعمارية الغربية ، وأجنحة القوى الإنسانية العالمية المعادية للعنصرية والاستغلال والعدوان ، هي أرقى بكثير .. وأصدق بكثير .. وأهم بكثير .. من تلك الحداثة التي تأتي مع آليات الاحتلال العسكرية المدمرة ، أو تأتي على أجنحة المساومة والتصالح اللامتكافيء مع الغرب المتصهين ، المعادي بطبيعته الرأسمالية الاحتكارية لتطلعاتنا ، وطموحاتنا الوطنية والقومية التحررية ، والتنموية الاقتصادية والحداثية ، التي تعزز النضال الوطني الديمقراطي للتغيير ، والتخلص من حقبة الاستبداد المديدة في تاريخنا المعاصر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحداثة و اشكالية التجدر داخل المجتمعات اللا
mustapha Ibn abde allah ( 2010 / 11 / 27 - 16:14 )
اود ان الفت نظرالكاتب الى مسالة لم يتنبه اليها ، فعندما تكتب عن العداء للغرب فهو ناتج عن اختلاف عقائدي، فالغرب مثل ولازال يمثل النقيض العقائدي للاسلام و الصراع تمى على هذا الاساس، فالحداثة في شقها المعنوي او الروحي هي مرفوظة لانها تنقاقض جدريا مع الثقافة السائدة،


2 - مايتعلق بالحداثة والغرب
بدرالدين شنن ( 2010 / 11 / 27 - 18:29 )
إن صراعنا مع الغرب الرأسمالي الامبريالي ، لم يكن ، ولن يكون في جوهره صراع أيديولوجي إسلامي مسيحي . إنه تحت أي رداء حدث ، وقد يستمر حدوثه لفترة زمنية ليست بالقليلة ، هو صراع مصير ضد الغزاة الطامعين بأرضنا وثرواتنا .. هذه هي الحقيقة التي جرت فصولها الدرامية مكشوفة أمام التارخ

اخر الافلام

.. رولكس من الذهب.. ساعة جمال عبد الناصر في مزاد


.. Socialism 2024 rally




.. الشرطة الألمانية تعتدي على متظاهرين مناصرين لغزة


.. مواطنون غاضبون يرشقون بالطين والحجارة ملك إسبانيا فيليب السا




.. زيادة ضريبية غير مسبوقة في موازنة حزب العمال تثير قلق البريط