الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر- المحروسة- وشبح الفاشية

مهدي بندق

2010 / 12 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


حاول " تنتالوس" خداع آلهة الأولمب فعوقب بإلقاء صخرة ضخمة فوق رأسه ، ما تكاد تقترب منه حتى ترتفع، ثم تعود لتهوي ثم ترتفع وهكذا لأبد الآبدين. تلك أسطورة إغريقية تومئ لحالة الرعب المميت من خطر قد يقع أو لا يقع . فلماذا ابتليت مصر بهذه الحالة وهي التي لم تخدع آلهة الأولمب ؟ أم تراها خدعت نفسها؟ ومن تراه يخايل رأسها بصخرة "الفاشية"، مهدداً إياه بالسحق والتحطيم؟ أسئلة قد تجد إجابتها في متن هذا المقال .. لكن ما يلزم الإجابة عنه بداية ً هو السؤال عن الفاشية ، ماذا تكون؟ وما هي فلسفتها؟ وما خطرها؟ وكيف يمكن تجنبها؟
***
الفاشية Fascism لغة ً تعني حزمة العصي المترابطة ، أما المصطلح التاريخي فيعيدها إلى ما كان يفعله ضباط الحرس الروماني الذين اعتادوا رفع صولجاناتهم معاً أمام الإمبراطور رمزاً للإجماع، وتسليماً بمقتضيات الضبط والربط العسكريين، وتعبيراً عن قبول مبدأ السمع والطاعة دون تفكير. وفي عصرنا استعار هذا المعنى الديكتاتورُ الإيطالي بنيتو موسوليني عنواناً لحزبه المعارض للديمقراطية والمناوئ لقيم السلام.
فأما معارضة الديمقراطية فمصدرها فلسفة تعمل تعسفياً على ربط العقل الجمعي بالمطلق الخالد Absolute Eternity المتعالي على الزمان والمكان ، ومن هنا جاء إحلال الفاشية لمصطلح الأمة Nation الغامض محل مصطلح الشعب People الذي يشير إلى أفراد متساوين لكل منهم الحق في تأكيد ذاته والتعبير عن تفردها في سياق المشهد الجمعي، وذلك هو جوهر الديمقراطية : حكم الشعب بواسطة أغلبية أفراده مع تأكيد حق الأقلية في السعي "السياسي" لتحوز صفة الأغلبية ... وهكذا دواليك تداولا ً للسلطة ، وحماية للجموع من إلصاق صفة المحكومية بهم أبد الدهر.
أما مصطلح الأمة فيراد به التسليم بوجود كيان مثاليّ متوهم غير ملموس، لكنه يتمظهر ليس في الأحياء حسب ُ بل و في الموتى أيضا ً، ممتداً إلى الأجيال القادمة التي ما زالت قيد الولادة ! فمن هو الجدير بتمثيل هؤلاء كلهم؟ إنه الحزب المنفذ لإرادة الأمة ، سواء رضي عنه الشعب الموجود حاليا ً أو أبي. فالشعب في نظر تلك الفلسفة مجرد أقلية، لا تقاس بأعداد الآباء والأجداد الراحلين والأبناء والأحفاد القادمين. فإذا كان الشعب الحالي قد ُغرر به ليبتعد عن صفوف الأمة وغاياتها العظمى؛ فلا مناص من قمعه إعادة ً لتربيته، وتصحيحا ً لرؤيته التي أفسدتها الديمقراطية اللئيمة !

فخ الفاشية وجرح ضحاياها المفتوح
يرضيك واقعنا البائس؟ تبغي استعادة مجدنا القديم؟ فاجعل هدفك: إخضاع العالم بأسره لعقيدتنا.. هل أنت مستعد للموت في سبيلها؟ أتبايعني على السمع والطاعة؟ مبروك أنت الآن فاشيّ عظيم وستأخذ إمرة الدنيا اغتصابا.
بهذه "البلاغة" شبه الدينية، المغرية للشبيبة والملغية لعقولها؛ اختطف الفاشيون سلطة الدولة في إيطاليا 1922 بمسيرات العنف المسلح ، وكذلك فعلها الحزب النازي 1929 بالعنف الانتخابيّ! فكان منطقيا ً أن يتحالف الديكتاتوران الألماني والإيطالي ومعهما الفاشية اليابانية ضدا ً على الأنظمة الديمقراطية في أوروبا، لتبدأ حرب عالميةً جديدة قتلتْ الملايين ودمرت البلدان ولم تضع أوزارها إلا بتدمير ألمانيا وإيطاليا واليابان، وإعدام موسوليني وانتحار هتلر.
فهل انتهت الفاشية كما انتهي زعيماها؟ لا فالفاشية لا تستسلم أبدا ً؛ إنما تسلل فكرُها إلي جماعات "دينية" تسعى للسلطة بصيغة ملتوية.. مبتكرة ً صيغة تتجنب ذكر "الدولة الدينية" اسما ً وإن لم تنكر جوهرها الفاشي ذا العناصر الأربعة : 1- ضرورة استعادة الأمة لمجدها الغابر 2-الإيمان بأنها على حق لا شبهة فيه وبالتالي هي فوق الجميع 3-تصور وجود مؤامرة عالمية ضدها، حتى لتغدو حياتها وحياة أبنائها رهناً بالانتباه وتدوين كل ما يصدر عن الغرباء- ولو كان فكراً أو علماً- في مصنفات الأعمال العدائية 4- مراحل التنظيم تبدأ باستخدام آليات الإغراء العاطفي والإلغاء العقلي، ثم العسكرة لتكتمل بالقسم على السمع والطاعة.

التسامح قول ظاهره الرحمة وباطنه العذاب
من نافلة القول إذن أن كل دولة دينية هي فاشية لا غش فيها بحكم تماهي الطبيعتين وتمحورهما حول ذاتيهما بيقين زائف، ومن ثم فليس مما يعكر على طبيعة الدولة الدينية زعمُ أصحابها أنهم مستعدون للتسامح مع الآخر! فتلك والحق مناورة بارعة.. حيث الكلمات الطيبة فيها تغطرش على المسكوت عنه في الـُمقال الذي يضمر أن الآخر غير المؤمن بعقيدتنا مذنب، وإلا فعلام نسامحه؟!
هل قلتُ إنها مناورة بارعة ؟! دعني أراجع هذا التعبير الملاطف لأستبدل به تعبير "المناورة الإجرامية " ذلك لأن مسار تلك المناورة لا مندوحة واصل إلى ميدان منفتح للحرب الأهلية، حيث يستحيل على الطرف الآخر أن يبقى قانعاً بحالة الإفراج المشروط، أو مخدوعاً بالقول المراوغ " لك مالنا وعليك ما علينا" بينما تقوم القيامة حال تفكيره في تشييد دار يؤدي فيها صلواته. وهي أيضا ً إجرامية لأنها تمهد لمحاربة دول كبرى وصغرى ووسطى، ذلك أن المطالبين بقيام الدولة الإسلامية على غرار النموذج الأموي العباسي العثماني اعتادوا القول بأن "الفتوحات الإسلامية كانت محض دفاعية، حتى أنها لم تجبر أحدا قط على تبديل دينه" فهل ثمة تسامح أعظم من هذا ؟! لا تتسرع في الإجابة قبل أن تسألهم عن رأيهم في كتاب الشيخ سيد قطب معالم في الطريق[ دار الشروق – الطبعة الشرعية الخامسة عشرة 1992] حيث يحرض فيه مؤلفـُه الدولة َ الإسلامية ( تحت التأسيس) على الاستعداد لشن حروب لا هوادة فيها ضد روسيا والصين وأمريكا وأوربا والهند واليابان والفلبين وإفريقيا، بحيث لا ُيرفع عن رقابهم السيفُ حتى يشهروا إسلامهم طواعية أو جبراً! وهيهات للمتشدقين بعبارات التسامح الديني أن ينتقدوا هذا الفكر القطبيّ الواضح وضوح الدماء في الجرح المفتوح.
إذن شعار التسامح الديني إنما هو تعبير ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.. وعلى ُرغوة هذا الظاهر الرحيم ينزلق الكثيرون، دون التفات للهوة الفاغرة فاها تحت الأقدام، حتى ليغم عليهم رؤية الدرب القويم الذي شيده بأسمنت الوعي الوطنيّ الآباء ُ المؤسسون للدولة المدنية في عشرينات القرن الماضي يوم صكوا شعار " الدين لله والوطن للجميع " .
إفاقة تاريخية مؤقتة أم دائمة؟
ولهذا أيد المصريون التعديلات الدستورية 2007- وليكن بتحفظات معينة- وذلك لتضمّنها نصاً يمنع خلط الدين بالسياسة. ومع الانتخابات الحالية استأسدت الدولة بتطبيق هذا النص الفارق بين السلام الاجتماعي وبين المذابح، متأهبة لإصدار قانون دور العبادة الموحد بتمثلها قول الشاعر: أري تحت الرماد وميض نارٍ/ وأخشى أن يكون له ضرامُ / فإن النار بالنيران تزكو/ وإن الحرب أولها كلامُ..
وبالمقابل لجأت جماعة الأخوان إلى تكتيك يخولها خوض الانتخابات، بأن سمحت لمرشحيها أن يتخلوا -على الأقل في ملصقاتهم ولافتاتهم -عن شعار الجماعة المؤسس " الإسلام هو الحل " وليس هذا التكتيك بالأمر الهين، فالتكتيك الذي يناقض الإستراتيجية لاغرو يعدّل في بنيتها، وآية ذلك أن شباب الجماعة المقاربين لفضاءات الإنتاج المعرفي وأدواته التقنية اللصيقة بالفرد المستقل ذي العقل المتحرر، باتوا مقتنعين أن جماعتهم هي في الواقع أكثر "مرونة" مع المبادئ! وأنها فعلياً تلزم النهج البراجماتيّ في محطات السياسة، وعليه صاروا يتنادون لتحويل خط قطار الشرق "البطئ" وتحديث محركاته وعجلاته للوصول به إلى تخوم النموذج التركي المقبول من العالم المعاصر.
ربما تبشر متغيرات الدولة ، ومتغيرات الأخوان بابتعاد شبح الفاشية المرعب ولو مؤقتا عن رأس مصر .. أما إبعاده نهائياً فمهمة الإنسان المصري حين يقبل بسداد فاتورة الديمقراطية، وبنودها: إقراره بأنه سيد مصيره، وحذفه فكرة " المخلـّص " الميتافيزيقي من جدول أعماله، وتمثله " غذائياً" ثقافة المواطنة التي تقبل المساواة التامة في الحقوق والواجبات لكل مصري بغض النظر عن ديانته أو عقيدته أو جنوسته أو عرقه.. .الخ وقبل هذا كله توقفه عن خداع النفس بالزعم أن مصر " محروسة " دون قيامه – هو نفسه – بحراستها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مصر والفاشية
فهمي التكريتي ( 2010 / 12 / 7 - 14:26 )
مقال أكثر من رائع ولو أنني أختلف مع كاتبه الدكتور مهدي في حسن ظنه بالنظام المصري من حيث رغبته في تثبيت دعائم الدولة المدنية


2 - مصر المحروسة بمن؟
علياء الطويل ( 2010 / 12 / 7 - 20:32 )
فعلا لا يجب أن تسمى مصر بالمحروسة فهي صارت متاحة لكل من يريد أن يفترس لحمها في الداخل والخارج ، والفاشية قادمة بكل تأكيد نتيجة جهل الشعب بفلسفتها وأهدافها كما أوضحها المقال . شكرا للدكتور مهدي ولموقع الحوار المتمدن على هذا التنوير

اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -