الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التفاعل الصاخب بين الفن و الحياة .. قراءة في نساء و ألغام ل فؤاد قنديل

محمد سمير عبد السلام

2010 / 12 / 4
الادب والفن


في نصه السيري – الروائي (نساء و ألغام) – الصادر عن دار الهلال 2010 - يواصل فؤاد قنديل مشروعه الإبداعي ، و الحكائي حول تفاعله الثري ، و المعقد بأحداث الحياة اليومية ، و الإشارات الفنية ، و الثقافية ، و تحولات الوطن الاجتماعية ، و السياسية بوصفها جزءا من الهوية الداخلية للسارد / الكاتب .
و تتميز تلك الكتابة السيرية – الروائية بأمرين :
الأول : الجمع بين صخب الأحداث الحياتية ، و مساحة التأمل الفنية التي تتطلب قدرا من العزلة لممارسة القراءة ، و الاستماع إلى الموسيقى ، و الكتابة ، و قد يختلط الصخب في النص بالتأملات الفنية الجمالية ، و ما تحويه ذاكرة السارد من خبرات معرفية ، و أفكار فلسفية ، و تراثية دونما انفصال واضح ، و كأن الواقع التسجيلي يطور الذات فنيا من جهة ، و يفجر مادة جمالية جديدة من الذاكرة ، تقوم على التأويل ، و الصيرورة ، و الاختلاف في بنية الماضي نفسه من جهة أخرى .
الثاني : الصدق الفني الذي ينبع من صوت إنساني مشترك بين المؤلف ، و المتلقي ، و يطرح هذا الصدق تساؤلات حول ماهية الخبرات الواقعية في النص بما تحويه من إغواء الانخراط المستمر فيما يحمله الواقع من جماليات الفن ، و كذلك بحث السارد عن تطور معرفته بالعالم انطلاقا من كونه مبدعا ؛ أي أن الصدق هنا ينبع من التحام أصيل بين تاريخ الفن ، و أحداث الواقع في وعي ، و لاوعي السارد .
و أرى أن الفنيات المتعلقة بتكوين ضمير المتكلم First Person Personal Pronoun هي أهم ما يميز نص (نساء و ألغام) ؛ فكل من الإشارات الخاصة بالمرأة ، و الفن ، و التأويلات السياسية ، و التجارب الحتمية تثري ضمير الأنا من جهة ، و تتغير ، أو تتضخم تبعا لشكل العلاقة النصية الجديدة به من جهة أخرى .
و يتطور ضمير المتكلم – فنيا – في النص انطلاقا من ثلاث نقاط :
الأولى : الالتباس الأول الكامن في الخبرات الكونية ، و الواقعية ؛ إذ تتميز ببكارة الوجود الفريد في وعي السارد .
الثانية : تحدث الحتميات نوعا من الزيادة المجازية في التطور المعرفي للأنا ؛ فهي تفجر مجموعة من العلاقات ، و الارتباطات الجديدة بين الدوال ، و الثقافات المختلفة ؛ و من ثم تتجدد حكمة السارد انطلاقا من قوانين الضرورة ، و درجة تحولها في عالمه الداخلي ، و انتقال تأثيرها إلى المتلقي .
الثالثة : تطور الأماكن ، و الشخوص في سياق التحامها بالوعي ؛ مما ينتج تفكيكا للواقع ، و ثوابته الأولى ؛ فقد تتجاوز التجربة أصولها البنائية الثقافية ، أو الواقعية انطلاقا من تداخلها مع الخيال الفني ، أو التناقض .
إن فؤاد قنديل يعيد رسم الأماكن ، و الشخوص من داخل فعل الكتابة ، بما يحويه من إعادة اكتشاف ، و ثراء دلالي ، و معرفي بالواقع ؛ فنحن نرى تناقضات الشخصية الإيطالية بين البهجة ، و العنف في كثافة جمالية لا يمكن فصلها عن خصوصية المتكلم ، و انحيازه للخفة ، و التواصل المرح مع الآخر ، كما يقدم لنا مدلول الحرية من خلال التزام إنساني داخلي في رحلاته إلى أوربا .
و قد تطور النظر إلى علاقة المكان بالقص الخيالي عند إيهاب حسن ؛ إذ يرى في كتابه (تجاوز التحليل النقدي) أن مدلول الخريطة يمثل مادة مغايرة في القصة المعاصرة ؛ فثمة شحوب للألوان ، و اختلاط الثبات بالفراغ ، و امتلاء الخرائط بالشكول الخيالية التي يتكشف عنها مستقبلنا (Read / Ihab Hassan / Para-criticisms : Seven Speculations Of The Times / Illini Books Editions / 1984 / p.100) .
هكذا يتداخل المكان في الوعي بالأخيلة المجازية في نسيج النص الروائي ، و يقدم لنا فؤاد قنديل مجموعة من المشاهد السردية في صحراء ليبيا ، و مصر يختلط فيها تكوين المكان المادي بالدلالات الجمالية ، و الكونية ، و أخيلة الكاتب ؛ مثل قمة الجبل ، و العواصف ، و لون الرمال الأصفر ، و غيرها من الصور التي تتولد من بنية المكان نفسه .
و يمكننا رصد أربع تيمات فنية في نص (نساء و ألغام) ؛ هي :
أولا : الوعي ، و تأويل الأحداث التاريخية .
ثانيا : تواصل ، و توقف .
ثالثا : التحول الإبداعي للإشارات الثقافية .
رابعا : الوظائف السردية من التسجيل إلى التعبير .
أولا : الوعي ، و تأويل الأحداث التاريخية :
الصوت الممثل للهوية الفردية في نص فؤاد قنديل لا يمكن فصله عن الصوت الجمعي المتعلق بالروح المصرية ، و المتميز بالإيجابية في تأويل الحدث السياسي ؛ فهما يلتحمان في العالم الداخلي للسارد ؛ إذ يشارك في بناء الحدث ، و إعادة تشكيله من خلال موقعه الفردي ، و التزامه في آن .
أثناء عمله في ليبيا عاين البطل لحظات المرح الجماعية مع العمال العرب ، و كان يتميز بالقدرة على تجديد الشعور بالتآلف في المواقف المختلفة ؛ مثل اجتماعهم على وليمة ، و رقصهم الجماعي ، و مزاحهم ، ثم غياب نزعة العداء التي كان يفجرها ميلود الجزائري ؛ فقد طار الجميع بعد نصر أكتوبر ، و تحرير سيناء .
لقد ذاب الشخوص في بهجة ذلك الصوت الإنساني الأصيل ، و المشترك ، و كأنه يسبق التحقق الفردي ، أو يلتحم به ، و يعيد تمثيله كلما اتجه المجموع إلى أصالة السلام الداخلي ، و نبذ التعارضات الزائفة بين الأنا ، و الآخر .
و قد تتجه تأويلات السارد للحدث السياسي إلى النقد النسبي لفترات ، أو توجهات بعينها في نهاية الستينيات ، و السبعينيات ، و الثمانينيات ، و تصب جميعها في التحام هوية البطل المثقف الفرد بالشخصية الفريدة للوطن ، و كذلك الروح الشعبية المميزة لأبنائه ؛ فهو ينحاز للديمقراطية ، و التحرر ، و الأصالة الثقافية للمحلي في السياق الحضاري العالمي ، و نبذ استعلاء الآخر ؛ و بقدر تحقق مثل هذه المفاهيم يتحد صوت السارد بالمسار الجماعي بوصفه جزءا من صيرورته الذاتية ، و الرؤية التي يشكلها وعيه ، و تجسد طريقة وجوده في العالم ؛ فحدث النصر تحول إلى أخيلة فنية تتمركز حول الطيران ، و الغناء ، و كأن التحرر الجماعي يقترن بانفتاح المشاعر الفنية ، و إحلال الروح الشعرية الكامنة في موقع حتميات العالم الخارجي .
و يعيد السارد قراءة الشخصية المصرية انطلاقا من تشكل فريد للإيجابية ؛ و رغم بحثه الدائم عن الأصالة الفردية انطلاقا من الطاقة الداخلية أولا ، فإنه ينتمي بصورة غير واعية لتلك الروح الإيجابية العجيبة المميزة للمصري البسيط .
يقول عن المصريين :
" تتعلق قلوبهم دائما بالأمل ، و قد قضوا أعمارهم ينتظرون ما لا يجيء .. مخلوقات عجيبة ، لديها ثقة لا نظير لها بالله ... فهم دون شعوب كثيرة لم يعرفوا معنى الرخاء ، و الوفرة ، معظمهم دائما في حالة تقف على تخوم الستر ، أسميها بالكاد " .
يضيف فؤاد قنديل – إذا - تصورا متجددا لذلك الثراء المعرفي المولد من استلهام ، و إعادة تمثيل تلك الشخصية عند أدباء ، و مفكرين ؛ مثل نجيب محفوظ ، و يحيى حقي ، و فؤاد حداد ، و صلاح جاهين ، و زكي نجيب محمود ، و جمال حمدان ، و غيرهم .
