الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغموض في القصص

سعد محمد رحيم

2010 / 12 / 6
الادب والفن


نُشرت آلاف النصوص، لاسيما منذ الستينيات، تحت مسمّى ( القصة القصيرة ) والتي أساءت إلى هذا الفن السردي الرفيع باستغراقها في التهويمات والشكليات البلاغية الفضفاضة. وقد أصبح الأمر لعقود بمثابة موضة أن تكتب ما هو مقعّر وغير مفهوم بدعوى إشراك القارئ في فك مغاليق النصوص، تلك التي لا مفاتيح لها حتى في أذهان كتّابها. ولا أقصد، هنا، بطبيعة الحال اتهام الستينيين، فمنهم مبدعون كبار أثروا حقل هذا الفن برؤى وأساليب متقدمة. لكن آخرين من أجيال متعددة، ومنهم، موهوبون انخدعوا بالشعارات والتوصيفات الحداثية الزائفة واتخذوا طرقاً في الكتابة استنزفت مواهبهم في كتابة ما لا قيمة إبداعية له. ناهيك عن أنصاف الموهوبين، ومَنْ يفتقرون إلى ملكة الخيال والقدرة على بناء النص السردي. وهكذا اكتسحنا طوفان من النصوص الشاحبة والثقيلة الظل والفارغة من المعنى.
لا أدعو إلى الكتابة السطحية، وأجد أن أجمل القصص هي تلك التي فيها مسحة من الغموض، ووحدهم الكتّاب الكبار من بمستطاعهم خلق قصة متقنة فنياً ومظللة بتلك المسحة السحرية المغرية. فالغموض مزية في القصة تُحسب لصالحها، ولكن حين يتحول إلى حجاب غليظ سيغدو عيباً يخفي فقر الموهبة وشحّ الخيال. فثمة فرق تقني بين النص الغامض الذي يواري المعنى ويحيل فعل القراءة إلى تجربة فكرية ـ جمالية تمتحن قدرة القارئ على الفهم والتأويل والمشاركة في لعبة التأليف وإملاء الفراغات المتروكة لذكائه. وبين النص المملوء بالمعمّيات التي لا معنى لها.
ما زلنا نقرأ تشيخوف بشغف، وما زال فوكنر وهمنغواي وبورخس يبهروننا. وما زالت تلك اللغة البسيطة والمكثفة، الخالية من الزوائد البلاغية الطنانة التي تتصف بها قصصهم تبعث فينا الدهشة وتمنحنا مسرات لا تضاهى. وما زال ذلك الأسلوب السهل الممتنع الذي يميّز أعمالهم يأسرنا.
ينطوي معظم نصوص همنغواي، في سبيل المثال، على الرغم من وضوحها الظاهر على ظل من الغموض.. ثمة دلالات مختبئة فيما وراء الجمل الصافية المباشرة، وفراغات يملؤها خيال القارئ الفطن وذكاؤه.. في قصص كثيرة يلجأ همنغواي إلى لغة الإيحاء. إنه لن يخبرك بكل شيء، فهو واثق من حُسن قراءتك.. من لمّاحايتك في فهم الإشارات، في تكملة الجمل المبتورة في أثناء الحوار، في معرفة عمّا يتحدث عنه شخصياته حتى وإن لم يذكروا بالاسم هذا الذي يتحدثون عنه.. فالراوي لا يفصح عن حقيقة مشاعر وأفكار الشخصيات مباشرة، بل يدعهم يتكلمون، هم، عمّا يجري في أعماقهم ويدور في خلدهم.. إنه لا يسهب في الوصف الممل وإنما ينقل لك شذرات من الصورة، أو المشهد الذي يصوِّره. فبضع كلمات على لسان شخصية ما كفيلة أن ترشد القارئ إلى جوانب هامة من طبيعة أفكارها ومشاعرها.
لنذكر قصصاً أو مجموعات قصصية؛ مجموعة ( حالات ) لناتالي ساروت.. مجموعة ( الجريمة ) لنجيب محفوظ.. مجموعة ( كتاب الرمل ) لبورخس.. قصتا ( العاشق ) و ( عيون زرق، شعر أسود ) لمارغريت دوراس، والأخيرتان تعدّان روايتين قصيرتين، أو هما قصتان قصيرتان طال شريطهما اللغوي قليلاً.. هذه الأعمال، وغيرها، تمنحك المتعة وتجعلك في حالة من الشك والالتباس، وأمام حزمة من التساؤلات.. تضعك إزاء الجميل والمدهش والمحيّر.. ذلك الجزء الباهر الذي تحاول استكشافه بالحس والحدس في آن.. تفرغ من القراءة فينتابك هاجس مؤداه أنك إنما التقطت أشياء وفاتتك أشياء، وها أنك مغمور ببعض الارتباك اللذيذ، وتفكر بإعادة القراءة، في محاولة لالتقاط ما تسلل من بين كماشة فهمك في المرة الأولى.. وأحياناً حتى المرة العاشرة تبقى تشعر بأن هناك، لابد، من شيء آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقالة جميلة
حوا بطواش ( 2010 / 12 / 7 - 14:46 )
أشكرك على هذه المقالة القيّمة التي أثرتني بمعلومات مفيدة. أعجبني حين قلت: (الراوي لا يسهب في الوصف الممل وانما ينقل شذرات من الصورة او المشهد الذي يصوره). وكنت اتمنى لو تدعم اقوالك بأمثلة من قصص الكبار الذين ذكرتهم لتجسيد الفكرة.
اوافقك حين تقول ان هناك من يكتب ما هو مقعّر وغير مفهوم، احيانا ابدأ بقراءة قصص اجدها ثقيلة بلغتها الصعبة التي لا افهمها، متخمة بالرموز والاشارات وجمل غير مترابطة، فأجد نفسي عاجزة ولا اكمل قراءتها، اتركها لمن يستطيع فهمها وحل لغزها.
اول مرة أقرأ لك وقد أثرت اهتمامي فقرأت مزيدا من مقالاتك السابقة فأعجبني ما كتبت عن (سرير الاستاذ) لمحمد مزيد، اعجبتني الدقة التي نقدت بها الرواية مع الكثير من الأمثلة التي دعمت آراءك.
تحياتي الصادقة لك استاذي الكريم
دمت بخير


2 - غياب التمثيل للنماذج المغالية في الغموض
عبد العاطي جميل ( 2010 / 12 / 7 - 20:03 )
تحية المحبة للكاتب سعد محمد رحيم
مقالك يتضمن ملاحظات عامة وإن كانت ذات مصداقية ما . فهي تحتاج إلى أمثلة أي عبارات سردية من قصص معبرة عن الطلاسم المتحدث عنه .. أو الاكتفاء بالإشارة إلى العناوين كما فعلت مع أصحاب الرواية الجديدة كناتالي ساروت و ...

ولقد قرأت لك مقاربات لنصوص تجريبية غامضة ، بل مغرقة في الغموض لكنها ممتعة .. وتمكنت بالفعل من سبر أغوارها والكشف عن إوالياتها كما فعلت مع قصص القاص المغربي أنيس الرافعي ...
محبتي


3 - انطباعات عامة
ادريس الواغيش ( 2010 / 12 / 7 - 23:59 )
مقال جميل ينطبق على الكثير من الأعمال ، لكنه مع غياب نماذج بعينها ، أقصد هنا قصة القصيرة أو قصيرة جدا لكتاب معينين ، يبقى مقالا انطباعيا وعاما، لكن هذا لا يقلل من أهميته
دمت ناقدا متميزا...ولو أنني أقرأ لك للمرة الأولى...
نلتقي في أعمال قادمة ...دم جميلا كما أنت


4 - شكرا أصدقائي
سعد محمد رحيم ( 2010 / 12 / 9 - 15:57 )
أصدقائي حوا سكاس وعبدالعاطي جميل وادريس الواغيش
أفرحتني تعليقاتكم، ويشرفني أن تقرأوا لي
أجمعتم على مسألة غياب النماذج وهذا صحيح. والحقيقة أن هذه المقالة عبارة عن عمود، فلي عمود أسبوعي في ملحق أوراق/ جريدة المدى/ العراق ومقيد بخمسمئة كلمة.. كتبت عن نصوص من هذا القبيل نشرتها في الصحف والمجلات، وارجو أن تجدوا بعضها في أرشيفي في هذا الموقع/ الحوار المتمن
أشكركم من أعماقي
محبتي وتقديري

اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي