الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرباء

ناصرقوطي

2010 / 12 / 15
الادب والفن



أحكمت رتاج الباب ، لم أكن خائفا إنما ألفيت جثتي تملأ زاوية السرير وفي خاطري تتوالى الصفحات ، ياله من صرير زلزل ارتباك ذهني وأنا أحاول أن أقرأ . ثلاث ملائكة تتقافز بين صفحات الروح البيض ، تضحك ، تشتم ، تتقهقر تحت جناح ظلام الكلمات السود والليل طويل ...
ـ سيباغتون ذويكم ..
ـ مازلنا ننتظر ..
ـ يحصون عدد الثقوب ..
ـ سنغدو أكثر خفة ..
ـ ويقبضون ثمن الرصاصات ..
ـ ليس ثمن الخوف إذن ..!.. قالوا ذلك وودعوني بضحكاتهم ، لم أستطع ردعهم فرحلوا بعيداً وراحت الأرض تدور دورتها ثم تميد تحت قدمي . وجوههم تنبثق من بين الصفحات ، تتوالى ، أجفانهم المتغضنة تتلصص ، تترصد كيف أقلّب صفحاتي البيض صفحة وراء صفحة .(في الممر الضيق أسمع خطواتهم ثقيلة الوقع ، الباب الحديدي بمزاليجه الخارجية واستطالات قضبانه المشرئبة في العتمة يوغل في الصمت . عيون أحدهم تطل بين لحظة وأخرى من خصاصة نافذة في أعلى الباب ... إنها تدور ، تحملق ببلاهة وتغيب ، أحرك الأصفاد بعيدا فتسقط الحلقات ثقيلة حول المعصم ، ألف ذراعيّ حول الساقين وإذا ماهدهدت الرأس راحت شفرات التذكر تنهال كسقوط حبات المطر على السقف ألصفيحي . كنت مختبئاً ولست مختبئ ، متربصا ، حذرا من أي نأمة تحملها الريح . الصندوق الخشبي الذي وضعته في زاوية السطح يتدحرج على درجات السلّم ، سمعت تفكك أوصاله عند اصطدامه بالأرض . هاهم يعيثون بتركتي وخازن ذكرياتي من الأحلام والأمنيات التي لم تثمر ، يساعدهم الصديق الأوحد في اكتشاف الدرفات الخفية منه ويزيل أمامهم بواعث الغموض الذي يلف المكان ، فيما يضيئون المسالك والزوايا التي قد يباغتوني فيها وبحوزتي بعض الكتب التي شكلت لهم كابوسا لن ينتهي .. ترى .. أكان حريا أن أنجو بنفسي بعيدا عنهم ، تاركا إياهم يتخبطون في عماء الغور دون أن أفتض لهم صفحاتي وأعري القلب أمام قسوتهم . فهاهو ذا الصمت يرين وقد جاؤوا يتحدثون بهمس خافت وكلمات ليس لها معنى مع صوت احتكاك شيء ما على البلاط ، صمت ثلجي ووقع خطوات تقترب . كانت مجسات سمعي اللامرئية تمتد في جوف العتمة ، تلتقط الترددات المنفلتة عبر عويل الريح بينما وقع الأقدام يأتي من بعيد ، يهبط درجات السلّم ، يتسلل إلى المخبأ ويملؤه بالأصداء. أحذية ثقيلة تطأ الأرض أحسها بكل جوارحي ، تتقدم بثبات وجرأة حتى فرزت صرير جلدها ، فقد كان أشبه بمواء قطة صغيرة جائعة . الظلام يشتد حلكة في الخارج إلا أن ضوءا باردا تفتح في مكان ما ، ربما في أعلى الكوى الداخنة من البيت . حاولت أن أرى لكن الضوء مالبث أن ترشح في سجف الظلمات وعادت أصوات الخطى أكثر وقعا ، إنها تقترب ، تشوش الصمت البارد ، ويبدو ان السماء قد ألقت حملها من الغيوم فثم قطرات ثقيلة تنهال على الصفائح المعدنية التي سويت كسقف لقن الطيور ، فيما بدأ الرعد يشتد قصفا وتوهج البرق للحظة وهو يشطب السماء مما أتاح بصيصا من الضوء ومتنفسا نحو الخارج ، ومازلت أنتظر وأنا جالس القرفصاء أمتحن أعضائي وأوطن النفس والأعصاب المنهكة على تجشم البقاء وحيدا على هذا الوضع ، في الساعات التي تمضي والأيام التي تتراكم .. كثيرا ماكنت أغيب ، أتنطس وأنصت لهم لعلي أحوز بقايا الأحلام المبعثرة دونهم وهم يتقدمون نحوي ، يحاصرونني بجرأة كلاب مسعورة ويتقدم معهم كل شيء . فكرت في لحظة خاطفة أن أخرج لملاقاتهم ولكنني أحسست برعشة باردة سرت بأطراف أصابعي ، أنزلت كفي بهدوء وغرزت عيني في الثقب ، الظلام ولاشيء آخر سواه يلف المكان بعباءته الثقيلة السواد .أضاء البرق من جديد مما أتاح لي رؤية أشباحهم تقترب ، رفت كفي وأغلقت الفتحة ثانية . المطر يزداد هطولا في الخارج ، يشوش كل الأصوات وهو ينهمر بسيول رجراجة ، أسمع قطراته الحادة تحفر الأرض. خطوة واحدة وينتهي كل شيء ، خطأ بسيط ، انحراف سيء وتكف الأرض عن الدوران وليس في قبضتي إلا الانتظار ، لأتمسك به جيدا ، فهاهي نسيمات الهواء الباردة تدفعها ريح لاترى ، تتسلل من ثـقوب إبرية في المخبأ وأصوات المزاريب عدت أسمع وشيشها الأليف بوضوح ، واندلاق الماء من فوهاتها مصحوبا بطرطشة رتيبة وهو ينسكب على الأرض ، لازال ثمة أمل ولكن ..!؟ بعض هذه الأصوات التي ألفتها أُذني منذ الصغر راحت تبتعد ، تتشوش .. تغور كما لو أنها تهوي من علٍ نحو مغاور عميقة ، تنفرط وتتلاشى مخلفة أصداء مبهمة من نشيج رتيب ، حتى إذا نضبت يعصبني قلق كبير من الأصوات والحركات القريبة من إيقاعات لم تتغير على مر الوقت . كلمات حفظتها عن ظهر قلب ).(( انك تتلف نفسك ، لِمَ رفضت الالتحاق بهم )).. أصوات غبية حادة ، تقطع شرايين اللحظة المنفلتة لجملة كلمات لو أمسكت بنبرتها أكون قد حزت كل مجالات الرؤى في أصوات هذه اللغة العجماء .
ثاء .. ثقوب .. ثلاث .. ثياب .. ثقيلة تتقدم الخطى .
صاد .. صحاب .. صبح .. صدق .. صوت علبة فارغة من الصفيح قاف .. قلق .. قفل .. قيامة .. قدم تركل العلبة ، تتدحرج أمام خطواتهم ، تنبعج . صفير حاد تحدثه الريح وهي تمرق بين أسلاك أعمدة النور ، رعد هائل يتفجر ، باب القفص ينفرج على أصابع عجاف استطعت فرد سلامياتها الطويلة الأظفار .. سلح طيور .. ذروق .. غائط الطيور التي غادرت أعشاشها ولم تخلف إلا الذكريات .. روائح تصيبني بالدوار .. صدى صرخة يتردد في الممر الطويل ووقع خطوات خلف الباب .. الخطوات تتقدم ثقيلة ثابتة ، المزاليج الخارجية تصر تتفكك . ثمة أشباح في ضوء القمر تلج العتمة ، أمامي ثلاثة أجساد .. تركوها .. ألقوها مثل أي نفاية ومضوا دون أن يغلقوا الباب أو ينيروا حتى عود ثـقاب . نظرت حولي ، أصخت السمع .. الخطوات تبتعد ، القمر يرشح وميضاً خاطفاً عبر وصيد النافذة .. جسست جراحهم .. سحبتهم نحو الجدار وأجلستهم القرفصاء .. عيونهم مطفأة كانت وفارغة .. ودعت صمتهم .. تركتهم وركضت .. ركضت .. هل أقدر على الخلاص وحدي ..!.. الممر طويل وضيق بأبواب وقضبان على الجانبين وبانعطافات حادة مظلمة ودهاليز مخيفة . خطواتي الحذرة تجوس في العتمة هامسة من أنني لم أتمثل هذه العتمة الموحشة بعد ، عتمة هذه المسارب والمغاور العديدة التي قد تنغلق وتطبق بين لحظة وأخرى على وجودي الهش . وفي ترنح الأقدام ، بين انطباقات مكرورة من الجدران ألفيتني وحيدا في أرض خراب ليس فيها أنيسا وقد مرقت الوجوه من حولي ، كل الوجوه التي أعرف تدفعها ريح صريم بينما كنت أصرخ الظلام وحيداً ..
ـ خطوة واحدة تجد نفسك مثلهم ..
ـ وإن تك شيطاناً لن أحيد ..
ـ تقدم ستأخذك سنة أصحابك ..
ـ دعني .. دعوووووووووني .. سأختنق ..!؟ وأحسست بأظفارهم تغرز في لحم كتفي وتدفعني بخطفة سريعة كالبرق ، تدحرجني حيث الوجوه الغريبة الخائفة . الأقنعة الشوهاء تتساقط بارتخاء عبر غور بعيد تكشف حافاته المخيفة ظلال الأعشاب الغريبة الأشكال . في ظلمة ظلماء كانوا يتقاطرون ، أقدامهم ترسف بالقيود ويسعون في عماء الغور رغم الأثقال والسلاسل التي يحملونها . في عفونة هواء الغور يلقون بجثث شوهاء مع أصفادها في مغاور أخرى وفجاج أكثر عمقا وإرعابا لتسحبهم فرادى وجماعات ، بين ظلال الجذور الضخمة التي عرّتها الريح وكساها القِدم والإهمال بأغلفة زنجارية ثقيلة وقد برزت إلى السطح مثل عظام نخرة ، فيما ثلة من الغلمان يخضبون هاماتهم بالرماد ويفزعون بعضهم بما يحملونه من أسلحة غريبة ، يزحفون ، يتدحرجون ، يقْعون فيما تتعرق حرابهم وتنز دما من بين جنوبهم . آثار رصاص يوسم الأجساد بثقوب أرجوانية ، الظهور لصق الجدار .. تميل .. تنحرف .. تسقط بأذرع متراخية وعيون مطفأة . الجثث تتراكم .. يكدسونها ويلقون بها في أعماق الغور وثمة جدران رمادية عالية بأسوار من حجر وأسلاك شائكة تضرب طوقا محكما حول المكان ، يقوم عليها عسس أشداء بوجوه جهمة ، بنادقهم تتصالب بين أذرعهم وعيونهم تترقب ، ترصد غيمات ثقيلة بلون الرصاص ، تتهدل على مدى البصر . دخان حرائق يتكاثف في التخوم البعيدة ، يتصاعد بنفثات متتالية ويرسم فضاءً بلا طير . حاولت أن أفهم ، أفك الرموز التي يتخاطبون بها وبكل الوسائل والطرائق التي أعرف ولكن عبثا ً ، فقد كانت عجمتهم شائكة كطلّسم ممهور ، وقد بح صوتي من كثرة ماصرخت .. أي ريح حملتني هنا ..!؟.. أي مفازات سأقطع ..!؟.. أين أصبحت وما معنى مكوثي بينهم .. أألقي بما تعلمته ورائي ..؟ ولكن كيف وإذ تختنق يرسم القلم حافة نافذة كي ترى وتتنفس ..!أتكف عن الرؤية وتلقم فمك بحجارات الرهبة والخوف وتنحني أمام عصف هذه السماوات الغبر وهذا العنف الذي يجري ويمسخ آخر الوجوه ..!؟.. وفيما أنا أطوح بفكري .. حزينا .. قلقا ً وحائرا ً كأن وجوها مرقت كالطيف بقربي .. ثلاثة وجوه مكدودة بلون التراب تتفرس في قسماتي .. حاولت أن أصرخ .. حركت الأصفاد بعيدا لكنهم اقتربوا أكثر فاختلج الغور وتناثر ضوء أبيض .. قالوا بصوت واحد .
ـ لِمَ لَم تهاجر إن كنت خائفاً ..
ـ لقد هاجر خوفي ، وأنا باقٍ لأهاجر بطريقة ما ..
ـ ولكنك تتلف نفسك ..
ـ لم تسوء الأمور أكثر ..
ـ حاذر إذن ..
قالوا ذلك وغابوا في زحمة الأجساد ولكن الطيف بات يعاودني كلما تحسست أثر الأصفاد على معصمي ، وقد غدوت كما السائر في نومه عبر ممر طويل ومظلم ، تتكشف العتمة وتعوي الريح ورائي كلما سرت قُدما في دروب غريبة لاأثر فيها لصديق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة


.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با




.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية