الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة

ناصرقوطي

2010 / 12 / 17
الادب والفن


قصة قصيرة


ناصرقوطي


إحياء الرمم

كمن يسعى بين ظلال شواهد مقبرة ، كنت تائها عن نفسي في قفر لاحدود له ، كانت الأشباح من حولي تتسارع نحو حتوفها ، أشباح بشرية لها باع طويل في سرعة الوصول إلى أهدافها دون أن تترك خسارة تذكر . كان شعارهم ، انها قطرة ملح تتأرجح على الجبين ، والعالم سباخ من حولنا ، فلم نحاذر من سقوطها . ( العالم يمضي بخطى الكنغر وأنت تدب كسلحفاة هرمة . ) قالها أحد الأصدقاء الذي أثرى على حساب ملح جبينه .. ثم أضاف ( وأنت .. لابيت .. لازوجة .. ولاشيء . ) . من يومها حاولت أن أعيد صياغة حياتي التي كانت بلاهدف ، ربما خسرت ماتبقى ، وربما ثمة ضوء واه في نهاية النفق الطويل تتحسسه عيناي ، كانت أولى خطوات تحولي انني غدوت أشبه بقبرة تحمل تاجا على هامتها وتصفر صفيرا محزنا في قفر لاحدود له ، حتى ان السؤال الوحيد الذي مافتئت أطرحه على نفسي ، ترى لِمَ لَمْ أر الطاووس فيّ ، أرى كبريائي ، هل كانت القطرة التي سفحتها من على الجبين هي التي أوصلتني الى ماأنا عليه الآن ، هل كان طموحي بالوصول الى غاية أرضية هو الذي جعلني أفني جل أعوامي لترميم خرابه وأنا أستحضره الآن في مقبرة وعيي ، هل غدوت أنا الآخر بقايا رمة في مقبرة .


*************


حين أحضر لي رأيت هامته مكللة بتاج يحلم بحيازته ملوك العصور الغابرة وأباطرتها ، رقبته الطويلة ، ذيله الذي يبتكر كل ألوان الطيف ، ساقاه الرشيقتان ، كل شيء فيه يصيبني بالدهشة والإنبهار ، كنت إذا مارفعت كفي الى رأسه لا أطال إلا منتصف عنقه ، فبالرغم من قصر قامتي ، كنت أتمتع بذهن متوقد ولسان ذرب في صياغة أغرب وأجمل الكلمات ، حتى يصفنى البعض بالشاعر الذي لايشق له غبار ، غير أن في أعماقي ـ ظهرت أخيرا ـ نقمة كامنة وعارمة على مايقدسه ويعتد به الكثير من الناس ولأن عيوني اعتادت رؤية الخرائب والموجودات الناقصة والمبتورة ، من مثل رجل بلا ذراع أو إله بوذي صملت أذنيه ، أو ملك جدع أنفه وهو يجلس بكبرياء زائفة على كرسيه وبيده الصولجان ، اخترت مهنتي النادرة والبائرة هذه ( ترميم التحف والأنتيكات بكل معادنها ) فمن فضة الـ ( سترلنك ) العالية النقاء ومعدن الـ ( كرستوفل ) الفرنسي اللماع ، حتى التماثيل المحفورة في الرخام وعطب اللازورد والعطف والعقيق اليماني ، والنحاس الهندي المطعم بالمينا والسيراميك الصيني والأوبلين ، حتى أن أرخص المعادن من الـ ( شيفلد ) الانكليزي والستانليس الياباني ، كنت أجد لها مايناسبها ، مبتكرا خلطات غريبة من معاجين مختلفة ، كنت أغوص بين ذرات المادة التي أمامي وغايتي الوحيدة أن أكمل نقص الكائن أو الشيء حين يكون تحت سطوة أناملي وأنا أسمع استغاثاته وشكواه جراء النقص والعطب الحاصل فيه ، في الوقت الذي لايني ينبثق كل لحظة ، السؤال الوحيد الذي أفنى من أجلة الشاعر الألماني ( يوهان غوتييه ) جل حياته للاجابة عنه إلا وهو ( ماالذي يوحد العالم من الداخل ) . كنت أشعر بشغف المطلق حين يمعن النظر بمخلوقاته الصلصالية وهي تتلوى بين يديه ، وأنا أستجمع كل حواسي كما لو كنت موسيقيا يبتكر نغمة جديدة ، وهو يصغي في السكون الحذر لاصطياد نسمة عابرة ، وهكذا أستطيع االقول بثقة عالية ، انني كنت بارعا في مهنتي ، وخارقا في ابتكار الأصماغ وخبيرا بخلط الألوان وخلق الكلمات وتنغيمها والتي كان لها وقع مؤثر على الآخرين ، غير أن المعادن الثمينة قد ندرت في زماننا هذا ، ولذا صارت أبخس المواد التي تصنع منها التحف المقلدة المستنسخة والإيقونات تصلني ، حتى أن ترميمي لتاج الطاووس قد استغرق عدة سنوات ، بل عقود طويلة إذا ماحسبنا العطل الكثيرة والمكافآة التي كان صاحب المتجر لايبخل بها علي .. كان التمثال الذي احضر لي بطول مئة وبضعة سانتمترات ولأنني لاأستطيع الوصول اليه لقصر قامتي كنت أضطر احيانا للسجود تحت جبروت هامته ، كنت أتركه لأيام عديدة ملقى على رقبته ، منحنيا أمامه لأرمم التاج الذي يعلوا هامته ، ولأن الضرر كان جسيما والشروخ عميقة ، وهي تتشعب كتجاعيد غائرة لتصل منتصف رقبته فان إعادته إلى ما كان عليه تطلب جهدا مضنيا واستغرق أعواما عديدة ، غير أن النتيجة كانت مزرية ـ في نظري على الأقل ـ فقد ألبسته ، في حمى حواري أمام سطوته وانبهاري به حلة زائفة وغريبة ، حتى ان وجهه بدا كوجه غراب أو بوم ، ولم تنفع كل المعاجين والأصباغ التي طليته بها الى اعادته للأصل حتى ان كلمات من هذيان محموم راحت تنطلق دون ارادة مني ( أيها التاج ، قل لي ، يامن تجد آلاف الأنامل والراحات لترمم خرابك ، قل ماذا أنت ، هل صاغتك عبودية الملايين ، أم أنت حصيلة أنهار الدماء المراقة عبر العصور ، وان يك معدنك ذهبا ابريزا ، فما أنت إلا ترس سلحفاة ميتة ، عارٍ أنت دون تاجك أيها الطاووس ، عرفك الذي قرضته إرضة الأعوام ، أعترف انني فشلت في عملي كصانغ أمهر ، كصائغ لقلائد الكلمات الساحرة ، ونحات لايشق له غبار ، فتقادم الزمن قد فعل فعلته وأفنى وحلل كل ذرات تاجك الأبنوسي وخلاياه التي أصابها العطب وماعادت أفضل الأصماغ والمواد المبتكرة تعيدك لفتوتك السابقة ، هل غدوت رمة بالية .. ) . هذا السؤال الأخير جعلني متطامنا مع نفسي حين تذكرت ان أجمل الأعمال الفنية ومنحوتات الملوك والأباطرة وربات الجمال ترقد في المتاحف خرساء ، بلا أنوف ، ولاأذرع حتى بلا رؤوس مغمورة بغبار الأجيال وصراخ الثكالى ، فشعرت بمواساة من نوع ما . غير أن صاحب المتجر الذي كنت أعمل لديه لم يصطدم بالحقيقة المفزعة التي خلصت اليها ، فهو لم يكترث بالتشوهات التي الحقتها بالتمثال انما وقف صامتا وجال بنظراته الذئبية االفاحصة كما لو كان مخبرا سريا وهو يمعن وينقل دهشته بيني وبين التمثال ثم يرفع كفيه ويبدأ بالتصفيق ، ذهلت أمام الرجل الذي كنت أعرف حنكته وخبرته الطويلة وملاحظته الدقيقة للأشياء المشوهة .
- انه سيء للغاية ، ولم يعد ترميمه يجدي نفعا :
قلت ذلك وقد توقف عن التصفيق ثم صالب ذراعيه وغمز بطرف حاجبية وقال :
- لايهم .. الناس لاترى إلا ظاهر الأشياء .. لاعليك .
- لكنني أحترم مهنتي ، وأعترف انني فشلت .
- لم تفشل .. انما الأعوام الطويلة أثرت في ذرات مادته وفتتت خلاياه .
- لولا العوز لما فعلتها !!!
- بعد أيام سيجيئون لنا بطاووس فتي وعليك أن تعد العدة لترميمه فالعث لم يصل هامته بعد .
- أعتذر عن ذلك وسأترك هذه المهنة البائرة ، فأنا أتطهر .
- لاتستطيع ، وستدفع الثمن غاليا .
- سأغادر البلدة وأذهب بعيدا لأرمم عطبي .
- وان فعلت ، هنالك غيرك الكثير ممن يحلم بهذه المهنة النفيسة .
- بالنسبة لي غدت بائرة ولن أتعامل مع المعادن البخسة وسريعة لعطب مثل الصلصال والجبس وخبث الرصاص فهي لاتبقى ولاتقاوم الزمن .
- أنا بخبرتي أعرف أكثر منك ، فهي تتشابه كلها ، والناس لها ظاهر الأشياء لاباطنها كما قلت لك وأنت حر .
- وداعا ... و..

****************


هكذا غادرت المكان ، متجر الترميم والتلميع وترقيع الأصنام ، خرجت مندفعا الى الشارع صفعتني نسمات باردة وكانت حشود من الناس تتقاطر ، تنبثق من الأزقة الضيقة للحارات والجادات المتربة تهتف بكلمات صاخبة ، غير واضحة ، إلا انها رافضة ، فهمت ذلك من ايماءات الأيدي والصرخات ، التحمت معهم وفي لحظة غامت عيناي ورأيت طيف أمي بين الجموع الصاخبة ثم فقدت الاحساس بالمكان والوجود ، أذكر فحسب تلك الليلة الطويلة الغامضة ، أذكر انني كنت أتنشق روائح حفل صاخب بخمور معتقة وأزها متنوعة بألوان جنائنية ، وقد توجت ملكا ليلتها ، فاني أتطهر ، فالتراجيديا هي عملية تطهير على حد تعبير أرسطو . وانني أتوج الآن وأعتلي المطهر ، لربما وضعوا على هامتي تاج هدهد أو طوق شوك ، لاأعرف كنت أشعر ان طوقا راح ينزلق من هامتي ويستقر عند رقبتي ثم يضيق ليمنعني عن التنفس وكان رأسي يدور وهم يسخرون ، لم تكن ثمة آلات تعذيب ، لا .. كانت هناك .. هناك .. على حد ما يتيحه لي النظر ، انني رأيت زهرة برية تختلط فيها كل الألوان ، رأيت الاختلاط في الطبيعة والأشياء ، رأيت مالم يره أحد قبلي ، أويرى بعدي ، أحسست بألم شديد في خاصرتي ، بل آلاما مبرحة في كل مكان من جسدي ، لمحت االطاووس بكل كبرياءه الزائف يمسك سيجارا ضخما ويقهقه ، فيما صاحب المتجر يتملقه ويهمس بكلمات غير واضحة ، كان الألم يتفاقم والزهرة تفقد ألوانها القزحية ، تذوب في لون واحد أحمر قان راح يشع وهي تنموا باطراد ، كان دمي يفيض وهي تكبر ، تتضخم ، لتملأ فراغ القاعة الواسعة ، تمد وريقاتها من الشبابيك لتسع المدينة باسرها . تذكرت أمي عند عتبة باب الدار في وحشة الغروب تنتظر عودتي ، ثم سادت سكينة باردة ، وفقدت الاحساس بكل ماحولى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم