الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب ... مدجنون

عبد جاسم الساعدي

2010 / 12 / 5
مواضيع وابحاث سياسية



اندهشت مرتين الأول: حينما اتصل بي هاتفيا صديق ليخبرني بان الروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي قد خرج على المألوف في شهادة أدلى بها في الملتقى الثاني للإبداع في ليبيا ، والثانية: حينما قرأت بلهفة تلك الشهادة، فأيقنت إنها يقظة وعي وانتفاضة ضمير ينزع نحو التحرر من كابوس الزيف والعبودية، الذي طالما خرب العقول وشوه الحقائق بإصرار وسبق معرفة، ونفخ في بوق حلقة (الديكتاتور) حتى عد نفسه عظيما لا يجارى في كل الميادين، فانعكست صور المسخ على زمر المثقفين قبل غيرهم،باعتبار ان "الأدب"جزء من مقومات السلطة، خاصة إذا كانت "عربية" متخلفة تبحث عن إضفاء صفات البطولة والكرم والتفوق على الغير، من خلال بعض الأدباء الذين فقدوا حريتهم وأصبحوا أداة ذليلة لا تقوى على الوقوف بطول قامتها أمام "الديكتاتور".
يقول الربيعي في شهادته..."إننا ككتاب عرب مدجنون بشكل جيد وكل ما نملكه هو ما يمنح لنا من بركات من نكتب عنهم ونكبر لهم وإننا بدونهم ستأكلنا الكلاب، هذه هي المسألة فأي حديث عن الحرية في إبداعنا وكيف سيكون؟".
يلقي الربيعي شهادته أمام حشد من المثقفين العرب في ملتقى (الإبداع) الثاني وهو بذلك يسقط أهم شروط الإبداع اعني به الحرية، ولعل ذلك يبعث السؤال من جديد في ضرورة البحث عن علاقة الأدب بالدولة، عن النزعة الديكتاتورية والفاشية في الأدب العربي الحديث، ولهذا السؤال مايبرره في أكوام الإصدارات المزخرفة التي ترعاها الدولة وتصرف عليها ولأصحابها الأموال الطائلة بسخاء عربي لم يشهد له مثيل إلا في عصر معاوية وعبد الملك بن مروان . ولا يعني الربيعي في شهادته نفسه فحسب، بل يدين ذلك الجمع من المرتزقة المدجنين الذين تخلوا في زمن الركود السياسي عن قضاياهم الأساسية حتى صاروا يتدافعون على موائد (الديكتاتور ) وعطاياه الجزيلة.
وأظن ان الربيعي لا يعني سوى كتبة الدولة وأدواتها المقهورة في أرجاء الوطن العربي وما أكثرهم. بل ما فتئ غيرهم ينتظرون حتى تتوافر فرصة الانضمام إلى قوائمهم.
والربيعي يدرك جيدا ان الوفاء للضمير والحس الإنساني وشرف الكتابة وللتاريخ أيضا قد كلف عددا كبيرا من المثقفين العرب لأن يضحوا بحياتهم أو أن تغيبهم السجون ومحطات النفي والتشرد خير من ان تنهشهم الكلاب إذا ما فارقوا أولياء نعمتهم.
ولعل شهادة الربيعي الجريئة توقف تداعي وانبطاح المنظمات والمؤسسات الثقافية العربية حول أقدام (الدولة وديكتاتورها)، وهي التي ما فتئت تدعي "التقدمية واليسارية" في برامجها، بحيث اختلط ما يسمى بالأدب الرسمي والأدب الشعبي.
انِّ ظاهرة الركوع للدولة والتهافت على ملذات العيش في كنفها لم تكن جديدة في الأدب العربي، بل هي قديمة قدم الصراع نفسه، لكن تلك الظاهرة كانت تتقاطع بأدب مضاد ينمي فعل المقاومة ويفصح عن معاناة وصدق تجربة سواء أكان على المستوى الفردي او الجمعي، مما كان يتمناه "الممدوح" دون ان يقع في حضرته، لأنهم كانوا بحكم معرفتهم وتذوقهم للأدب يميزون بين الغث منه والجيد. لهذا نجد عبد الملك بن مروان مثلا يلوم شعراءه بقوله: يا معشر الشعراء، تشبهوننا مرة بالأسد الابخر ومرة بالجبل الاوعر ومرة بالبحر الأجاج، إلا قلتم فينا كما قال ايمن بن خريم في بني هاشم.
نهاركم مكابدة وصوم وليلكم صلاة واقتراء
وليتم بالقران وبالتزكي فأسرع فيكم ذلك البلاء
أأجعلكم وأقواما سواء وبينكم وبينهم أهواء
وهم ارض لأرجلكم وانتم لأرؤسهم وأعينهم سماء
أما بعض الكتاب العرب اليوم فأنهم يشتغلون على ايقاع ذليل خانع، يرقصون فيه على أشلاء ضحايا الديكتاتور، ويتبادلون أنخاب الزهو المر في حضرته، ان تكرم يوما عليهم بطلعته، إنهم ولا شك، يسهمون ببناء النزعة الديكتاتورية ويتحملون تاريخيا مسؤولية أعمالهم من خلال إشادتهم بالديكتاتور حينما يضفون عليه – تزلفا- سمات البطولة والمآثر الوطنية والقومية والابتكارات العلمية، ويختلقون الأدلة والنظريات التي يتميز بها عن سواه، ويتغافلون عن قصد- وهم في معظمهم- نقاد ينيويون واجتماعيون محدثون عن فزع كتابه وهلعهم، حتى اذا ما طالعت ديوان واحد من شعرائه أحسست بمدى القهر الذي أصابه، وفيما اعلم، لم يبلغ شعر المديح في اي عصر من العصور ما بلغه اليوم، لا لشيء إلا لان شعراء المديح القدامى كانوا يضعون فواصل بينهم وبين الممدوح، كأن تكون (القبيلة أو الناقة أو الخمرة أو أنا الشاعر) يراوح فيها بين المدح والفخر بنسبه وأدوات حياته.
غير ان كاتب العرب اليوم اندغم مع سلطة الديكتاتور حتى عد واحدا من حاشيته، فاقدا بذلك حريته، وليس مؤهلا أصلا للوفاء بشروط الكتابة الحرة، التي هي لحظة إبداع خاصة، يمارس فيها الكاتب طقوس حريته.
لذا نجد ان الخروج على (الديكتاتور) او التقاطع معه ليس أمرا هينا لمثل تلك الفئة كما تؤكد شهادة الربيعي.
يذكر في هذا الصدد صاحب العقد الفريد، ان زيادا قال لأصحابه: من اغبط الناس عيشا؟ قالوا: الأمير وأصحابه، قال: كلا: ان لأعواد المنبر لهيبة، ولقرع لجام البريد لفزعة، ولكن اغبط الناس عيشا رجل له دار يسكنها وزوجة صالحة يؤوي إليها في كفاف من عيش، لا يعرفنا ولا نعرفه، فان عرفنا وعرفناه أفسدنا (عليه) آخرته ودنياه.
وقال الشاعر:
ماذا تريد بقوم ان هم غضبوا جاروا عليك وان أرضيتهم ملوا
فاستعن بالله عن إتيانهم أبدا ان الوقوف على أبوابهم ذل

وقال آخر:
لا تصبحن ذوي السلطان في عمل تصبح على وجل تمسي على وجل
كل التراب ولا تعمل لهم عملا فالشر اجمعه في ذلك العمل
وبعد، يستطرد الربيعي في حنظل شهادته عن علاقة الكاتب بقرائه يقول: " ان الكاتب عندما اختار ان يكون كاتبا فانه يريد لكلماته ان تصل للناس ويعمل جاهدا من اجل ان لا يخون قراءه او يغري بهم او يكذب عليهم، لكن الواقع العربي يجبره على ان يخون ويكذب، وبمرور الأيام يمتلك صلافة أن يجعل من كذبه صدقا وخيانته انتصارا وفخرا..."
أقول كم تمنيت ان يجمعني والربيعي لقاء – بعد ان قرأت شهادته – لنتحدث معا عن زوايا الكذب والتضليل في أعماله الروائية، لا لكي يزال اللبس والغموض من أذهان القراء فحسب، بل لكي تنفضح لعبة الدجل الذي مارسه ولسنين عدد من الدارسين والكتاب العرب الذين تناولوا أعماله الروائية وهم كثر!، لأقول كما قلت في كتابات سابقة:
لماذا أقحمت جابر الموصلي في زاوية باهتة من زوايا رواية (الوشم) وهو الذي يتصل بفكر النظام الذي قمع بطلها (كريم الناصري):
جابر... سأبقى هنا، ان حزبنا يعيد تجمعه من جديد، ولن أتخلى عنه أبدا.
كريم... كل الذي أتمناه يا جابر ان تعودوا ثانية وربما أعود بعودتكم.
فانتم التفاؤل الذي أضعناه.... الرواية ص7
وها أنت تعود ثانية وتصدر، رواية (الوكر) التي تؤكد سلطة النظام نفسه وتعززه بأسلوب مفكك، يدرك القارئ العراقي، أسرار بناء تلك الرواية وأهدافها السياسية قبل غيره من القراء العرب، اذ جعلت من شخوصها، صادق ومحمد وهمام وعماد- (المراهقين سياسيا)- مناضلين يحملون لواء الثورة والتجديد، فكيف سمحت لنفسك ان تجعل من صادق (الكاذب) بطلا من أبطال "الوكر" يقول صادق: بشرفي دخلت وزارة الدفاع بعصا لم يكن في يدي ما احمله غيرها وبها واجهت الرشاشات والدبابات-الرواية ص7.
أما ماذا يقول كتاب النقد العربي في رواية (الوكر) فتلك كذبة اكبر كما صاغها الكاتب (احمد محمد عطية)... تصور رواية "الوكر" مجموعة من الشبان والمثقفين المناضلين في مرحلة الجزر العربي... والبطولة الحقيقية في الرواية معقودة لقيم النضال الايجابية ويمدهم نشاطهم الثوري بقوة التحدي والمقاومة وبالمشقة في المستقبل وإمكانية انتصار الثورة...).
(مجلة دراسات عربية العدد 6 ص 133)
وسؤال آخر، اهمسه همسا في أذن الربيعي، وهو، لماذا لم تجعل من "إسماعيل ألعماري" في رواية (الأنهار) بطلا يتمتع بحريته في روايتك ويعبر بصدق عن معاناته، وهو الذي افتتحت به الرواية وختمتها وأظنك قريبا من تجربته ، ألانه يتقاطع مع النظام وقد ضحى بحياته؟ أم لان بطولته تخرج الرواية عن وظيفتها؟! ومهما يكن فشهادة الربيعي ذات بعد إنساني جميل، تزحزح كابوس القهر وتخرق قيود الذل والاستعباد، ولعلها ستستفز مشاعر الكتاب الآخرين في ان يحذوا حذوه ويعيدوا للكتابة وظائفها المفقودة.



جريدة الطريق المغربية، العدد 39 من 27-2 شباط 1990*
نعيد نشر الموضوع من دون حذف او اضافة او تعديل لاهميته الادبية والثقافية في مواجهة ثقافة السلطة وزمرها المتتالية على مر العصور والازمات....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فـرنـسـا - أفـريـقـيـا: هـل طـويت صـفحة الوجود العسكري؟ • فر


.. أولى مناظرات الانتخابات الرئاسية الأميركية 28 يونيو 01:00 GM




.. بوتين قد لا يتوقف عند أوكرانيا..ما هي الدول الأخرى التي قد ي


.. حسن نصر الله يراهن على اللبنانيين -كسلاح-... وإسرائيل تعلم م




.. أبرز ما جاء في مقابلة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال ه