الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحت سماء الثلج...خلود المطلبي تجربة متفردة بين الشاعرات والشعراء...قراءة نقدية لديوان تحت سماء الثلج

أماني أبو رحمة

2010 / 12 / 5
الادب والفن


سماء رمادية وثلوج كثيفة تتساقط برتابة... على الطرقات ، تزعج أسراب الطيور الغافية على قمم الأشجار ، تتوقف الحركة تماما ... والثلج يطرق البوابات والنوافذ والأسوار، ويغطي السيارات والإشارات وعلامات الطرق ولوحات الإعلانات ... كلها تكللت بالبياض . يزحف الليل ثقيلاً، يجرجر خلفه نهاراً كئيباً اختفت شمسه لأيام...... والشاعرة أمام المدفأة تحتسي شايها المعطر وتراجع مجموعتها قبل أن تدفع بها إلى دار النشر .
الثلج جمود الحياة وحياد العاطفة ، وحين يتحرك الثلج يمد اذرعاً كسولة تخترق كتلا ثلجية أخرى وتكون كومة ثلج هنا أو هناك . حركات بطيئة و كسولة و مدروسة ، ولكن العواطف حتى في أشد حالاتها ثباتاً وسكوناً تكون سريعة الحركة ، و قابلة للاستثارة ، والظهور على السطح: انفعالات أو ردود فعل عنيفة أو هادئة ، ولكنها متحركة .. دائمة الحركة، مهاجرة من مكان إلى آخر، لا تعرف قراراً أو سكوناً. وكل التمويهات محاولات فاشلة لعاطفة طائشة تغطى هيجانها أو عجزها.
ولكن لماذا اختارت شاعرة متقدة المشاعر ، مسكونة بالدفء ، مؤثثة بالعواطف الشجية ـ مثل خلود المطلبي ـ الثلج عنوانا لمجموعتها الشعرية ؟ وما علاقة العنوان بقصائد المجموعة المتنوعة الأغراض ، العميقة المقاصد ؟
قصائدها المفعمة بالحركة تخالف سكون الثلج ، إنها ليست قصائد شتائية بحال . ولكنها هادئة ، محسوبة الخطوات ، رشيقة ، تتنقل كقطة تحت سماء الثلج تبحث عن كانون في مكان ما . قصائد مقنعة، ماكرة، أجادت التنكر وهي تخفي خلف هدوئها السطحي أعماقا مثقلة بالمشاعر، والتاريخ، والمعاناة، والقيود.
وإذا أردنا أن نربط عنوان المجموعة بقصائدها فلا بد لنا أن نبحث في الديناميكيات الداخلية التي ولدت هذه القصائد بوعي الشاعرة أو لا وعيها ، والتي وشت بها القصائد ذاتها حين غادرت روح الشاعرة إلى الورق . ولأن القصائد والمجموعة درست على عجالة وربطت المجموعة كلها بحياة الشاعرة : طفلة في العراق ثم امرأة مؤثثة بالشعر في لندن ، دون أن تبحث في الديناميكيات الداخلية الفوارة في أعماق الشاعرة ، فقد رأيت أن تكون تلك الديناميكيات الداخلية في نفس الشاعرة ، والمنعكسة على بنية القصائد ومفرداتها مدخلي إلى قصائد المجموعة .
تضرب الديناميكيات الداخلية للشاعرة أطنابها بعيداً في التاريخ وهي تحمل تاريخاً مثقلاً بالأوجاع مريراً ، خلف في نفسها شعوراً بالذنب ممزوجاً بالمرارة والعجز , و أثقل روحها بالخطايا التي لم ترتكبها . خطايا جمعية مست روحا شفافة تائقة للتحرر والإنعتاق ، فوجدت متنفسها في شاعرية عالية ، وتلاعب متقن بالكلمات ، لتنعكس الديناميكية الداخلية ديناميكية خارجية : قصائد ذات موسيقى رائقة ، وصوراً حية ، وخيالات مفعمة بالحركة ، ومشاهد مسرحية ، وحكايات خرافية كالأساطير التي شكلت وعينا الجمعي في منطقة من العالم تاريخها أعمق من طبقات الأرض .
ويمكنني أن ألخص خطايا البشر والتاريخ التي ورثتها الشاعرة و غذت الديناميكيات الداخلية في روحها والتي لا يتفاعل معها إلا من يجيد الإصغاء إلى هسيس الروح بـ :
1) الفكر الإسلامي الشيعي 2) والاغتراب الطوعي أو القسري ـ لا فرق 3) والأنوثة التي ورثت الخطيئة الأولى مع كل نساء الأرض .
في قصيدتيها إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والى المؤمل المنتظر عجل الله فرجه تبوح الشاعرة بثقل الخطيئة التي ورثها المسلمون جميعاً، وكانت عقوبتها ضياع هيبة الإسلام والمسلمين إلى قيام الساعة. لعنة ارتكبتها قلة ولكنها أصابت جموعاً . إنها خطيئة استشهاد الحسين عليه السلام . تلك الخطيئة المروعة التي لا يشبهها في التاريخ إلا مقتل النبي يحيا عليه السلام . هز المشهد الدموي المروع للمسلمين قاطبة ولكن الحادثة شكلت حجر الأساس في الفكر الإسلامي الشيعي بالذات ، والشاعرة التي تغلي في أعماقها دماء الواقعة الرهيبة تعبر عنها شعراً متخماً بثقل الخطيئة ، فتجد في البوح الشعري راحة الضمير ، أو عذاب العجز ، ولكنها تنتظر فرجاً قريباً وترسم أملاً يخفف من لوعة الألم في أعماقها :
((أنبي غيرُ المختارِ؟ ، العشق بوديان الروح ، اخضَرَّ حدائق غناء ، حب الزهراء وأبيها ، وعليٌ بعلها وبنيها ،ينثالُ بكثبان الروح ، ينساب بكل صحاريها ، الحب تدفق مدرارا ،كالغيمة سحت أمطارا ، والكون لأجلهُمُ خُلقا ،والحق يدور كما داروا ......))
(( أشعلت الشموع وانسكب السحر، ملائكة احتفال، يتخطفني عيد ميلادك، موعداً للسرور... وآخر للظهور، تواشيحَ انتظار وترقبْ، ابتساماتٌ، ومسراتٌ يتسلقها الشوق، المنتظرُ الموعودُ
المنقذُ أنتَ ، لن يكمم فمي ، ولن أتشبث بالرحيل... لماذا؟! ، لأنك الحاضر... الغائب، سيدي ومولاي... الآتي قريباً ،قريباً جداً ،متى؟ ...متى؟... يلج السؤال ....... ))
أما الاغتراب عن الوطن فهو الخطيئة الأخرى التي تعتمل في نفس الشاعرة، وتطفو على السطح قصائد متفردة في الفكرة والأسلوب. فالشاعرة وريثة حضارة عميقة، حضارة ما بين النهرين الخالدة. وهي في موضع تمن فيه على البشرية جمعاء . إنها سليلة حضارة علمت البشر الكتابة والشعر والموسيقى . وهي ترى نفسها حفيدة الشاعرة الأولى الكاهنة الأميرة انهيدوانا التي كتبت الشعر قبل أن تعرف البشرية الأبجدية ، ولكن خلود المطلبي أجبرت على ترك هذا الوطن والعيش بعيدا. فهي منزوعة الجذور ، غريبة ، تسير في طرقات لا يعرفها فيها أحد . فكيف احتالت على الأمر ؟ تلك الشاعرة الذكية الواسعة الخيال ؟ لا يكفي أن تحلم أنها أميرة الشعر السومري ، أو إحدى ملكات أو ربًات تلك الحضارة العريقة ، ولكنها تترجم الشاعرة أحلامها قصائد ، والحلم والشعر وجهان لرغبات الروح . و تكشف الشاعرة صراحة عن رغبة في أن تسير في شوارع المدينة الضبابية ـ حيث منفاها ـ وأن يشير إليها الناس : السيدة ....من العراق . لذلك فإنها لا تتردد في أن تتقمص شخصية أحدهم، وتكتب لنفسها قصيدة ـ وهي حالة نادرة في الشعر. أن يراقبها رجل ما ، ويناديها بما تحب من ألقاب فيسكن شعورها بالذنب والمرارة ، وتهدأ روحها وهي تطوي قصائدها مختالة في شوارع المنافي الباردة ، فقد أرسلت للكون رسالتها :
((يا ابنة أوروك ...أيتها المرأة التي تشعل صباحات شموعها ، في دمى الليل المحنطة ، أراك تقفين بانتظار قطار بوند ستريت ، وقد أدهشتك ستائر الثلج وكثرة العصافير، التي تريد الفرار لعتمة الفضاء ،أحدق فيك وأنت تحملين نضوج براءتك ، بين جزر الغيوم وارتعاشات أوراق النزق ،وقصائدك التي كتبتيها كما لو كنت انهيدوانا ، قصائدك التي احتوت توسلاتك الموسيقية،وأغنيات السلام التي لم تتمكن من الخروج من شفاه الصيف ،بل ظلت حبيسة أفيون الأرصفة )).
((ملكة مسوبوتاميا العاشقة ، تعبر تلك الغابة ،مغمضة العينين ، فرّ الوطن المعشوق من بين يديها ، وهي تفرُّ الآن ،من الوطن العاشق ،مغمضة العينين ستمشي ،بدثار محطات البرد ، وهي تمرُ بطيئة ، بشوارعها البلهاء .....)).
وانظر مثلا إلى صورة أكثر وعياً وأشد وضوحاً:
((ليظن الرجل الذي راح يراقبني طوال الليل، ويبدي إعجابه بابتسامات وقحة، بأنني ابنة إحدى الممالك السالفة، وأن الاحتفال الذي أقيم، كان على شرف سلالتي البهية، ولذلك تسابق الجميع لإرضائي )).
الشاعرة التي غادرت الوطن واحترفت النوستالجيا لن تغامر أبداً بالعودة إليه حتى لا تفقد لهيب الحنين الذي يتفجر قصائد ، تغذيها ديناميكية الإحساس بالخطيئة والندم . وكلما أوغل الوطن في التردي ، كلما اختفت صورته التي تنشد ، فتوغل في الغياب ناراً تؤجج ديناميكياتها الذاتية وتطرحها قصائد من حنين :
((ما يقلقني ، هو انكَ ماض بنهاياتي ،وأنا عالقة ،عالقة بأبدية هذا الافتتان...))
أما الخطيئة الثالثة التي تحمل الشاعرة أوزارها، وتشكل مع سابقتيها الديناميكيات الداخلية التي انعكست قصائد.. فهي كونها أنثى. الأنثى التي حملت وزر الخطيئة الأولى. خطيئة البشرية جمعاء، ولم ينقذها تبرئة الله لها من فوق سبع سماوات (فعصى دم ربه فغوى ). ذلك أن الفكر الذكوري المتوارث منذ النزول الأول إلى يومنا هذا ، يصول ويجول ليعمق إحساس النساء بالخطيئة والدونية والتبعية. واجتهدت التقاليد والعادات في قمع هذا المخلوق ، ومارست الأمم والشعوب عنفاً رهيباً على جنس النساء لأنهن نساء فحسب . وقد يقول قائل أن الأمر مقتصر على الشرق وبيئته ، وأن الشاعرة التي سكنت الغرب منذ صباها لا بد وأنها قد تخففت من تلك الأعباء . ولكنني أقول واثقة أن مساهمات الغرب في قمع المرأة وتعزيز شعورها بالدونية لا مثيل لها في التاريخ الإنساني . فعدا عن اشتراكه في الترويج للخطيئة الأولى ، جهدت نظريات الحداثة في تعزيز سطوة الذكر الأبيض ، وكان فرويد وداروين ونيتشه رواد نظريات هذه الدونية . و جاءت ما بعد الحداثة رد فعل على الحداثة الطاغية، واهتمت ـ كما ادعت ـ بالهامش على حساب المركز ، وجعلت النساء وتمكينهن ضمن أولوياتها . ولكنها فشلت فشلا ذريعاً بسبب أطروحاتها الهشة ، و لم تصمد أمام تاريخ موغل في المهانة والدونية . ذلك عدا عن أن تناقضاتها التي لعبت دوراً بارزاً في هذا الفشل. ذلك أنها سلًعت البشر والثقافات ، وألغت الذاتية والاستقلالية ، وهدمت مؤسسة الأسرة ، وساوت الثقافة الرفيعة بالدونية ، واهتمت بالجسد على حساب الروح ، وهمشت العقل والعقلانية فضاعفت هموم النساء من حيث تدري أو لا تدري ، حين جعلت قدوتهن نيكول كيدمان ورفيقاتها في هوليود . والنتيجة أن القمع الجسدي و الفكري تحول إلى قمع من نوع جديد: امرأة كان من المحرم عليها أن تبوح شعراً أو نثراً ، وأن تصرح بعاطفة من أي نوع حتى عاطفة الأمومة والأخوة والرفقة والصداقة ـ عدا عاطفة الحب والرغبة ، إلى امرأة تعاني خواء الروح والعقل و تدلق جسدها على الورق وشاشات العرض وخشبات المسارح والإعلانات التجارية . فضجت الساحة بالكاتبات اللواتي لا همًَ لهن إلا عرض رغبات جسدية خارج أي سياق فكري أو اجتماعي أو إنساني. وانبرت ما بعد الحداثة التي اجتاحت ـ بفضل العولمة وأدواتها ـ العالم كله لتكريمهن والاحتفاء بهن ، حتى أصبحت هذه الكتابات موضة الأدب ، وكلما أوغلنا في التطرف كلما اقتربن من التكريم والاحتفاء الذكوري ، الذي عزز هيمنته مجدداً بشكل لم يسبق له مثيل في المجتمع وسوق العمل والعلاقات العاطفية.
تحدثنا الشاعرة عن القمع الذكوري الأحمق في قصيدتها ( لعبة ) لتقول لنا أن للقهر وجه رجل ، وأن البراءة الملطخة بدم خطيئة لم ترتكبها هي ضحية القهر . ولا عزاء لطفلة دخلت بيت الرجل المهيمن عروسأً . تقول في قصيدتها (لعبة ) :
((المعادلةُ ولدت مُختلّة ،سجّاناً بوجهين ،وقطةً مغريةً لحقل تجاربْ ، كلما أطلقت ساقيها للريح تعثرتْ ، نزف أوردة لقصيدة ،ما كتَبَتها الّا ليتخطفها الشيطان ،على هودج من نسيج الشمسْ في البعيدِ...البعيد ،هناك ........................وقصائدها الُمدمّاة بسادية الاحتفال ،الطقوس نفسها والكاهن نفسه ، يراقبها ،كل ليلة تتشظى ،ليجمع شظاياها ،ويعيد اللعبة))
ولنتأمل براعة التعبير والإيجاز والتلخيصات التاريخية والاجتماعية التي يتضمنها هذا المقطع من القصيدة . :
((الطقوس نفسها والكاهن نفسه ، يراقبها ، كل ليلة تتشظى ، ليجمع شظاياها ،ويعيد اللعبة ..)).
تؤكد الشاعرة إذا أن القهر أزلي متوارث ، شرقي غربي ، بل و كوني أيضاً . وفي قصيدتها (لا صكوك غفران لمن هم مثلي ) نجد أن الضحية أكثر بوحا وألما. والشاعرة ـ التي خبرت الحضارتين عن ظهر معايشة طويلة ـ هي الأقدر على صفع وجه التقاليد البالية بتعبيرات أقل ما يقال عنها أنها باذخة الشعرية والحساسية :
((بالطبع لم يصدقها أحد، أمي أغلقت الباب بسرعة، لكي لا تهرب القصائد،أو تموت على الأرصفة ،والغريب أن (هوبكنز)، وافقها الرأي ،وتوقف عن إعطاء المزيد من ،صكوك الغفران ،خصوصاً لمن هم مثلي )) . فالأهل من الشرق ، ولكن هوبكنز شاعر وكاهن انجليزي لن يمنح هو الآخر صكوك الغفران لامرأة مظلومة .
والشاعرة مثلها مثل نساء الأرض قاطبة ـ ولا استثناء هنا ـ تعاني مثل ما يعانين من جدلية البوح العاطفي، وإفشاء أسرار العلاقة بالآخر الذكر، ولكنها وهي البارعة في الاحتيال الشعري تكتب مشاعرها برمزية محترف. توظف الرمز وتغلف الصور بأوراق السولفان المبهر ، فلا تخدش حياء ولا تبتذل عاطفة ، تنقي بيادر قصيدتها من الكلمات النابية فلا وصف صريح للجسد ، ولا للممارسة ، ولا ابتذال في الطرح ، علماً بأن المجموعة تضج بنصوص ايروتيكية ، ولكنها رقيقة هادئة بارعة الصياغة والحبكة . فضلاً عن أنها أبعد ما تكون عن الرومانسية التقليدية الغارقة في السوداوية ، والمتعلقة بالطبيعة ، والمفرطة في تناول موضوعات الموت والحياة والمرض والانتحار واليأس والفناء . فالشاعرة امرأة عصرية معتدَّة بنفسها ، واثقة من خطواتها وقدرتها ، تسير في دروب الإبداع ولا تخشى مساربها ومتاهاتها . ولذلك فإنني لا اتفق مع من يطلق عليها وعلى قصائدها أوصاف الرومانسية الحالمة . وربما كان من المفيد هنا ـ وقبل التعرض للتقانات التي وظفتها الشاعرة في نصوصها العاطفية ـ أن نعرج على الفرق بين الإباحية والايروتيكية والرومانسية .
إن الخط الذي يفصل الرومانسية عن الإيروتيكية، و الإيروتيكية عن الأدب الإباحي خط رفيع قد يصعب الحفاظ عليه. فضلا عن أن وضع تعريف مطلق لأي من هذه المصطلحات قد لا يكون أمرا سهلا ، لأن الحدود والتخوم بين هذه المناطق الثلاث غالبا ما تتداخل .
إن تصنيفنا لأي فن أو أدب بوصفه ايروتيكي أو إباحي يعتمد على عوامل عديدة ، ويتضمن التوجهات الثقافية السائدة . ففي مقالتها الشهيرة بعنوان (اختلاف واضح حاضر) وضعت غلوريا شتاينيم ما عدّه الكثيرون فروقا جوهرية بين الأدب الإباحي و الايروتيكي. إذ عادة ما يكون الأدب الإباحي نمطا خاصا من السرد أو إنتاج الصور التي تشيّء وتسلّع جسد المرأة. إنه طريقة خاصة لأسلبه الجنس. كما يلعب الاحتفاء بجسد المرأة دوراً في تميز الأدب الإباحي عن الكتابات والصور المرئية التي تعرض الجنس صراحة. إن حالة النص الإباحية لا تعتمد على النشاطات الجنسية التي يتم تناولها بقدر اعتمادها على طريقة تناول ووصف وقراءة هذه النشاطات ، إذ كلما ازدادت صراحة وبذاءة وبلادة اللغة الموظفة كلما مال النص إلى الإباحية وابتعد عن الإيروتيكية. وكلما كان وصف الفعل الجنسي بلغة رومانسية ، تلطيفية وشعرية كان اقرب إلى الإيروتيكية . وقد لاحظت الكاتبة في مقالتها أن كلمة الأدب الإباحي pornography وكلمة البغاء prostitution تشتركان في الجذر الاشتقاقي نفسه وبالتالي فان هذا المفهوم يعزز ثيمة المرأة بوصفها شيئا مستغلا قابلا للتصرف خاضعا للعبودية فيما تعني الإيروتيكية اللذة المشتركة.
الشاعرة إذا تكتب ايروتيكية سيدة راقية مثقفة ، وشاعرة متمكنة من أدواتها . وشعرها في المجموعة أبعد ما يكون عن الرومانسية الساذجة أو الإباحية الفاضحة. وسنوظف في مقاربة قصائد الشاعرة ـ التي أزعم أنها مثالا راقيا للايروتيكية الناضجة ـ تقانة الغياب absence ، التي تعد طريقة لمقاربة الحلم في العلاج النفسي . إن الحلم والشعر ـ يقول تشارلز رويكروفت في كتابة (براءة الأحلام ،1979) ـ هما نشاط إبداعي خيالي في اللاوعي . بمعنى أنه يمكن تحليل قصيدة أو حلم بفتح المشهد على الغياب . أي أنه يمكننا افتراض محتوى وثيمات لم يعبر عنها الشاعر ، شريطة أن نمتلك اللمحة المفارقة لاستنتاج نواقص التعبيرات المُمَثلة . والأمر ليس بهذه البساطة ذلك أننا لا بد أن نبذل جهداً في تحليل الطاقة الكامنة في الكلمات التي اختارتها الشاعرة، والتي قد تتجاوز قصيدتها الواعية. وربما كانت عناوين قصائدها مثالا خاصا على فكرة الغياب التي نطرحها . انظر مثلاً:
((قبلة تيه وبضع محيطات ، اشتعالات الجسد ، لحبنا كل هذا الجنون ، تكرار لشغف صامت ، صعوداً إلى ذهولك العاري ...))
أما قصيدتها (قبلة تيه وبضع محيطات ) فهي الأقرب والأجدر بأن تفهم بتقانة الغياب النفسية:
((سجودي ،كان ليلة حرير لاستدراج ،ما تبقى منك ، أنتَ غائبٌ ،وآنا استدرجكَ لقلبي،كيف يكون هذا؟،كلما لامست يداي يديكَ ،يمرر الخُطاف مناديلهُ ،على رهافة أناملي،يلف نداها برتابة رماد ،أظافركَ المخيفة ،وصاياه ،توزع دمي على الأصلبة ، ثم تكون صديقي....!!!؟؟؟ ،يصهركَ ظلي في اختزال المسافة ، لمساءات باهتة ،تزيح عن الشوق شرائط براءته ،وتغترف من سكرة الغيم اعترافي ،"أُعزكَ" ،آثم حبكَ ،آثمة دموعي إذ تتوسد مداها ،لتعبركَ حنينَ رغبات مقفلة ،لن تعيدني إليك فأنا فيكَ ،لن تعيدكَ لي فأنت فيَّ ،مزيداً من الشوق ،مزيداً من الحب ،مزيداً من الهجر،لكَ شاهدة القبر زاحفة ،تؤبننا معاً ،لكَ قبلة طيشي،وقبلة تيهي وفاصلة محيطات ،هكذا دمي الأنثوي ،أَخبرَني ،أنا وأنتَ سماءٌ مغلقة ))
لن نبدل الكلمات ، فليس هذا هو الهدف من تقانة الغياب ، ولكننا سنفتح المشهد على غياب واسع الطيف ، ونتخيل ما لم تقله الشاعرة و نغوص في طاقة الكلمات المبطنة بالغواية : سجودي ، استدرجك لقلبي ، رهافة أناملي ، يصهرك ظلي ، تزيح عن الشوق شرائط براءته ، ..........هكذا دمي الأنثوي، أنا وأنت سماء مغلقة )).
تكشف القصيدة عن براعة الحذف والتهذيب واحترام ذكاء القارئ، فالشعر فن الحذف بالدرجة الأولى، والمشهد الغائب مهمة المتلقي الحاذق لا الشاعر. ولنتأمل مثلا روعة انتقاء استهلال قصيدتها (في خرائط جسدي أبحر إليك ):
حضور غيابكَ في كل مكان ...(اميلي دكنسن) ،لنرى أن الشاعرة قد منحتنا ـ بوعي أو دون وعي ـ مفاتيح مشاهدها الحاضرة الغائبة .
قلنا أن ديناميكية روحها التي أحسنت الشاعرة الإصغاء إليها وكتبتها شعرا أو حلماً ، انعكست ديناميكية في التراكيب والمفردات ذات الطاقة العالية ، ولكن الشاعرة اختارت أن تعبر بثيمة الرقص عن ديناميكية قصائدها الضاجة بالحياة والتي قلنا أنها ليست ثلجية بحال.
وتتكرر هذه الثيمة في قصائد عدة منها : ((الرقم 6 ، وكرات من الثلج وأخرى من الصمت ، لا ضرورة لأحمر الشفاه ، حياة هادئة ....وغيرها )) . ولذلك سأخص هذه الثيمة بالتحليل في محاولة للتوفيق بين ديناميكية الذات لدى الشاعرة وديناميكية قصائدها ، وسأختار قصيدتها المعنونة (كرات من الثلج وأخرى من الصمت ) . في هذه القصيدة نجد أن الرقص ثيمة أساسية للتعبير عن ديناميكية علاقة المرأة بالرجل بكل تعقيداتها الضاربة عمقاً في التاريخ ، والبيولوجيا ، والأدب ، والعادات ، والتقاليد ، والحداثة وما بعدها .
في الرقص صراع رغبات عنيف تجسده حركات الجسد . فتلمع على قسمات الوجوه /المرايا مشاعرنا الحقيقية بلا رتوش أو تحفظات . تتمزق المرأة بين رفضها للرجل وانجذابها القوي إليه . من الصعب الهروب من هذه الثيمة المتكررة في حركات الرقص حتى أننا يمكن أن نطرح سؤالا : هل أن المحاولات اليائسة للهروب من الرجل ومن انجذابها إليه صفة مرتبطة بالأنوثة ؟
الرقص ليس مجرد مسرحية تعرض الانجذاب والنفور. انه مسرحية تعرض تجاهل الرجل لهذا الصراع, لهذا الرفض, للنداء المستميت من المرأة بأن يدعها وشأنها, أن يفهم رغبتها في التحرر من سطوته, ومن قوى الانجذاب إليه. ولكنه يصم أذنيه ويغمض عينه كي لا يعترف بحقيقة أنها لا تريده. لا حق لها في رفضه !!. يشعر في أعماقه ـ وربما جزء لا يتجزأ من ذكورته الفطرية ـ أنها تريده ، فمن حقه إذا أن يتجاهل الصرخات المكتومة وأن يؤول حركات الجسد كما يشتهي . لا بأس , تحدثه الذكورة المتوارثة جيلاً بعد جيل : إن ألححت عليها , إن أرغمتها على نظرة أخرى , أن جذبتها نحو جسدك طائعة أو مرغمة فسوف تلين .
والمشهد، حلبة الرقص: رجل يختال, و يصول ويجول, و يحاول أن ينهك امرأته بغاراته المتكررة، وامرأة تقاوم مستميتة تتصارع في أعماقها قوى الانجذاب إليه والرغبة في الهرب منه لينتهي المشهد عادة, أو هكذا أريد له أن ينتهي, بخضوعها وبانتصار إرادته (هكذا!!). ولكن للشاعرة رأي آخر . تعكس القصيدة نظرة الشاعرة إلى نفسها في خضم علاقتها برجل . إنها اقتحام جرئ لعالم الإدراك : أدراك الذات والآخر . هي تعي ما يريد ، ولكنها تدرك أيضا أنها لم تحسم صراعها بعد لتلبي اشتهاءاته الأخيرة.
((ها أنا تأخر ثانية عن حمل اشتهاءاتك الأخيرة ))
إنها تتعامل مع نفسها في الوقت ذاته الذي تتعامل فيه مع الرجل ، و تصغي بانتباه إلى ما تقوله الأخرى بداخلها , و تعايش صراعاتها ولا تنكر صعوبة الأمر :
((كلماتي المبعثرة لن تفهمها أنت، ولن أفهمها أنا))
صوت الأخرى في داخلها كان عالياً و مباشراً و محرضاً و معقداً. والشاعرة التي فتحت على الروح نافذة ، وأصغت إلى الصوت الآخر بحب ، لم تحاول قمعه أو تجاهله أو التحايل عليه: (( كلما أردت أن ألفظ اسمكَ، تتغير لهجتي ،تشاكسني تلك الحروف ،وتضحك على إصراري الغبي ،بأن لا تضيع بداياتها،وتتقمصني التي لم تتعرف بك قط..))
امرأتان إذا في دواخلنا ، ورجل حسم اشتهاءاته ، وموضوع الصراع : انجذاب ونفور، وميدان الصراع حلبة الرقص ( الحياة ) والكون يصغي ولا زلنا ننتظر الإجابة .
إن وقوفي عند ثيمة الرقص ينطلق من سببين : أولهما ديناميكية الكلمة وقدرتها الفائقة على عكس ديناميكياتنا الداخلية من ناحية ، وثانيهما تكرار الثيمة في أكثر من قصيدة بطريقة تستوجب التوقف عندها . هذا فضلا عن أن المجموعة تعج بحركات راقصة لكائنات متنوعة: طيور وفراشات وأشجار وأزهار وأناس يروحون ويجيئون، وشموع، ومواقد، أضواء، ونار، ولهيب، وكؤوس. وهي ثيمات تنطق بالديناميكية الصاخبة ، وتشي بطاقة حركية عالية لا تمت للشتاء وثلجه بصلة . فما الرابط إذا ؟ .
لا أدري هل يحق لي التطوع بالإجابة فأقول أن الثلج هو البراءة من الخطايا، هو الطهر الذي لا يجاريه طهر في الكون. فهل نقول أن الشاعرة تستنجد بالثلج ليغسل روحها التي أثقلتها خطايا البشرية فحملت وزرها دون أن ترتكب أيا منها؟ ....ربما.
بقي أن أشير إلى تقانة لاحظتها في بضع قصائد من المجموعة ، وأزعم أن الشاعرة أجادتها تماما ـ ربما لاحتكاكها المباشر والمبكر والقوي بالشعر الانجليزي ـ حتى أن باستطاعتنا تميز قصائدها استنادا إلى هذه التقانة البارعة ، التي يحلو لي أن أسميها تقانة (النهايات المفارقة في كل مقطع ) ، و التي تعد قصيدتها (لحبنا كل هذا الجنون ) أنموذجا لها .
تتلخص هذه التقانة في صياغات الشاعرة الميتافيزيقية . فهي تحول الفكرة النفسية البسيطة (الاشتياق إلى الحبيب/الوطن مثلاً ) إلى صور متقنة مذهلة، بجماليات تستعصي على التبسيط:((" أُعري الليلة بقبلتين, متاهة شوق على حافة الكأس)). و تعالج القصيدة ثيماتها ( الحب , الشوق , الخيانة , الغياب , التوحد , العزلة , والاغتراب , والحنين إلى الوطن المزدحم بالمآسي ) من زاوية مختلفة في كل مقطع . إنها أوجاع مسكونة بألف صرخة فقدت تماسكها أمام الشوق المضطرب , فدوت في أعماق الشاعرة , لتلتقطها اللغة الشعرية الناضجة فيض دلالي متخم بحساسية اللحظة . توظف الشاعرة عبارات عادية مألوفة بطريقة بالغة التعقيد للوصول إلى فكرة مجازية مدهشة. أما تسلسل الثيمات الذي يبدو منطقياً فهو يقودنا في النهاية إلى نتائج غير متوقعة . لنقرأ مثلاً
((ندمكَ الموغل برهان كاذب ، لامرأة أخرى ،تزرعها ،أكاليل موتى نبوءة صادقة ستعيدكَ
لي .. )) .
ومثال آخر من قصيدة (بين خيالات التشرد وبوصلات الضياع) :
((ها أنا أرسل إليك قبلاتي الكثيرة التي لن تصل إليك ، وأتنصت لنواقيس قلبي المتوحد ،قلبي الجبان الذي يخذلني في كل مرة ، فأتشبث بك ثمرة الخطيئة...)).
وكما قادتنا استهلالات الشاعرة ـ التي تتوج بها بعض قصائدها ـ سابقاً إلى إحدى تقاناتها ، فإن استهلالا آخر قد دلنا على تقانة (النهاية المفارقة ) عندما استهلت قصيدة (اشتعالات الجسد ) بهذا المقطع لسيلفيا بلاث الذي يلخص مقصدنا من التقانة المذكورة :
تومض أنت...لا استطيع أن ألمسكَ
أضعُ يديَّ بين اللهب....لاشيء يحترق....سيلفيا بلاث.
تكشف المجموعة تأثر الشاعرة بالثقافتين العربية والغربية ، و من الواضح تماما أن الشاعرة تستلهم الحضارات الشرقية ورموزها وحضارات بلاد الرافدين ، السومرية منها على وجه الخصوص كون الشاعرة تنحدر من جنوب العراق . فضلا عن التراث الإسلامي الشيعي الذي يتكشف عن ميول صوفية لا تجسدها قصيدة (هذيانات عاشقة ) فحسب ، بل أن قلائد العشق الصوفي تنفرط على مساحات المجموعة كلها . أما تأثرها بالثقافة الغربية التي احتكت بها مبكرة فيدلل عليها زيارتها لبيت الشاعر كيتس وقصيدتها المهداة إليه ـ وقد سبقها جبرا إبراهيم جبرا إلى زيارة كهذه ولكيتس أيضاً ، الذي لا يبدو انه ملهم شعراء الغرب فحسب بل ملهم الشعراء في كل مكان . فضلاً عن أن المجموعة حافلة بتقاليد الحياة اليومية الغربية والإنكليزية تحديداً، حيث تقيم الشاعرة هناك منذ صباها، لتشكل تجربة متفردة في الشعر وفي الحياة.. : تجربة أن تكون عراقياً قديما قدم الحضارة مترفعاً و أبياً ، وانجليزياً عريق التقاليد والأصول تجمع أَلسن الحضارات في لسان بليغ ، ودرر الشعر في بوتقة الروح .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي


.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل




.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي