الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكومونة والسوفييتات -9: الجنة الموعودة

أنور نجم الدين

2010 / 12 / 10
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


الجنة الموعودة:

بعد استيلاء البلاشفة على السلطة، عادت البروليتاريا في المدن الروسية إلى ساحة النضال، فإزاء إعادة الحياة إلى الدولة المحطمة، كانت البروليتاريا لا تزال بحاجة إلى منظمتها الطبقية لتحقيق أهدفها الاجتماعية: إدارة المجتمع الذاتية للإنتاج! فسرعان ما وصل البلاشفة إلى سدة الحكم، اكتشفت البروليتاريا أن هدف (الدولة السوفيتية) ليست سوى تخريب السوفييتات، فالدولة هي الدولة مهما كان شكلها، ولها هدف واحد: سحق كل محاولة كومونية! أي العمل المجالسي الذي يستهدف في الأساس تنظيم المجتمع من قاعدته الاقتصادية من خلال التعاونيات الإنتاجية، وبالفعل أصبحت التعاونيات هذه واقعة فعلية منذ بداية تنظيم البروليتاريا في مجالسها العمالية، فالجنة الموعودة لم تكن سوى القضاء على هذه التعاونيات وإعادة المجتمع إلى الجحيم السابق للدولة. ولجواب التاريخ لوعود الاشتراكية - الديمقراطية المتمثلة في البلاشفة، فيكفي ان ننظر إلى ما تركه البلاشفة أنفسهم وراءهم من مزبلة رأسمالية مثل مزبلة روسيا اليوم، فهل ممكن يا ترى أن تترك سبعون سنةً من الاشتراكية وراءها مجتمعًا لا يزال يتخاصم فيه أفراده مثل أي مجتمع رأسمالي آخر؛ ويعيق فيه كل فرد بدوره تطور الآخر في المزاحمة؟

التعاونيات:

كان هدف الثورة السوفييتية الروسية هو نفس هدف ثورة الكومونة الباريسية، فمثل الكومونة التي بدأت منذ البداية بتنظيم الإنتاج الصناعي في الجمعيات التعاونية، ووضع خطة مشتركة لتوحيد هذه الجمعيات في جمعية اجتماعية واحدة كبيرة، قد قامت السوفييتات ايضا ومنذ البداية بتوحيد القوى في المجالس الإنتاجية العمالية في المعامل الروسية، وبجانب هذه المجالس، فقد ظهرت التعاونيات الاستهلاكية أيضًا منذ بداية الثورة، وكان الهدف من هذه التعاونيات هو تنظيم اجتماعي جديد للتوزيع أيضًا. وهذا هو الأساس التاريخي للإنتاج الشيوعي، وبخصوص التعاونيات التي كانت الكومونة تستهدف من انشاءها، فيقول ماركس:

"إذا كان للإنتاج التعاوني ألا يبقى كلاماً فارغا وخادعاً، إذا كان له أنْ يحلَّ محل النظام الرأسمالي، إذا نظمت مجموعة تعاونيات الإنتاج وفقاً لخطة مشتركة، ووضعته تحت إشرافها هي، فوضعت بذلك حداً للفوضى الدائمة، وللنوبات الدورية التي هي القضاء المحتوم للإنتاج الرأسمالي- أفلا يكون ذلك أيها السادة، شيوعية، شيوعية ممكنة؟" (كارل ماركس، الحرب الأهلية في فرنسا).

ان انتصار الثورة لا يعني اذا سوى انشاء الكومونات –التعاونيات- وبمشاركة كل فرد من أفراد المدينة والريف، أي خضاعها للاشراف الجماعي للمجتمع، فالملكية الجماعية هي الكومونات وليست ملكية الدولة -القطاع العام-، وهي الادارة الذاتية لا إدارة فوقانية، الدولة. وكما يقول ماركس:

فـ "اذا ما استقر نظام الكومونة في باريس والمراكز الثانوية، تنازلت الحكومة المتمركزة عن مكانها لادارة المنتجين الذاتية في المقاطعات" (نفس المرجع السابق).

أما بعد انقلاب أكتوبر فقام البلاشفة بحل السوفييتات تدريجيًّا، أي قاموا بتحويلها إلى أجهزة حكومية، وإغلاق كل هذه التعاونيات الاستهلاكية الحرة والتي اكتشفتها السوفييتات العمالية بنفسها، وحلت محلها تعاونيات الدولة. وحسب مرسوم جمهوري في 20/ 3/ 1920، أُخْضِعت هذه التعاونيات كلها لمفوضية المواد الغذائية. وبالطبع انتهت العملية باعتقال الكثير من معارضي الدولة في هذا القرار.
ودون أي شك، فلو انتظم المجتمع كله في التعاونيات التي خلقتها السوفييتات البروليتارية لكان القضاء على السوفييتات أمرًا مستحيلا، وكانت هذه التعاونيات هي أيضًا وسيلة وحيدة لمنع المجاعة المرعبة التي أماتت الملايين فيها في عهد لينين من جهة، وفي ثبات الثورة وطنيًّا وتطورها عالميًّا من جهة أخرى.

لقد حول البلاشفة المنظمة المجالسية التي كانت في يد المجتمع لتنظيم إنتاجه في شكل تعاوني إلى خلايا قاعدية للدولة، فالمجالس تحولت إلى أداة في يد الحزب وأعضائه كليًّا، فحزب الأقلية المدمرة أصبح كل شيء، أما الجماهير البروليتارية الغفيرة المبدعة فأصبحت لا شيء.
فحسب وصفة لينين للاشتراكية، تحول المجتمع كله إلى دائرة ومصنع كبير تخضع لرقابة الحزب، فحل البلاشفة دكتاتورية الزعماء، والاستبداد التشيكي (نسبة إلى منظمة التشيكا الارهابية)، والمركزية البيروقراطية، والحزب القائد، محل إرادة الجماهير وتنظيمهم السوفييتي، وبالفعل انتصر البلاشفة في تطبيق هدفهم المنشود لكراسي (خطتا الاشتراكية - الديمقراطية في الثورة الديمقراطية)، و(الدولة والثورة) لزعيمها لينين، وهي القضاء على الثورة الكومونية وتشويه أهدافها باسم (الدولة المجالسية).

إذًا فقد بقي كل شيء على حاله: الإرهاب البوليسي، والقمع، والمحتشدات، والأشغال الشاقة من جانب البلشفيين الجمهوريين، والاستمرار في الإضرابات، وإغلاق المعامل، والمظاهرات، والتمردات من جانب البروليتاريين الكومونيين فيما بين 1918 - 1921.

كانت هذه هي الصورة الأولى للعلاقة بين البلاشفة والسوفييتات، فحرمت مجالس العمال من كل صلاحياتهم، ونقلت الدولة صلاحيتهم إلى منظمة التشيكا الاستخباراتية القامعة. وبدأت البلاشفة بطرح مندوبيها -فقط مندوبيها- في المعامل للانتخاب وبحضور حراس الدولة -التشيكا، البوليس السري للدولة. وهكذا، نظم البلاشفة من جديد نظام العمل المأجور، ولكن بين العمال والدولة، فالجنة الموعودة لم تكن إذًا سوى جعل الدولة صاحب العمل، والمجتمع كله مأجورَها. ولقد أصبحت التعاونيات البروليتارية -الكومونات الإنتاجية- مستهدفة من قبل هذه الدولة أينما وجدت، وماتت التعاونيات في النهاية في مهدها.

كومونات أوكرانيا:

مع تقدم البروليتاريا في المدن الروسية، وإنشاء الكومونات -التعاونيات البروليتارية- اتجهت القرى أيضًا نحو تنظيم نفسها في الكومونات الإنتاجية، فماخنو نستور، وقد كان أناركيًّا فعالا في ثورة السوفييتات عام 1905 الروسية، وكانت السوفييتات مدرسته الوحيدة، قام بمشاركة فعالة في الكومونات والتنظيم العسكري في منطقة جنوبية في أوكرانيا تقيمها 7 ملايين نسمة، ولها تقاليد تاريخية ثورية في التمردات.

فيما بين 1919 – 1921 قام الفلاحون أيضًا بتنظيم أنفسهم في جمعيات قروية، والبلديات، والمجالس الحرة -حر من الأسياد السياسيين- وماخنو كان قائد جيش الأنصار، فأسس الثوار الكومونيون قوة عسكرية منظمة منذ بداية الانخراط في الكومونات -التعاونيات- الإنتاجية، وقد قرر مؤتمرهم: منع الأحزاب السياسية في الكومونات، إنكار كل دولة سياسية أو دكتاتورية أو الفترة الانتقالية، ودخول الإدارة الذاتية عن طريق المجالس العمالية.
أما الضعف الأساسي لهذه الحركة فيتمثل في أنها عقدت التحالفات مع الدولة البلشفية ضد الجيش الأبيض القومي الأوكراني. وبعد هزيمة القوات البيضاء في تشرين الثاني 1920، بدأ البلشفيون مباشرة بالهجوم على مراكز هذه الكومونات، والغاية الأولى والأخيرة هي سحق قوات الجيش الثوري لهذه الكومونات أيضًا، وخاصة بعدما رفض الجيش الثوري الانضمام بجيش تروتسكي الأحمر.
وهكذا، نجح في النهاية جيش تروتسكي الاستيلاء على أوكرانيا، وتحت العسف البلشفيكي، أعلن البلاشفة الحق المزيف لتقرير المصير.

حق تقرير المصير المزعوم:

في 20/ 11/ 1917 أعلنت الدولة الأوكرانية انفصالها عن الدولة الروسية، وبعد أوكرانيا، أعلنت كل من جيورجيا، وآذربايجان، وأرمينيا انفصالها عن الإمبراطورية الروسية، القديمة والجديدة.
ولكن لم يحالفهم الحظ في تأسيس دولتهم المستقلة، فبدأت الدولة الروسية الجديدة -دولة البلاشفة- بالهجوم دون التأخير على تلك الدول بقيادة تروتسكي.
وأثناء الهجوم على الدولة الأوكرانية كان جيش تروتسكي يتألف من 180.000 جندي. واحتل هذا الجيش أخيرًا وبعد الحروب الدموية، لا أوكرانيا فحسب، بل كل الدول التي أعلنت استقلاليتها عن الامبراطورية الروسية القديمة والحديثة.
وهذا هو كان حق تقرير المصير المزعوم -الجنة الموعودة- في ظل سيادة البلاشفة، فأخضعت روسيا من جديد كل الدول التابعة لها قديمًا، عدا بعضها، وأنشأت إمبراطورية جديدة تسمى الدولة السوفييتية، فكلمة السوفييتات أصبحت كلمة سحرية في يد البلاشفة لتدمير كل ما كان يخالف مصلحة الإمبراطورية الروسية الجديدة، ابتداءً من السوفييتات الروسية، ومرورًا بالسوفييتات الأوكرانية، وانتهاءً بالسوفييتات في كرونشتاد.

كرونشتاد:

في صباح 7/ 3/ 1921 بدأ الجيش الروسي بقيادة تروتسكي بإطلاق نيران المدافع على مدينة كرونشتاد المتمردة، فكرونشتاد لم تقبل سيادة البلشفية عليها إطلاقًا، لذلك قام البلاشفة بعنف شديد بانتزاع المدينة بالسلاح بعد قتال دموي، وإعدام ونفي الثوار من قبل قوتي الدولة القامعة: الجيش والتشيكا التي لم تكن مهمتهما سوى سحق السوفييتات بعنف، فقد قام البلاشفة بإبادة البروليتاريين الكرونشتاديين باسم البروليتاريا ودكتاتوريتهم المزعومة، فالجنة الموعودة لم تكن سوى إعادة التقاليد السلطوية الموروثة من القيصرية، وفرض الهيمنة السياسية للحزب الحاكم على المجتمع الروسي وما حوله من القوميات الأخرى بنفس الأسلوب القيصري، ولكن باسم البروليتاريا، فالقتل، والإرهاب، والمحتشدات، والأشغال الشاقة، وتعفن المعارضين في السجون ومعسكرات الاعتقال، والخضوع التام للحزب وقاداته، كانت هذه هي الكلمة الأخيرة لدولة البلاشفة -الإمبراطورية الروسية الجديدة.

حزب البلاشفة:

إن طريق البلاشفة في الحكم يكفي لتعريف آمال هذا الحزب الصغير وأهدافه السلطوية، فعلى عكس دروس الكومونة والتي لا تُسْتَخْلص نتائجها إلا بفقدان كل حزب خصوصيته الحزبية أثناء الثورة، قام البلاشفة بإخضاع كل المجتمع لإرادة أقلية الأقليات في المجتمع الروسي، فأصبح الحزب كل شيء والسوفييتات لا شيء، فكل تنظيم بروليتاري، حسب تجارب الكومونة نفسها، سيصبح أداة فعليَّةً في يد البروليتاريا المنظمة في الكومونات، فالحزب يفقد خصوصيته بصورة تامة أثناء الثورة ويحول مهماته الخاصة إلى مهمات كومونية -مجالسية- فبانتصار الكومونة أو المجالسية، سينتهي دور الحزب كمنظمة خاصة لها أهداف خاصة، فيجب أن يعبر هدف كل تنظيم عن هدف الكومونة ذاته، فليس للأحزاب شعارات سياسية خاصة ما لم يتحول هذه الأحزاب إلى بؤرة الانقسامات، وشق الحركة البروليتارية، ومن ثَم توجيه البروليتاريين المنقسمين إلى فرق متضادة، لتحقيق مصالحهم الحزبية الخاصة والتي تتلخص في آخر المطاف في الصعود إلى العرش، فحسب تجربة الكومونة، تحاول البروليتاريا تحويل كل التنظيمات الاجتماعية إلى تنظيمات جماهيرية خالصة تستهدف تثبيت الإدارة الذاتية للمنتجين وتطويرها لا تحويلها إلى تنظيمات حزبية متفرقة، ثم مؤسسات بوليسية متسلطة على المجتمع، فالكومونة تقوم بتذويب كل أهداف خاصة في هدف اجتماعي واحد: إخضاع الإنتاج إلى إدارة جماعية من خلال هدم السيادة!
Email: [email protected]

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحقيقة التي لا بد من كشفها
فؤاد محمد ( 2010 / 12 / 11 - 05:58 )
تحية وشكر لهذا الجهد الرائع في كشف الحفائق التي صححت كثير من الاخطاء
وكشفت الانحرافات وعرت كل الزيف والخداع للبرجوازية البيروقراطيةوخاصة سارقي ثورة اكتوبر المجالسية
اعانقكم يا رفيقي انور


2 - العزيز الرفيق فؤاد محمد
أنور نجم الدين ( 2010 / 12 / 11 - 07:00 )
ما نحاول ابرازه في الأخير هو الآتي:
إذا كان التطور التدريجي نحو الاشتراكية ممكنًا في (الفترة الانتقالية) وفي ظل رأسمالية الدولة، فالتطور السلمي للرأسمالية نحو الاشتراكية سيكون ممكنًا أيضًا في ظل برلمان تشرشل.
اذا فما تقدمه الاشتراكية الإصلاحية من البرامج الإصلاحية لتعديل النظام الرأسمالي القائم، وعلاج أمراضه المزمنة، ليس سوى نفس المنهج الإصلاحي القديم، والجديد في هذا المنهج هو تسميته باسم البروليتاريا وتشويه المنهج الشيوعي لتحويل أسلوب الرأسمالي في الإنتاج إلى أسلوب تعاوني من خلاله، فالتدريجية التي تقترحها الاشتراكية الإصلاحية لما يسمى ببناء الاشتراكية من خلال رأسمالية الدولة، هي نفس التدريجية التي تجري بصورة مسبقة في المجتمع الرأسمالي وخلال تراكم الأشياء التاريخية ذاتها. ولا يكون هناك أي فرق بين ما يسمى بالتطور السلمي من الرأسمالية إلى الشيوعية والتطور التدريجي في ما يسمى بالفترة الانتقالية من رأسمالية الدولة إلى الاشتراكية. وليس هذا سوى علاج تسكيني لأمراض المجتمع الرأسمالي.
وهذا هو الاختلاف بين المنهج الكوموني للقضاء على الاسلوب الرأسمالي في الإنتاج ورأسمالية الدولة الاحتكارية.
ت

اخر الافلام

.. الحضارة والبربرية - د. موفق محادين.


.. جغرافيا مخيم جباليا تساعد الفصائل الفلسطينية على مهاجمة القو




.. Read the Socialist issue 1275 #socialist #socialism #gaza


.. كلب بوليسي يهاجم فرد شرطة بدلاً من المتظاهرين المتضامنين مع




.. اشتباكات بين الشرطة الأميركية ومتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين ب