الإيجابية البسيطة المؤولة للمصري هنا تتجاوز الفراغ من داخله ، و تتعلق بوفرة كامنة في اللاوعي ، و تفجر حالة الانقياد للضرورة ، و تفكك مركزيتها ؛ فهي تجمع بين التوهج ، و الحلم ، و التوقف الدائري في تلك النزعة العملية الممزوجة بالخيال .
و ينحاز السارد إلى تلك العواطف رغم انعزاله الفني وقت تأملها ، و رصدها ، و كذلك ثقته المناظرة لها بأصالة الفرد كمنتج للتجدد الحضاري ، دون أن يفقد الانتماء للروح المصرية الفريدة . و قد تتجسد رواسب البساطة المصرية على لسان الكاتب في استرجاعه لقصائد صلاح جاهين ؛ مثل (المرافعة) ، و غيرها ، و فيها نلمح انحيازه للتساؤلات الإيجابية المميزة لمشاعر الأمل المباشرة رغم الأزمات في وعي ، و لا وعي المصري البسيط .
ثانيا : تواصل ، و توقف :
تنتمي المرأة في وعي فؤاد قنديل إلى رافدين رئيسيين ؛ هما :
الأول : البهجة ، و ترتبط بمدى التحام أخيلة الهو في اللاوعي بالواقع اليومي ، و الثقافي ؛ و من ثم فهي تنتمي إلى فعل الانحياز للحياة ، و تجددها على المستوى الجمالي .
الثاني : التباس حضور المرأة بالمخاوف ، و العقاب ، و قسوة الحتميات ؛ و من ثم يهرب البطل من استمرارية تعلقه بها ؛ فهو ينحاز إلى الأخيلة الجمالية النابعة من مدلول الأنوثة ، و ليس الانخراط في تجربة واقعية عميقة .
لقد اهتم السارد بالشكل الجمالي لنقوش الحيوانات البحرية ، و الطيور التي رسمتها ماري اليهودية – في إيطاليا – على جسده ، دون أن يكمل تجربته الواقعية معها ، حين أحاطت به المخاوف من غموضها .
السارد يعيد رسم ماري انطلاقا من اختلاط الأساطير ، و الأخيلة الفنية بمشاعر الهو الغريزية القوية ؛ فهو لا ينساق وراء تلك المشاعر بشكل مجرد ، و إنما يعيد تكوينها جماليا من خلال نسبية الموقف السردي .
و يقرأ البطل شخصية الطفلة المتوهجة الإيطالية / تينا من خلال تمثيلها المجازي لبكارة الطفولة ، و بهجتها من جهة ، و تجسيدها لروح المرح المعبرة عن الثقافة الإيطالية ، و رواسبها الجمالية في أسرة والدها روبرتو من جهة أخرى .
لقد توقف السارد عند عتبة الرغبة في علاقته بتينا ، و أبدى انحيازه لحب والدها للمرح ، و الجمال ، و الحياة ، و لعنته المتكررة للموت .
ثمة لقاء سري يجمع السارد بروبرتو الخارج على الحتميات ؛ و هو الرابط الإنساني ، و الفني الخفي بداخلهما ، و كأن روبرتو قد قفز من لا وعي البطل ؛ ليقوض مخاوفه ، و يعزز من بهجة الجمال انطلاقا من فكرة الانحياز للتجسد في ثقافته القديمة .
و تمثل كلوديا صراع الجمال مع حسابات المصالح ، و الصراعات الاقتصادية في المجتمع الحديث ؛ و لهذا يتعاطف السارد مع قيمة الجمال الأنثوي بداخلها ، و ينحاز لقيم الحرية الفردية المناهضة لأحداث العنف العبثية التي تعرضت لها بسبب أخيها دون جيوفاني .
تنتمي المرأة – إذا – في النص لاختلاط الهو بالدلالات الجمالية ، و الثقافية ، و المخاوف اللاواعية القديمة التي لازمت الاختلاف التكويني بين الرجل ، و المرأة ، أو الذكورة ، و الأنوثة التي ترتد في نص (نساء و ألغام) إلى المجاز الفني .
ثالثا : التحول الإبداعي للإشارات الثقافية :
تتسم الإشارات الثقافية ، و الفنية في نص فؤاد قنديل بالديناميكية ، و التحول الإبداعي الذي يقع في مساحة بين التداعيات النصية التي يحدثها فعل الكتابة ، و الطفرات الاستعارية المولدة من أثر تلك الإشارات في الواقع ، و يقوم ضمير المتكلم بدور الوسيط الفعال في تكوين مساحات جديدة من العلاقات بين الفن ، و الثقافة ، و الحياة .
لقد تحولت حكايات شنق الليبيين على يد الإيطاليين في وعي السارد – أثناء إقامته في العجيلة – إلى أطياف تجسد الموت الصاخب تحت السيارات ، و المرح الذي ينبع من الكينونة التمثيلية الجديدة التي اكتسبتها في اللحظة الراهنة .
الأطياف تشير إلى مقاومة الموت ، و أصالة الحكايات الإبداعية ، و تفكيك مركزية الإبادة من خلال الدلالات الثقافية لفاعلية المجاز في الواقع .
و قد تتحول خلفيات السارد المعرفية عن روما بما تحويه من تراث العشق ، و التدين ، و بدايات النهضة ، و البهجة ، و العنف إلى طاقة إبداعية / إنسانية ، و فردية تجدد عالمه الداخلي ، و كأنه يعاين بكارة الوجود الحداثي ، و تناقضات التراث في المدينة العريقة .
يقول :
" اغسليني يا روما ... خذيني بين أحضانك . اغمريني في منقوع جسدك . اسقيني من رحيق عرقك ، و فوح مشاعرك ، و عبق قصصك الفاتنة . عليميني كيف أكون عظيما مثلك " .
روما أنثوية في وعي السارد ، و كأن المدينة اكتسبت التجسد الجمالي للأنثى من خلال استعادة وهج أدبها ، و تماثيلها ، و صخبها ، و عظمتها الإنسانية في وجود آخر متجدد داخل السارد .
و يستدعي السارد أوبرا (دون جيوفاني) لموتزارت في سياق لقائه بجيوفاني أخي كلوديا في إيطاليا ، و قد فرح الأخ بذلك الارتباط اللغوي ، ثم توالت مجموعة من الأحداث في النص تشير بصورة غير مباشرة إلى الفاعلية الصاخبة لتلك الإشارة الثقافية للأوبرا .
و أرى أن النص يؤسس – في تداعياته – لعلاقة غير مباشرة ، و جديدة بين حكاية الأوبرا ، و حادث اختطاف كلوديا على يد منافس لأخيها يدعى ألبانو ، ثم انصراف السارد عن علاقته بها .
يميل دون جيوفاني في الأوبرا إلى العلاقات النسائية الكثيرة ، و يجيد القتال ، و التخفي ، ثم يذهب إلى الجحيم مع تمثال ، أو شبح لوالد فتاة كان قد قتله من قبل .
إن دلالات الاختطاف الصاخبة ، و الرعب المولد عن العلاقات النسائية ، و اختلاط الحب بالقتال ، تميل – نصيا ، و ثقافيا – إلى التحول الإبداعي في عنف الاختطاف ، و توقف السارد عن الحب ، و الصراع المستمر بين مرح روما ، و عنفها .
رابعا : الوظائف السردية من التسجيل إلى التعبير :
تتمركز الوظائف السردية في (نساء و ألغام) في محورين ؛ الأول البطل المتكلم ، و ما يرويه من خبرات فنية ، و حياتية ، و الثاني الظواهر الجمالية الفريدة التي تتنامى في وحدات النص السردية ؛ لتمنحها حضورا تعبيريا جديدا .
يبدو هذا واضحا في تحول تكوين العاصفة الرملية التي عاينها السارد في طريق عودته إلى مصر إلى فضاء تشكيلي تعبيري يتمركز حول دلالات اللون الأصفر .
يقول :
" خلال دقيقة لم أعد أرى شيئا غير عالم أصفر بلا ملامح .. لم أعد أرى زجاج السيارة ، و لا أرى شيئا في المرايا ، و لا أعثر على وجهي ... تحولت الحياة ، و الموت ، و التفكير ، و الحب ، و الندم ، و الصبر ، و الأشواق إلى اللون الأصفر " .
لقد استحالت الوحدات السردية هنا إلى مجموعة من الوظائف الجمالية المتنامية خارج التسلسل الواقعي للحدث ، حتى صار المتكلم نفسه جزءا من تداعيات الطمس التي جسدها اللون الأصفر في كثافة صاخبة ، و طيفية ؛ لأنه استثناء ، و لكنه أيضا يشير إلى الصيرورة ، و إمكانية التحول ، و الانحراف دائما عن المنطق ، و المسلمات في أي بنية حكائية .
إن الجزء الثاني من سيرة فؤاد قنديل يذكرنا بأصاله الهوية ، و تفاعل الثقافات الإنسانية ، و صخب الجمال في الواقع التسجيلي ، و العالم الداخلي للأنا .
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا