الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلالات السعيدة

ناصرقوطي

2010 / 12 / 20
الادب والفن


قراءة في قصة ( السلالات السعيدة )

للقاص قصي الخفاجي

ناصرقوطي



... مجرد كلب آخر*

من ضمن عدد من الكلاب .

ماذا..

يوجد غير هذا ؟ وما العمل ؟

البقية ركضت ـ

وراء الأرانب ـ

الأعرج فقط باق ـ

على ثلاث أرجل ( يحك من

الأمام ومن الخلف )

يخاتل ويأكل .

يدفن عظمة عفنة .

(* وليمز في باترسن )




ترى ماذا يريد القاص أن يخبرنا بتداعيات جمله الخبرية الطويلة ، وهو يقودنا عبر رحلة تنضح بالمرارة ونحن نتابع سيرة بطله المأساوية ..؟ فلننعم النظر بما قد تنطوي عليه من دلالات وشفرات ربما لم يعنها الكاتب . يقول رولان بارت ( نحن ندرك تحت الشفرة التأويلية مختلف المصطلحات ـ الشكلية ـ التي من خلا لها يمكن تمييز اللغز والتحدث عنه وصياغته وإيقاف مساره ...الخ) . في مدخل القصة يفاجئنا القاص بجملة مجنحة ( والريح الثقيلة كانت ذئبية جهمة تتـناوح في ذلك الخريف الكئيب ... حين ظلت عواءاتها تصهل عبر المساء المغّبر ) وهكذا مهد لنا منذ البدء ليدخلنا إلى عالم مشحون ومتوتر يكاد يخنقنا .. ريح ثقيلة ذئبية جهمة ، خريف كئيب ، عواءات تصهل ، مساء مغبر . أي صورة لتوقع حدوث الكارثة ـ الحرب ـ ومن خلال استخدامه لواو العطف في بداية جملة الاستهلال( و..الريح) كأنه يريد أن يخبرنا بأن ثمة كلاما كثيرا قد قيل سلفا وأن هناك أحداثا أكبر جسامة وروعا ، ووقعا على النفس قد حدثت ليعود ثانية ويكشف لنا بدء وقوع الكارثة بكلمات قليلة ( غارت طائرة حرب إيرانية وأحرقت سفينة تجارية قديمة راسية في شط العرب ) . وبانتقالة ثالثة يتحول ليصف لنا الشخصية المحورية دون أن يكسر أفق التوقع عن المتلقي حتى نهاية القصة ـ الإقفال ـ وموت البطل بتواتر شحنات تتصاعد دراميا وتتـنامى بسلسلة من تنقلات
ـ زمكانية ـ تفعل بشكل ضاغط باتجاه النهاية . في السطر الخامس نتعرف على الشخصية المحورية ( عباس الجوراني ) وهو يشعل طباخه ليبيع الشاي للسابلة والمراجعين قرب المصرف الرئيس الذي يطل على شط العرب تحت قاعدة تمثال الشاعر بدر شاكر السياب . حتى يفاجأ ذات يوم بكلبة بيضاء جميلة ( كانت ممتلئة الجسد ، تتدلى أثداؤها مكتنزة ، منتفخة أسفل بطنها المترهل ) . وقد وضعت خمسة جراء تحت قاعدة التمثال ، ومن خلال السرد نكتشف ان البطل كان معلما ً وتخلى عن سلك التعليم بضروف غامضة وأدمن على تعاطي الكحول رغم ثقافته وقدرته على التحدث باللغة الانكليزية بطلاقة كما سنعرف لاحقا ً . وبمرور أيام قلائل من حدوث الحرب تموت الكلبة الأم ليترك ( الجوراني ) في موقف لايحسد عليه وهو ينظر إلى الجراء الخمسة تتضور جوعا ً ، وفي منتصف كانون الثاني من عام 1981 يخبرنا الراوي بحدة المعارك بين الطرفين المتحاربين وانشغال المجتمع الدولي بها ، يفاجأ بفصيل عمل صحفي من الأجانب ، ومن خلال حواره معهم يخبرهم بلغة انكليزية سلسة عن تمثال الشاعر الذي يجهلونه وكيف تأثر في مطلع شبابه بالمدرسة الرومانسية الانكليزية متمثلة بالشاعر " جون كيتس " وكيف تنبه خلال تطوره الشعري إلى شاعرين عظيمين هما : ت . س . اليوت والشاعرة ايدث ستويل ، ثم تطرق إلى الأبعاد الخطيرة للحرب وكيف أن أمريكا تتبنى ستراتيجيات بعيدة المدى وتنمي بذور الصراع في المنطقة ، حتى تنمو علاقة حميمية بين صحفي انكليزي شاب هو "جونز بيرنز " مع الجوراني الذي يفاجأ ذات يوم بوقوف سيارة فاخرة يترجل منها ثلاثة صحفيين أجانب بصحبة سيدة فارعة الطول يتبعهم بيرنز فيطلبون منه نقل الجراء إلى بلادهم فيغمره الفرح . وتتوالى أحداث القصة مع تصعيد الحرب والتحاق الجوراني بخدمة الاحتياط وتعرضه للإصابة بشظايا تؤدي إلى بتر ساقه وعودته على البصرة ، محطما ، خالي الوفاض ليسكن مع رجل عجوز يعمل حارسا ً في عمارة مهجورة قرب تمثال السياب . وبعد مرور أيام وقد تدهورت حالته الصحية اثر استفحال الكانكرينا في فخذه وتعاطيه الكحول دون طعام ( فاجأه الحارس بلهاثه متهلل الأسارير ، قال : لقد انتهت الحرب ) . أجل لقد انتهت حرب الجوراني مع العالم ونضبت أحلامه وخارت قواه ، وهو الآن يتدثر ببطانية قذرة يزحف أحيانا على عجيزته حين يهده الجوع بحثا عن كسرة خبز ، حتى تصل رسالة مقتضبة من الصحفي جون بيرنز ..( تحية لكم ولوطنكم ، إني أهنئكم بمناسبة انتهاء الحرب ، أما بالنسبة للجراء فقد وصلت اسكتلندا بسلام وكبرت ، وعاشت في بلادنا سعيدة .. الذكور الأربعة تزوجوا من أربع كلبات اسكتلنديات ، أما الأنثى " ستويل " فقد تزوجت كلبا من فصيلة الولف في أدنبرة صاروا كلهم أجداداً ، وأمامكم الصور تبدو فيها الكلاب مع أحفادها في السلالة الثالثة ... المستر جون بيرنز / أدنبرة / 1./9/ 1988 يتطلع الجوراني إلى صور الكلاب ويهمس قبل ان يسلم الروح .. ( المجد لتلك السلالات في البلاد البعيدة ، سلالات الكلاب السعيدة ، وسحقاً لك أيها الإنسان التعس عباس الجوراني ) . هذه الخاتمة المفزعة ـ الشفرة الحادة ـ التي طرحها القاص اثر معادلة محيرة ، وقد تركنا إزاء مسألة خطيرة ..؟ ! ترى هل كان الكلب أكثر أهمية من الإنسان بوجهة نظر الغرب ، وهل راود بطل القصة حلم دفين وتمنى لو انه أصبح بديلا عن أحد تلك الكلاب ، وتغير مصيره كليا في بلاد الجليد ، وان حضارة من أعرق الحضارات تنتج مسوخ حكومات لتهين أبناءها . فأي معادلة صادمة إذا كان الجوراني قد فكر لحظة موته بأن يكون كلبا ً ، سؤال سيظل غامضا ً وقد يطرحه إنسان ما هارب من جحيم وطنه وهو يطلب اللجوء عند حدود أحد بلدان الغرب ويحلم بسقف يقيه غائلة الأيام ويضمن له عيشا ً شريفا ً . حتى موت الكلبة الأم هل هو موت لأمة برمتها وتشرد أبنائها في غربة عواصم العالم ، ولماذا لم يمت عباس الجوراني أثناء الحرب أو في أي مكان آخر خلال تشرده ومات وهو يلقي نظراته الأخيرة على صور الكلاب وهي نظيفة ومزهوة ، فهل ثمة مقارنة عقدها الجوراني ، هل أصابته خيبة أمل وانتهى بطلاق أبدي بين مايصل إليه كائن بشري مثقف مع كلب ، حتى يموت معزولا في مكان قذر لايلتفت إليه أحد وقد غدا فزاعة بشرية بساق واحدة ، مشردا بين الأرصفة بعد ان سحقته الظروف وقادته الى حتفه ( في الحديقة الظليلة ، في بقعة منعزلة رتب له الحارس كوخا من الخشب أقام فيه ممدد الجسد ، حيث الشاحنات العسكرية تمر بين فترات متباعدة على الكورنيش الخالي والصمت يتغلغل في غصون الأشجار المبثوثة هنا وهناك وخيط الريح يتلوى على طول الضفاف المغبرة ) أي مكان هذا وأية صورة صادقة تنضح بالألم والخذلان في بلاد تعد الأغنى بمواردها الطبيعية وطاقاتها البشرية الهائلة ، لولا رعونة من قاد البلاد إلى الحروب والرهانات الخاسرة . فهذا الكشف الذي قدمه لنا القاص هو صورة صادقة لجزء من معاناة الفرد العراقي ، ولنذكر على سبيل المثال لاالحصر بعض مبدعينا الذين ضاقت بهم سبل العيش وقضوا على الأرصفة أو في أماكن موحشة مهجورة ، لاتصلح حتى مأوى للكلاب الضالة ، فالشاعر عبد الحسن الشذر والشاعر عقيل علي والفنان هادي السيد والشاعر عبد اللطيف الراشد والشاعر والمترجم جان دمو وزهير المالكي وسليم السراج الذي انتهى إلى الجنون ، فكل هؤلاء وغيرهم الكثير قد لاقوا نفس مصير بطل القصة ( عباس الجوراني ) بل عانوا أكثر منه وماتوا تحت مرأى من المؤسسات الثقافية تلاحقهم الحروب وتشتت أحلامهم وتميتهم الأنظمة الشمولية . ولازالت معاناة المبدع والمثقف في ظل الحقبة الجديدة سارية المفعول وهو يلوك أذيال الخيبة والعوز . ان هذه السطور ليست دراسة نقدية بقدر ماهي استشفاف لنهاية واحدة من نهايات أبطال القاص المبدع " قصي الخفاجي " الذين يلاقون ذات المصير المظلم في أغلب قصصه ، وقد عودنا في كتاباته الجريئة الأولى مثل قصة ( ليلة الطعن بالخناجر ) و
( مستوطنة الكلاب ) و ( وقت سري ) و ( لميعة الشرمة ) . تلك القصص التي نشرها في أهم الصحف والمجلات الأدبية في العراق أثناء حكم الدكتاتورية ، يعري الواقع الفاسد بجرأة ليست لها نظير ، في حقبة صعبة ومريرة كادت تقضي برياحها العاصفة وتنسف كل شيء أمامها ، وهو الذي عانى من سجون النظام وعرف التشرد على الساحل الليبي وفي أزقة دمشق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في