الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكومونة والسوفييتات -8: ثورة السوفييتات عام 1917

أنور نجم الدين

2010 / 12 / 8
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


ثورة السوفييتات 23 شباط عام 1917 ودور الاشتراكية - الديمقراطية فيها:

نتيجة لمجازر الحرب العالمية الأولى، والمجاعة المنتشرة في العالم، وبعد ما أُصِيبَت الدولة الروسية تحديدًا بالشلل التام أثناء الحرب، وفي ظروف مشابهة بالضبط بظروف ثورة الكومونة، انطلقت من جديد ثورة السوفييتات -المجالس العمالية- في روسيا، ووجهت الثورة مباشرة نداءها الثوري إلى القوى المضطهَدة في العالم أجمع كيما يلحقوا بأهدافها.

ظهرت السوفييتات من جديد بصورة عفوية، أي دون تدخل الأحزاب السياسية، وعلى عكس كل ما كان يطلبه الاشتراكيون - الديمقراطيون، وأنها كانت أقوى من أي وقت مضى في تاريخ ثورات البروليتارية، فإنها كانت سوفييتات العمال، والفلاحين، والجنود، وتنتشر تدريجيًّا مثل الرياح التي تهب ببطء، وتتسرع لدرجة تزيل تحت قوتها تربة الأراضي، وتتغير بموجبها ملامح الأرض في المستويين الوطني والعالمي على حد سواء.

كانت مدينة بتروغراد على أعتاب ثورة بروليتارية منذ بداية عام 1917، وبمناسبة الذكرى الثانية عشرة لثورة سوفييتات عام 1905، أزداد عدد الاضرابات والمضربين إلى ما يقارب 150.000 عامل، ورفع المتظاهرين شعار: لتسقط القيصرية!
وكان أهم ظاهرة من ظواهر الاضرابات هو تظاهرة النساء، واتصالهن بشكل مباشر بعمال المدينة وتحريضهم للإضراب من خلال انتقالهن من معمل إلى آخر.
في 24 شباط 1917 بدأت الاصطدامات بين الشرطة والمتظاهرين. في يوم 25 شباط أعلن إضراب عام في بتروغراد.
في 26 شباط أطلقت القوات القيصرية النار على المتظاهرين، لكن كان هناك كتيبة من كتائب الجنود –بالفوفسك- رفضت إطلاق النار على المتظاهرين ووجهوا أسلحتهم ضد الشرطة، الأمر الذي حول توازن القوى لصالح الثوار، وبدأ الجنود بعد ذلك بالانضمام إلى الثورة بالمئات والآلاف.

وقعت العاصمة بكاملها تحت سيطرة ثوار السوفييتات، واعتقل الثوار الوزراء، ولكن دون مشاركة رسمية من أي حزب من الأحزاب. وقد ساهم عدد من أعضاء الأحزاب السياسية في الثورة -دون علم قاداتهم السياسيين وبجانب رفاقهم البروليتاريين- وقد ساهموا جديًّا في إقامة منظمة السوفييتات التي تلحق أهداف أجدادهم البروليتارية المعلنة في ثورة الكومونة وثورة السوفييتات الأولى عام 1905م.
ففاجأت السوفييتات من جديد كل الأحزاب السياسية وقاداتهم الذين كانوا لا يزالون يحلمون بمناصبهم الرابحة في حكومة برجوازية مؤقتة، فعقل الاشتراكيين - الديمقراطيين لم يقبل شيئًا سوى القبض على السلطة المحبوبة التي كانوا يستهدفون اقتسام برلمانها مع البرجوازيين.

عادت السوفييتات إلى الحياة دون علم السياسيين، عادت البروليتاريا إلى ساحة الثورة دون قادات مثقفة -الأنتلجنسيا، وقبل دخول هؤلاء السياسيين إلى السوفييتات بصورة رسمية، فكان التوازن لصالح ثوار السوفييتات، وبدخول الأحزاب إليها فحلت الصراعات الحزبية محل النزاعات الطبقية بين السوفييتات وأعدائها الطبقيين، فالمصيبة الكبرى التي واجهتها البروليتاريا هي توجه الأحزاب نحو الوحدانية في هذه المنظمة الثورية، المنظمة الوحيدة التي تعبر عن مصالح مجموع البروليتاريين، فقام الأحزابُ بالاستعاضة عن شعارات سوفيتية بشعارات حزبية صِرْفة، فأول نقطة من نقاط ضعف السوفييتات بدأت من توجه الأحزاب نحو وحدانيتهم، فبدأ الأحزاب باستعراض سياسي من خلال طرح شعاراتهم الحزبية الخاصة بدلا من المساهمة في تطوير السوفييتات واتجاهها التاريخي، حيث كان التوازن الطبقي لصالح السوفييتات من البداية، فالاستقطاب الطبقي وصل إلى حد تشكيل المجالس البروليتارية بين العمال، والفلاحين، والجنود.
وفي هذا الحقل، تجاوزت الثورة إحدى أهم نقطة من نقاط ضعفها بالمقارنة مع ثورة الكومونة، فهذه المرة اندمجت المدن والقرى في انتظام طبقي، وانتقل الجيش النظامي إلى ميليشيا شعبية تقف بجانب السوفييتات وتحميها من هجمات الدولة، فقوتها كانت في وحدتها الطبقية، أما ضعفها فكان بسبب الصراعات الداخلية للأحزاب السياسية فيها، صراعات المثقفين على مبادئهم الفلسفية المختلفة.

الأحزاب السياسية:

1) البلاشفة

كان البلاشفة حزبًا منعزلا عن البروليتاريا كليًّا، وفي موضوعات نيسان، يعترف لينين ويقول: "يجب الاعتراف بأن حزبنا ما زال أقليةً، وأقلية ضعيفة في الوقت الحاضر في معظم سوفييتات نواب العمال – لينين".

2) المناشفة والحزب الاشتراكي الثوري

إن مصيبة من المصائب التي واجهتها الثورة هي أن الحزب الاشتراكي الثوري مع الحزب الاشتراكي - الديمقراطي، جناح المنشفية، كانوا يشكلون معًا الأغلبية في اللجنة التنفيذية لسوفييت نواب العمال والجنود والفلاحين.

3) الأناركيين

حسب فولين، وهو شيوعي أناركي نشط ينتمي إلى مجموعة صغيرة من الأناركيين الروس، كان الأناركيون لم يُخَلِّفُوا أي أثر على الوضع في روسيا، فهم أيضًا كانوا مجموعةً من المثقفين منفصيلن عن العمال، وكانت تسودهم ميول ونزعات فردية لا عمالية. ونستور ماخنو، أناركي أكراني، ساهم جديًّا في الكومونات الانتاجية في أكرانيا، أعرب عن رأيه على الشكل التالي: كانت الأناركية الروسية وجدت نفسها في أعقاب الأحداث، خارجًا عنها كليًّا.
في الواقع أصبحت الأناركية الروسية ظاهرة بعد الثورة، أي أنها ظهرت كموجة من موجات الثورة نفسها. وكانت أهدافها غير واضحة إطلاقاً. ولم يكن لها أي دور داخل منظمة السوفييتات. فالأحزاب تسللوا إلى هذه المنظمة الثورية.
وان شعار كل السلطة للسوفييتات فهو كان من ابتكار الأناركيين لا البلاشفة، والبلاشفة حولوا الشعار إلى كل السوفييتات للدولة والحزب الحاكم وقاداته -بصدد رأي فولين في هذا الموضوع، انظر (الشيوعية وأسطورة الماركسية - ماركس ولينين).

وهكذا، فكل الأطراف السياسية الرسمية داخل منظمة السوفييتات، كانوا من أعداء السوفييتات، بمعنى أنهم لم يستهدفوا من عملهم السياسي توحيد القوى البروليتارية نحو الهدف الذي أعلنته السوفييتات، بل وهم جميعًا يستهدفون من نشاطاتهم إعادة الحياة إلى الدولة المشلولة كليًّا بعد الحرب وأمام الثورة البروليتارية من خلال توجيه السوفييتات نحو مجالس سلطوية، فأصيبت السوفييتات بفيروس النزاعات السياسية، فيروس الإنتلجنسيا الذين كانوا يحاولون استخدام منظمة السوفييتات الطبقية لصالح حزبهم في الانتخابات القادمة في الحكومة البرجوازية.

وهكذا، فقدت السوفييتات خلال أشهر قليلة كل أصالتها البروليتارية، كما فقدت المنظمة طابعها الطبقي، حيث إنها أصبحت مركز الأحزاب وصراعاتهم على السلطة بدل الانتظام الطبقي البروليتاري على مستوى المجتمع كله.

كانت جذور السوفييتات تعود إلى عمال المصانع، فالميل السائد فيها إذا كانت الحرية الاجتماعية، من خلال تحقيق الملكية الجماعية وإدارة المجتمع الذاتية، أما الأحزاب السياسية فلم تستهدف سوى الحرية السياسية، الأمر الذي كان لا بد ان ينتهي وبصورة حتمية بتلويث هذه البيئة البروليتارية الأصيلة، وإفساد طبيعتها الطبقية، وتحويل توازنها لصالح أعدائها.

وهكذا، أصبحت السوفييتات فريسةً سهلة للأحزاب المتمرسة في الحيل والمراوغات السياسية، فقبل ظهور السوفييتات وبعدها أيضًا، -وهي كانت أضخم منظمة ثورية في تاريخ الثورات البروليتارية- لم تستهدف الأحزاب اليسارية الروسية من نشاطاتها السياسية سوى انعقاد جمعية تأسيسية، وكانت الجمعية التأسيسية، الحكومة البرجوازية المؤقتة، هو الهدف الوحيد التي يعمل من أجله البلاشفة تحديدا. وكان لينين لا يرى في السوفييتات إلا حكومة ثورية، وهو يقول: "إن سوفييتات نواب العمال هي الشكل الوحيد الممكن للحكومة الثورية - لينين".
ولقد تحققت آمال البرجوازية للأحزاب الاشتراكية من خلال تنظيم الانتخابات قبل اكتوبر عام 1917 للجمعية التأسيسية، وكان الأغلبية تتشكل من خصوم السوفييتات.

الجمعية التأسيسية:

كانت الجمعية التأسيسية نموذجًا برلمانيًّا للحكومة البرجوازية الروسية المؤقتة في روسيا يرأسها ألكسندر كيرنسكي. ومن خلال هذه الجمعية بالذات قضت الأحزاب على السوفييتات عمليًّا، فأطلقت اسم (جمهورية السوفييتات) على الحكومة البرجوازية، رغم أن السوفييتات لم ترفع لذاتها هذا الشعار الغريب بطبيعتها الاجتماعية طوال تاريخها.

السوفييتات – المجالس العمالية:

تأتي المجالس العمَّالية كنقيض للجمهورية -نقيض الدولة-، وإنها تعني بكل بساطة الإدارة الذاتية للمعامل من قبل العمال، فماذا يعني إذا الجمهورية بالنسبة لطبقة تحاول التنظيم المجالسي للصناعات الكبيرة بالذات؟ فالمجالس العمالية تعني نقل الإدارة من السلطة السياسية إلى المنتجين أنفسهم، فالمنتجين هم الذين يقومون بتنظيم أمور الإنتاج لا الحكام السياسيين، والمثقفين الذين يتصارعون دائمًا على كراسي السلطة. لذلك فإنه يجب نقل زمام الأمور من طبقة إلى المجتمع، من السياسيين الطفيليين إلى أناس يُنَظِّمُون في عملهم الحياة الاقتصادية اليومية للمجتمع، فهدف المجالس العمالية هو الإدارة الذاتية للإنتاج، وهي بهذا المعنى نقيض مباشر للدولة، أي للإدارة الفوقانية، وهي نقيض مباشر أيضًا لكل حزب يستهدف القبض على السلطة وإخضاع المجتمع لهذه الإرادة الفوقانية، والبشرية لا تجد في تاريخها نضال بروليتاري مثل النضال السوفييتية الذي لم يستهدف سوى تهديم هرم العالم السياسي الذي كان سلفًا مهدومًا أمام قوى طبقية منظمة في تنظيم بروليتاري: المجالس البروليتارية! وكانت الشروط التاريخية مؤهلة لتحقيق ذلك الهدف وطنيًّا وأمميًّا، أي كانت الشروط تتجاوز بالضبط الشروط الباريسية للثورة، فالثورة، كما يقول ماركس: "تنتقد ذاتها على الدوام، وتقاطع نفسها بصورة متواصلة أثناء سيرها، وتعود ثانية إلى ما بدا أنَّها أنجزته لتبدأ فيه من جديد وتسخر من نواقص محاولاتها الأولى". وبالفعل كانت ثورة السوفييتات متكاملة في عناصرها الوطنية والأممية والتكتيكية بالمقارنة مع الكومونة الباريسية. ويمكن تلخيص هذا التكامل في الآتي:

- كانت الدولة الروسية منهارة سلفًا.
- وتشكلت البروليتاريا في منظمة طبقية على الصعيد الوطني -العمال، والفلاحين، والجنود- منظمة لا مثيل لضخامتها في تاريخ الثورات البروليتارية في العالم.
- بجانب التعاونيات الإنتاجية في المعامل الروسية -السوفييتات، ظهرت التعاونيات الاستهلاكية أيضًا منذ بداية الثورة، وكان الهدف من التعاونيات الاستهلاكية هو تنظيم اجتماعي جديد للتوزيع.
- وتشكلت ميليشيا شعبية من قوات عسكرية مدربة ومسلحة ومنظمة على مستوى المجتمع كله.
- وانطلقت الثورات المجالسية في الكثير من البلدان الأوروبية اعتبارًا من عام 1918م مثل النمسا، وهنغاريا، والمانيا، وايطاليا.
- وبهذا المعنى فتجاوزت السوفييتات اخطاءها التكتيكية بالمقارنة مع ثورة الكومونة، فالتجارب التكتيكية للثورة ليست أقل شأنًا من تجاربها العملية. فوقوف الكومونة في حدود معينة ومباشرتها لتنفيذ مهماتها بدلا من الاستمرار في الهجوم، قد جعلا عملية سقوط الكومونة أسرع، ومن الناحية العسكرية فإن الدفاع هو موت الانتفاضة المسلحة، فليس الدفاع سوى المجازفة بحياة الانتفاضة وثورييها، هذا وما دام الثوريون يواجهون جيشًا منظمًا -الدولة- له إمكانية قتالية كاملة نظرًا للتكنيك الحربي والقوى المادية والبشرية الاحتياطية الهائلة التي بحوزته. فبالمقارنة مع الكومونة فكانت السوفييتات تتمتع بطابع هجومي الشامل من جميع الجهات.

أما ضعفها فكان يتلخص في تسلل الأحزاب السياسية اليها، فكل الأحزاب السياسية، وخاصة الاشتراكيين – الديمقراطيين -البلاشفة والمناشفة- كانوا يتنازعون على السلطة والمناصب في الحكومة المؤقتة، بينما البروليتاريون السوفييتيون كانوا ما يزالون واقفين خلف المتاريس في شوارع المدن، وعلى عكس الثورة السوفييتية التي قامت بتحطيم الدولة في كل مراكزها الرئيسية -الشرطة والجيش- فالاشتراكية - الديمقراطية بالذات - مصيبة أمام الثورات البروليتارية- قامت بإعادة الحياة إلى الدولة القديمة بعد انتصارها في السلطة؛ ونقلت من جديد الأسلحة والصلاحية التي كانت تقع تحت سيطرة الثوار السوفيتيين، إلى السلطة السياسية من جديد من خلال انقلاب سياسي في أكتوبر عام 1917م، ثم إعادة الحياة إلى الجيش النظامي بسرعة، وتقويتها بأجهزة الشرطة، ومنظمة استخباراتية مثل منظمة التشيكا -القوات الخاصة- التي أسسها لينين.

انقلاب أكتوبر:

بعد الفشل التام للبلاشفة في السوفييتات ثم في انتخابات الجمعية التأسيسية أيضًا كانوا أقلية ضئيلة في الحالتين، فبدأ البلاشفة بتوجهاتهم الوحدانية، ولم يُعَبِّر عن البلاشفة في وحدانيتهم هذه المرة سوى تنظيم مؤامرة انقلابية.

كان الصعود إلى السلطة هو الحلم الأول والأخير للبلشفيين. ولقد تحقق هذا الحلم في الأشهر الأخيرة من عام 1917.
لقد جرت انتخابات الجمعية التأسيسية -البرلمان- في روسيا. ولم يحصل البلاشفة إلا إلى أقلية الأصوات. فحسب زعيم البلاشفة: "وجد البلاشفة انفسهم أقلية في الجمعية التأسيسية - لينين". ورفض بعد ذلك نواب البرلمان بصورة طبيعية إقرار مراسيم حكومية صادرة عن البلشفيين. لذلك تم حل الجمعية التأسيسية بقوة من قبل البلاشفة. وردًّا على الاحتجاجات الجماهيرية، فأمر لينين بإطلاق النار على مظاهرة سلمية، وأدى هذا إلى مقتل 21 شخصًا. واعتبارًا من ذلك التاريخ، انطلقت الحرب الأهلية في روسيا.

في آب عام 1917م، قرر أحد الجنرالات الروس (لافركورنيلوف) الهجوم على العاصمة بتروغراد ردًّا على إعلان رئيس الحكومة الروسية كيرنسكي، الهزيمة النهائية في الحرب. وقام كيرنسكي باستشارة البلشفيين بالذات في موضوع المحاولة الانقلابية لكورنيلوف، حيث كان البلاشفة يشكلون ضلعًا من حكومة كيرنسكي، لم ينتصر كورنيلوف في محاولته. ولكن في 25/ 10/ 1917 تمكن حزب البلاشفة بالتعاون مع الحزب الثوري الاشتراكي الروسي من الإطاحة بحكومة كيرنسكي من خلال مؤامرة انقلابية. وأُعْلِن عن حكومة جديدة تسمى الجمهورية الاشتراكية. واعتبارًا من استقراره في السلطة، فقام البلاشفة باحتكار كل السلطة لنفسه بصورة تامة.

هدف البلاشفة:

عند وصولهم إلى السلطة، رفع البلاشفة شعارات الفلاحين والشعارات القومية بالذات - الدفاع عن الوطن والحفاظ على مستعمرات الامبراطورية الروسية، وجعلوا بهذه الصورة من الفلاحين أعداء البروليتاريا باسم طبقة متحالفة معها، فبفضل البلاشفة، انتصرت القرى في النهاية وممثلوها -الفلاحين- على المدن وممثليها -البروليتاريا- فأحل البلاشفة شعارات: الأرض، السِّلْم، الحرية، وحق تقرير المصير، محل شعارات المجالس العمالية التي تستهدف في الأساس تنظيم المجتمع من جديد ابتداءً من الصناعات الكبيرة في المدن. كما لم يتأخر البلاشفة عن بناء الهرم السياسي من جديد، بل وأعلى مما مضى على تاريخه في روسيا والعالم أجمع. وبصورة طبيعية جابهت الثورة، وخاصة ثورة مثل السوفييتات، ثورة مضادة لا مثيل لها في التاريخ، فكان من غير الممكن القضاء على السوفييتات دون استخدام اسمها، وتشويه أهدافها في ظل غطاء بروليتاري من خلال تعريف المجالس العمالية -الإدارة الذاتية للعمال- بدولة عمالية، وتعني العبارة في الواقع: الإدارة الذاتية للدولة! علمًا بأن الإدارة الذاتية تُعَبِّر فقط عن القضاء على إدارة الدولة.

وهكذا، فيمكن تلخيص الضعف الأساسي للثورة في الآتي:

- على عكس ثورة الكومونة، لم تقدم الأحزاب السياسية برنامجًا بروليتاريًّا مشتركًا لتطوير أهداف السوفييتات وتوحيدها في منظمة وطنية شاملة.
- ولم توجد التنظيمات تستهدف تطوير أهداف الثورة كما أعلنتها السوفييتات بنفسها: الإدارة الذاتية للمجتمع!
- وأصبحت الصراعات العُصْبَوِيَّة للأحزاب السياسية داخل السوفييتات أساس انشقاق البروليتاريا وتقسيمها إلى فرق انتخابية للأحزاب في الحكومة البرجوازية؛ فالأحزاب كانوا يستهدفون اقتسام الغنيمة لا تطوير الثورة.
- وأصبح الفلاحون بهذه الصورة مستهدفين في هذا التوجه الانتخابي، حيث إنهم كانوا يشكلون أكثرية المجتمع الروسي وما حولها من القوميات.
- جاء الفلاحون وشعاراتهم إلى مقدمة المسرح، والفلاحون لا يستهدفون بطبيعتهم الاجتماعية إلغاء الملكية.
- بهدف جذب الفلاحين إلى مدار سياسة البلاشفة؛ وقد كانوا يمثلون في الواقع الفلاحين والانتلجنسيا، رفعت البلاشفة شعار (دكتاتورية البرولتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية).

هكذا قضى البلاشفة على منظمة بروليتارية لم يقبل بها البلاشفة يومًا من الأيام، فبعين الحقد كان ينظر البلاشفة إلى السوفييتات، إلى الإدارة الذاتية للمجتمع، وإن حزبهم كان يشكل أقلية ضئيلة فيها، فالبلاشفة كانوا يشكلون الأقلية في السوفييتات البروليتارية والجمعية التأسيسية أيضًا، أي لدى كل من البروليتاريين الكومونيين والبرجوازيين الديمقراطيين على حد سواء.
واعتبارًا من يوم انتصارهم بدأ البلاشفة إطلاق حرب أهلية للحفاظ على السلطة المحبوبة لديهم باسم (دكتاتورية العمال والفلاحين)، ثم القضاء على الكومونة والسوفييتات وأهدافها الاجتماعية ومحو كل تقاليدها من خلال دكتاتوريته الحزبية الرهيبة التي أعلنتها البلاشفة باسم جمهورية البروليتاريا.

الجمهورية:

إن الخيانة العظمى للاشتراكية - الديمقراطية الروسية المتمثلة في البلشفية والمنشفية في الثورة الجديدة، تبدأ من توجههم إلى العمل الوحداني أولا، ثم تحويل المنظمة الثورية للبروليتاريا إلى معرض لاستعراض شعاراتهم الحزبية السياسية، وخنق السوفييتات بتحويلها إلى جمهورية برجوازية من البداية، ثم إلى ما تسمى بالجمهورية البروليتارية أخيرًا، جمهورية المثقفين البرجوازيين –الأنتلجنسيا، والفلاحين الذين يقدمون تصفيقهم بحماس للجمهورية التي تؤمن لهم حقوقهم، فهدف البلاشفة هو كان نسيان البروليتاريا الهدف المنشود لديها: الإدارة الذاتية للمجتمع من خلال خلع الحكام السياسيين من مناصبهم الرابحة واللصوصية، وتحويل الوظائف السيادية إلى وظائف اجتماعية يدير المجتمع من خلالها أموره اليومية الاقتصادية.
فالبروليتاريا لم تستهدف يومًا من الأيام إقامة دكتاتورية لا في الكومونة ولا في السوفييتات، بل على عكس ذلك استهدفت من نضالاتها انهاء الحياة المذلة للبشر، إنهاء السيادة والخضوع. فالسوفييت مثل الكومونة، كانت الخطوة العملية الأولى لاستلام المجتمع زمام أمور إدارته بنفسه، ولكن كيف يا ترى يحقق المجتمع هذا الهدف دون نزع مسبق للحكام من السلطة التي تعطيهم حقًّا إلهيًّا في الحكم على البشر؟ فـ (دكتاتورية الإنتلجنسيا والفلاحين)، تمثل فقط مصالح الأقلية السيادية لا مصالح المجتمع كله، فالإنتلجنسيا، محبي الجمهورية، هم الذين خلقوا هذا المفهوم: (الدولة المجالسية!)، والتي ليست لها أي معنى لذاتها في الحياة الواقعية، فالدولة والمجالسية تنظمان المجتمع بأسلوبين متناقضين، الفوقانية والذاتية، ولا يقبل أحدهم الآخر، فالإدارة المجالسية تأتي لتسيطر على إدارة الدولة، فماذا تعني إذا: الدولة المجالسية؟ فالهدف من الجمع بين المجالسية والدولة، هو تشويه طابع المجالسية للثورة البروليتارية، فالثورة البروليتارية تستهدف فقط إنهاء العالم السياسي، عالم السيادة، ولا يمكن إنهاء عالم كهذا دون القضاء المسبق على عصب حياته، أي الدولة -الجماعية السياسية وإدارتها الفوقانية، فالدولة هي الدولة مهما كان شكلها، وإنها لا يمكنها أن تغير طبيعتها الطبقية القاسية مع تغيير وجهها إلى آخر، فدولة البلاشفة قامت بتعميق تقاليد الدولة القيصرية لا تغيير طبيعتها، فإن نفي المعارضين السياسيين مثلا، والأعمال الشاقة، والمحتشدات كان قد زاد عددها بالمقارنة مع المحتشدات القيصرية، وعلى عكس التقاليد الثورية للكومونة فالجيش والأجهزة الاستخباراتية والبوليس السري، صارت أقوى من القوى البوليسية القيصرية بآلاف المرات، وسرعان ما وجد البلاشفة أنفسهم في السلطة، فبدأت الدولة التي كانت في ركوع تام أمام المجالس العمالية، بالانتعاش ثم الانتقام من الطبقة التي تهدد قدسية السيادة، فالمجتمع بحسب البلاشفة عليه الحفاظ على السيادة، وأضاف زعماء البلاشفة روايات إلى المفضلة تمس قدسية القادات السياسية أيضًا، فسيادتهم ضرورية، لأن التقدم غير ممكن دون نصائحهم الخيرية، ووعظهم السياسي، وصلابتهم الفولاذية، وعظمتهم، وكأنَّ العظمة حقيقة تاريخية لا وهمٌ يخلقه الناس، فلا يوجد بلد بروليتاري عظيم، وطبقة بروليتارية عظيمة، ووطن اشتراكي عظيم دون سيادة العظماء -سيادة الأذكياء.

الأذكياء -الأنتلجنسيا- هم الذين يعرفون كيف يقودون المجتمع إلى مجتمع جديد يسمى الاشتراكية، فلا داعي للقلق، اذ يقتصر حكم الانتلجنسيا على مواصفات الفلاسفة، وهذا ما يميز قادة البلاشفة ويؤهلهم لاحتكار المناصب السيادية في الدولة، فالتاريخ غير موجود دون وجودهم، فالانتلجنسيا هم الذين يعرفون كيف يربطون بين المهمات المختلفة للثورة البرجوازية والثورة البروليتارية في ظل جمهورية اشتراكية، فالطريق إلى الاشتراكية لا يعرفه سوى عظماء البلاشفة. وما هذا الطريق؟ رأسمالية الدولة الاحتكارية!

الأذكياء -الأنتلجنسيا، النخبة المثقفة- هم الذين يعرفون كيف يبنون (الاشتراكية العلمية)، فهم يعلمون كل شيء، وهم هدية إلهية تأتي من السماء لكي تعلم البروليتاريا علم الماركسية، نظرية بناء الاشتراكية، ولكن الوصول إلى هذا الهدف غير ممكن دون إخضاع البروليتاريا مجالسهم إلى القادات المتعلمة، والهيئات السلطوية مثل الجيش، والشرطة، ومنظمة استخباراتية مثل منظمة التشيكا الارهابية، فعلى السوفييتات -المجالس العمالية- نقل كل صلاحياتها إلى هذه المنظمة الرهيبة، إذ أرادت تحقيق أهدافها، فقوة السوفييتات هي قوة التشيكا، مثل ما اكتشف لينين، فتشيكا منظمة ذات طبيعة روسية نقية، اكتشفها في الأساس إيفان الرهيب، فمنظمة التشيكا هي المكلفة ببناء الاشتراكية، ولا يتحقق هدف ثورة السوفييتات ما لم تُخْضِع البروليتاريا ملايين العمال المنظمين في مجالسهم العمالية، إلى حزب لم يأخذ حتى أي موقع لا في السوفييتات البروليتارية ولا في الجمعية التأسيسية البرجوازية، وقد كانوا أقل الأقليات في المنظمتين. ولكن مع ذلك فهم -الأنتلجنسيا- مؤهلين لقيادة المجتمع وتوجيهه نحو الشيوعية، عبر الاشتراكية، ومرورًا برأسمالية الدولة، وكأَنَّ الاشتراكية والشيوعية مرحلتان مختلفتان من تطور البشرية.
أما شيوعية البلاشفة فتختلف عن شيوعية البروليتاريين السوفييتيين، فهذه المدرسة الجديدة للاشتراكية قامت باكتشاف طريق إصلاحي جديد لا يمكن للبروليتاريا العثور عليه: رأسمالية الدولة الاحتكارية! فالسوفييتات في الاستعجال، أما الاستعجال من الشيطان، فالعملية هذه طويلة للغاية تتطلب إجراءات أولية، حيث إن المهمة الأولى -برنامج الحد الأدنى- هي القضاء على الأقطاعية، ثم بناء رأسمالية الدولة محلها من خلال تطوير الزراعة، والصناعة، وكهربة البلاد، وتشييد الطرق، وبعدها الشروع ببناء الاشتراكية -برنامج الحد الأقصى. أما الشيوعية فستأتي بعد فترة طويلة من الزمن. فكل شيء يتوقف على سرعة تطوير الصناعة.
ولكن لا داعي للقلق، فزعماء البلاشفة هم من نوع جديد من المفكرين، لهم القدرة على التخطيط لتطوير كل ما هو ضروري لبناء الشيوعية، والمجاعة لا تخيفهم.

وهكذا، فشيوعية البلاشفة تشبه في الواقع عملية تشييد بناء تبدأ في الخريف، وينتظر دخوله ملايين الناس قبل عاصفة ثلجية مخيفة مدمرة تهب قريبًا في الشتاء، أما البلاشفة فيتوعد بأسلوبه الديماغوجي ويقول:
لا داعي للقلق، سنبني ناطحات السحاب لكم قريبًا، ولكن ينقص أولا الأسمنت، والحديد، والرافعات، والمحركات، ومعدات البناء، وكافة اللوازم الضرورية الأخرى للبدء بالعمل. لا داعي للقلق سننقذ روسيا من العاصفة الثلجية الشتوية القادمة.

وماذا حدث؟
لقد مات الملايين من البشر من الجوع والبرد في ظل قساوة هذا النظام وفي انتظار ناطحات سحاب البلاشفة -في انتظار الجنة الموعودة.
Email: [email protected]

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - طريقة لينين
رعد الحافظ ( 2010 / 12 / 8 - 13:51 )
تحيّة طيبة لهذا الجهد الكبير , أستاذ أنور نجم الدين , في شرحكَ تداخلات وتداعيات الأحداث
قبل وبعد ثورة إكتوبر أو إن شئت , إنقلاب إكتوبر البلشفي 1917 حسب تسميتكَ
في الواقع يُلاحظ القاريء مقدار الحيادية في رواية التاريخ ( السوفيتي ) ومن مختلف الزوايا والآراء وهذا ما يعطي مقالاتكَ كل تلك المصداقية الكبيرة المعروفة
***
المتابع المحايد مثلي يخرج بالتصوّر التالي
الطبيعة البشرية في السيطرة والحكم والتفرّد تفرض نفسها إن عاجلاً أو آجلاً حتى على الثوريين والمفكرين والإنتليجسيا ( لنين مثلاً ) فيمرروا رغباتهم وأهوائهم وطموحاتهم عبر الشعارات الثورية الخادعة
فمثلاً يدعو لنين الى تحويل وتسليم قوّة السوفيتات الى منظمة ( التشيكا ) التي إكتشفها في الأساس إيفان الرهيب , والغرض الذي يخفيهِ في نفسهِ هو خضوع السوفيتات أو المجالس العمالية الى سلطة حزب البلاشفة الذي لم يكن يحظى بشعبية واسعة يومها
****
تركيز لينين على ضرورة قيادة الأنتليجسيا للمجتمع وتوجيههِ نحو الشيوعية عبر الإشتراكية مروراً برأسمالية دولة البروليتاريا , ليس لي مشكلة معهُ نظرياً
لكن عملياً خلق لينين ديكتاتورية , أقوى من زمن القيصر


2 - العزيز الاستاذ رعد الحافظ
أنور نجم الدين ( 2010 / 12 / 8 - 16:08 )
ان التفرد، كما تفضلت، هو آخر المطاف سيطرة الرغبات والاهواء والطموحات الفردية على المطامح الاجتماعية.
ولا يمكننا فحص التاريخ دون طرح أسئلة تاريخية، فلا توجد قياسات وأحكام فكرية ماركسية – لينينية، بل توجد فقط (أحكام) تاريخية يمكن الاعتمادعليها في تفسير الظواهر ومسارها المحددة، فليس في مستطاع الفرد، مهما يكن من عبقريته، تحديد مسار التاريخ، فالثورة مثلا -برجوازية أم بروليتارية-، اي التحولات التاريخية، ليست من صنع الأفراد والعظماء، فماركس لم يكن موجودا في فرنسا اثناء ثورة الكومونة الباريسية، كما ولينين لم يكن موجودا في روسيا أثناء ثورة السوفييتات، فلا الكومونة ولا السوفييتات من صنع ماركس ولينين، وان كل ما يقوله ماركس عن ثورة الكومونة مثلا، ليس سوى دروس خالصة للكومونة ذاتها، فالكومونة اذا لم تكن تحقيقا لوصايا ماركس، أو بلانكي، بل أصبحت مدرسة تاريخية لكلا من ماركس وبلانكي. فمدرستنا في الأخير هي التاريخ.
اقبلوا محبتي واحترامي


3 - الرفيق انور تحية رفاقية
فؤاد محمد ( 2010 / 12 / 8 - 17:18 )

شكرا على هذا الجهد الرائع بكشف الحقيقة
اظم صوطي لصوط الاستاذ رعد الحافظ
لاكني ليس محايدا منذ ان قرات مقلاتك اعلنت ايماني المطلق بالكومونه
تذكرني يا رفيق انور بالرفيق العفيف الاخضر
اعانقكم ودمتم للنضال

اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1275 #socialist #socialism #gaza


.. كلب بوليسي يهاجم فرد شرطة بدلاً من المتظاهرين المتضامنين مع




.. اشتباكات بين الشرطة الأميركية ومتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين ب


.. رئيسة حزب الخضر الأسترالي تتهم حزب العمال بدعم إسرائيل في ال




.. حمدين صباحي للميادين: الحرب في غزة أثبتت أن المصدر الحقيقي ل