الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عين النخلة

ناصرقوطي

2010 / 12 / 14
الادب والفن


قصة قصيرة

(( عين النخلة ))
ناصرقوطي

*(( قال :
أنمضي الليلَ هنا
والبحرُ على بعد ذراعين
بويب !
جاء المد
واتسعتْ عينُ النهر ِ
ونام البحر
صغيراً
في المهدْ )) .






قبل أعوام خلت .. قبل أن يداهم المدينة طوفان الحروب ويشيب نواصي الصغار في المهود ، منتصف السبعينيات ، يوم كنت لا أفارق جرف الشط ، بين السفن العملاقة المعطوبة . رسمت بقلم الرصاص صورة للصمت الذي كان طاغيا على المشهد . رسمت جدارا حجريا يغوص في مياه " الداكير " حيث صدأ السفن يتحلل ويذوب في مياه شط العرب .. رسمت شخصا مقرفصا ـ هو أنا ـ يلوذ بوحدة غارقة مريرة ، قرب جدار حجري متآكل من الوحشة والنسيان ، كما رسمت وبخطوط أفقية ، متعرجة ، متقاطعة ، عند ضفة الصورة ، الضفة الأخرى للنهر ، بقايا جدران فنار قديم ، وعلى يميني كان جسد فاره يعلو ، يحاول أن يبتعد عن الأرض .. يغادر المكان .. كانت نخلة عملاقة ترتفع كنت قد أجريت عليها مسحا بصريا شاملا ـ قبل شروعي برسم المنظر ـ بدءاً من جذورها التي نفرت فوق سطح تربة الجرف حتى هامتها التي كانت تسرّح ضفائرها الطويلة التي وخطها اصفرار الكهولة عند نهايات سعفاتها ، وهي تسترخي بوداعة في رطوبة ذاك الطقس المتقلب المزاج . كل يوم .. كل مرة .. كل ثانية كانت عيني ترسم مشهدا جديدا من التحولات السريعة والخاطفة التي كانت تطرأ على المكان ، غير إنها ـ عيني ـ كانت أول ما ترى وتسقط على ثقب في جذعها وكأن هناك قوة جاذبة تسحبك إليها وتطرد ذاك الامتداد الفسيح للشط وتلغي كل المشاهد الأخرى التي ممكن أن تراها العين . ذاك الثقب في جذعها كان أقرب إلى عين إنسان وكأن نحاتا عمل بأزميله ليال طوال حتى يخرج بتلك النتيجة المذهلة . كانت عين فارغة إلا أنها راصدة ، فجوة من ظلام كانت ..غير إني أحسست ـ ومن نظرتي الأولى لها ـ إنها كانت تشاركني رؤية وحشة المكان ..تشاركني الرؤيا .. تشاطرني سلوة عزلتي .. ترى معي بقايا ريش النوارس الميتة .. عيون الأسماك المفتوحة الطافية على السطح ، المقذوفة نحو الجرف . مرأى الزوارق التي تحمل على متنها ثلل الفتيات والفتيان وأهازيجهم التي تتناهى وتخترق خلوتنا تلك . كانت العين تشاركني النظر والبصيرة غير إنها لا تبوح .. كانت تلك العين المستفِزة التي حفرت أسفل جذع النخلة دعتني ان أُقلب شتى التساؤلات حتى انتهيت إلى تفسير وحيد أخير وهو أن الإنسان لا يبصر حتى تتقادم به الأعوام ليغدو أكثر حكمة وبصيرة من شبابه وما الثقب في ساقها إلا علامة دالة وفارقة لبداية موتها .. فهي تشيخ من رؤية الطارئين على الحياة .. من الذين يلفظون سمومهم من زيوت ناقلات النفط .. تلك الكائنات العملاقة التي لاتني تدفع بسمومها نحو الجذور . الخلاصة التي توصلت إليها وبمعادلة بسيطة ان الثقب في الساق قد حدث نتيجة لتفسخ بعض أنسجته وموت النسغ فيه .. ما زادني يقينا أن ثمة ثقوب سود صغيرة كانت تستشري وتنتشر كالبهاق وهي تحيط بتلك العين الوحيدة . كنت كل يوم .. صباحا .. مساءً .. كل مرة ينزلق فيها قرص الشمس وراء الضفة الأخرى ، وأنا أرتكب عزلتي ، أجلس وحيدا لأرقب تحولات الضياء والألوان التي تتغير على تلك العين . وبمرور الأيام توطدت علاقة غامضة معها .. ألفة غريبة فيها من البوح والشجن كما لو بين كائنين حيين .
في العزلة تلك وعبر تراكم وتوالي الأعوام كان الثقب يتسع والعين تفقد بريقها ـ رغم تراكم الظلمة فيها ـ فيما راحت مداركي تتفتح وتنبثق أسئلة كثيرة تزداد حراجة حول أصل الأشياء كلما تقادم الزمن .. أصبحت أعي أي تغيرات خطرة ومؤلمة بدأت تطرأ على مياه الشط ، قبل أن تتسلق نظراتي من تلك العين المحفورة في أسفل جذع النخلة حتى قلبها الذي غزاه الاصفرار ، وأنا أرى انعكاس صورتي في مرآة ذات المياه ، وكيف دب البياض نحو هامتي في الوقت الذي رحت أفكر فيه بما تتعرض له تلك النخلة التي تواجه ـ وحدهاـ كل السموم التي تتجرعها بصمت رغم جذورها الضاربة في أعماق التربة .
مرة تساءلت ..
ـ ترى ما الذي دفعني نحو هذا الجرف ..
أجبت نفسي وأنا أعد بعض خساراتي والكثير من الأحلام والأمنيات المؤجلة ..
ـ إنها الصدفة العمياء لا أكثر ، هي التي أوجدتك وجذرتك على هذا الجرف المضاع وما رؤيتك للثقب الأسود .. تلك العين الوحيدة التي ما انفكت ترقب العالم إلا مبعوث إليك .. لتحاصرك وتكون رقيبا عليك وعلى كل ما يحدث على سطح مياه شاطئك .
ـ عليك أن تغادر إذن .. الفجوة تتسع والهوة تكبر ولم يبق أمامك إلا قليل القليل .
سمعت همسا خافتا كما لو كان ينبعث من ساق النخلة المواربة ، كما لو يجيء من المويجات الخدرة المضطربة في سطح الماء ، وأنا أنظر إلى صورتي المنعكسة على صفحة المياه التي راحت تزداد قتامة بين المويجات تلك ، والتي ماانفكت تصدم بعضها وتضطرب لتشوه وتعيق عيني الكليلتين عن رؤية صورة وجهي المنعكسة على سطح مرآة الشط ، فيما راودني إحساس بالغربة عن المكان وعن كل ما يحيطني مما جعلني أعيد رسم المشهد المكرر في صفحة ذاكرتي .. رتابة السفن الغارقة .. الأجنحة المفروشة للنوارس الميتة بين صدأ المياه التي كانت تميل إلى لون أخضر صدئ لكثرة النفايات التي كانت تُلقي على الجرف .. أغان الهجران واللوعة ذاتها .. سطوة التحولات السريعة .. في الوقت الذي أعادت ذاكرتي ومضات بعيدة من الطفولة والصبا .. استرجعت الذاكرة سباق تسلق ساقها وكيف كنت أتغلب على أقراني في الوصول إلى قلبها وأنا أرمي لهم رطبها .. حتى إني ذات مرة وخلال صعودي إلى قلبها فاجأتني أفعى فأمسكتها من عنقها ورميتها في المياه .. تلك الحادثة التي ظل رفاقي يتكلمون عنها ويلوكونها بألسنتهم الذربة في الوقت الذي كنت أنصت لهم مزهوا .
ـ هاهو مصطفى الذي لم يخش الأفعى ..!.. جاء مصطفى الذي أمسك بعنق الأفعى دون أن يرتجف .
تلك الحادثة التي ضربت جذورها في الذاكرة دعتني أعيد تفاصيلها بدقة .. يومها كنت خائفا وأنا أمسك عنقها ولكن لحظة رأيت عينها الزجاجية الصغيرة اللامعة تحت وهج أشعة الشمس وتحسست جلدها المنزلق الكريه الذي طالما اقشعر له بدني ، تساءلت ـ لحظتها ـ كيف تجرأت وأمسكت عنقها دون أن أخشى لدغتها وسمومها وأنا الذي لم أعتد على مسك فراشة من جناحيها ... أطرقت لحظات قبل أن أجيب عن سؤالي وقلت :
ـ طالما أنك تضع الكائن في مرتبة عليا فأنت لا تخاف مادمت لا تؤذي أحدا ..
ـ لكنك حصدت الكثير من سموم وأذى الآخرين ولم تجد لك طريقا لتنجو بنفسك ..
سألت نفسي وأنا أتخيل سموم الأفعى تتصاعد في النسغ .. تتسرب إلى الجذور ..
ـ لست وحدي .. فالنخلة تموت معي ..
ولأن لا أحد يسمع الصوت أو يرى زاوية الجرف الذي كنت أرتكن إليه بدأ يعتمل في آتون الذاكرة وطيس يشتعل .. هاجس للهجرة بعد أن حاصرتني الوحشة من كل مكان ونشبت أظفارها في شغاف الروح .. كانت الهوة تتسع سريعا بيني وبين المكان الوحيد الذي أحببت وكأن أياد خفية تزيد تلك الهوة اتساعا بيننا .. حتى غدت مساحة العين الظلماء في جذع النخلة تغدو بحجم قلب بشري .. مثل شدق أفعى عملاقة تلتهم العالم .. تفيض لتحتوي الأعماق وتطوي مئات من العقد والهكتارات من مياه الشط التي تفضي إلى بحار شاسعة واوقيانوسات مخيفة العمق .. لتختفي تلك النخلة .. بسعفها .. بخصلات شيبها .. ويغدو الثقب كل المنظور الذي كنت أطل من خلاله لكي أرسم المشهد الذي أحببت .. رحت أجمد صورته أحنطها في الذاكرة حتى لا تضيع . حتى إذا ما حوصرت من الظلام المستشري ، تركت الجرف .. وغارت مدية الفراق بعيدا .. حين انبثق صوت في الأعماق ينعب كالبوم:
ـ عليك بالهجرة قبل أن يغزوك الظلام ويغمر سواحلك الصدأ والنفايات التي يلقي بها الآخرون في ـ مياهك ـ مياه الشط .
هجرت الجرف .. هاجرت .. هجرت تلك النافذة الوحيدة إلى بلاد جروفها من جليد وليس ثمة نخلة فيها . كانت رؤيتي للفقمات هناك ما أنساني بعض اغترابي والجراح .. رؤية الفنارات على السواحل .. عيونها ترمش .. تتوهج .. غير إنها تغوص بعيدا في الجليد . حتى إذا استثارني الحنين رحت أهمس متسائلا :
ـ لماذا أُغمِضَتْ عين فنار شاطئنا ..
أجبت موارباً في ذات الوقت :
ـ ربما انتقلت العين إلى جذع النخلة ..
ساءلت نفسي ..
ـ هل أعارها الفنار عينه الوحيدة قبل أن يتهدم ..
أضفت ردا على تساؤلي ..
ـ هو أعارها عينه لتكون شاهدا على ما مر ويمر على ضفاف الشاطئ وما حملته الأمواج من هدايا جثث الجنود من قتلى الحروب والنزاعات ..
ـ أتستطيع أن تهب عينك لساق نخلة لتسرد لنا بقية القصة ..
قال القارئ ..
ـ لقد استعرت عين النخلة لأرسم لكم بعض ما حل في شاطئنا ، لكنني هربت وعجزت أن أدون ما حدث ويحدث ولكنني سأنجح يوما برسم صورة للخراب وما بعد الخراب الذي حل .. فلكل نخلة حكاية وعين لأفعى .. وكل نخلة شاهدة على مقبرة .. قرب الجروف .. في الصحارى .. في الروح المثقلة بصراخ مئات الذين اغتيلوا غدرا في النهارات القائظة .. من الذين غدوا طعاما للأسماك .. للكلاب .. للذئاب وهم يفرون من السجون .. للذباب الذي مازال يطن على جثث تتحرك ..فـ... ثمة عين راصدة في كل شبر من صقع .
أجاب الراوي الذي عاد بعد مرور ثلاث وعشرين عاما وهو يمد ساقيه المتصلبتين في مياه ذات الجرف الدافئ .. قرب النخلة تلك .. النخلة الهرمة التي توشك على الموت . وقد دفعه الحنين أن يكتب على قصاصة ورق بضع كلمات جاء فيها :
ـ هاأنذا أعود من بلاد الجليد .. بعد انقصاف ثلث عمري .. ألوذ بنخلة ميتة على جرف الوطن .. ربما سأسمع صوت عصافير .. سقسقة .. هديل حمائم .. أصوات نوارس حية وهي تهلل لغد زاه قريب .. أزيح الظلام والسواد من الأردية والعيون التي لا ترى إلا سوادها .. السموم التي تلقى في مياه الشط .. رؤية النوارس النافقة .. لأرى شاطئاً صافية مياهه .. فسائل نخل تندفع بكل عيونها لتراقب المشهد الجديد وتحتضن بسعفها المشرئب نحو سماء نقية لا تدانيها فضة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من قصيدة ( عن السياب وتمثاله ) للشاعر عبد الكريم كاصد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/