الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحلام

أحمد الجنديل

2010 / 12 / 18
الادب والفن


أحلام
أدمنَ على الأحلام منذ الساعة الذي أدرك فيها انه ضحيتها ، أصبح مهووسا بها ، جمع مالاً ، وارتقى سلّم المناصب ، واعتلى عرش القيادة وهو متدرع بأحلامه ، يرويها بأداء ساحر جعلت الكبار والصغار يمدّون أعناقهم إليه ويحفظون ما سمعوه بقدرة مدهشة ، تفنن البعض في صياغة المقدمات والحواشي وهو يروي ما سمعه ، وأتقن البعض الآخر صنع الإطار الذي ينسجم على هواه ، وعندما تكون البطون جائعة والرؤوس خاوية والوجوه صفراء كان زاد الجميع مائدة الأحلام التي سمعوها من الشيخ الحالم .
أكل الجفاف الأرض والنفوس ، وأطاح بمنابع الحياة ، وأغلق منافذ الارتقاء ، ومات الشيخ الحالم أعقبه أولاد وزوجات يصعب عدّهم طواهم الموت جميعا وهم على نهج جدّهم ، مثابرون على خلق الأحلام وتفسيرها ، ودارت الدنيا وجرف الزمن عادات وتقاليدا وبقيت الأحلام صامدة في وجه العواصف والبراكين التي هزّت العالم ، وبدأ القلق يساير الشيوخ من ضياع الأحلام أو العبث في كنوزها فأنشئت مدارس وشكلت لجان ، وشرع المؤرخون يكتبون تاريخ الأحلام وتفسيرها بهمة عالية معتمدين التدقيق والتحقيق من الثقاة التقاة فيما يكتبون ، وقد تزينت أقلامهم بالمقدمة الشائعة التي تقول :
روي عن فلان بن فلان عن جدّه فلان ، قال : سمعت من فلان عن جدّه فلان الذي سمع عن جدّه فلان ما رواه شيخ يسكن الفلوات ، قال : أن فلانا حضر مجلسا سمع الشيخ الفلاني يتحدث عن كاهن يسكن البوادي أنه قرأ في علم الحكايات عن رجل كان يحضر مجلس الشيخ صاحب الأحلام ( أعلى الله مقامه وأدخله فسيح جنّاته ) وهو يتحدث عن رؤيته في المنام التي شاهد فيها حمارا يقف على رأسه غراب أبيض اللون يلقنه أصول الحكمة ويخبره بما يحدث في الأيام القادمة .
ورغم أنّ الروايات التي كتبها المؤرخون تباينت في مصادرها ، وفي طريقة كتابتها ، واختلفت في تفسير دلالات أحرفها ورموزها ، الا أنهمم جميعا أكدّوا على الفعل القبيح التي قامت به جدتي ، رفيقة الشيخ الأول في فراشه ومعاشه ، وما همست به ذات صباح الى أبيها عن فسق وكذب زوجها الذي يلفق الأحاديث ويخترع الأحلام والأساطير ، وأنّ يده أصبحت تمتدّ الى جيب الأرملة ويد اليتيم ، وصار مخدعه مشاعا لكلّ نساء القبيلة وهو يسحرهنّ بما يروي لهن من أحلام . ووفق هذه الرواية فقد ورث أبناء الشيخ الحالم العفّة والطهارة وورثنا نحن عن جدتنا الخسة والحقارة ، وأصبحنا لا نعرف إلا بأبناء الفاجرة ، لنا غير ما لهم من متاع الدنيا ، ولهم غير ما لنا من الحقوق ، وبقيت لعنة الجدّة ( لعنها الله ) ترافقنا في اليقظة والمنام.
في تلك الليلة المغمورة بالخوف ، والمدفونة بالظلام ، دخلت على أبي ، كان وجهه هو الآخر مغسولا بموجة الإحباط ورأسه مدفون بسواد الأفكار ، جلست بقربه وبدون مقدمات أخبرته بهمس :
ـ البارحة ياأبي رأيت جدتي في المنام مشنوقة بذيل الحمار الذي حلم به زوجها ، ورأيت الغراب الأبيض يأكل عينيها ويقطع لسانها ، وهي تصرخ وتستغيث ولا مغيث لها .
دون أن يلتفت أبي ، سمعت كلماته الممطوطة تخرج من بين شفتيه :
ـ ماذا كانت جدتك تريد من استغاثتها .
قفزت حتى أصبحت قبالته ، وقلت بحماس :
ـ كانت تطلب العفو والمغفرة ، اعترفت بذنبها ، وقالت أنها فاجرة لأنها نطقت بما لا يجوز النطق به على زوجها ( أعلى الله مقامه ) .
تعانقت عيني بعيني أبي وسط سخرية مريرة شاهدتها تهطل من نظراته .
عند الصباح أشعت بين الناس تفاصيل الحلم وقد زدت عليه ما يثير وحذفت منه ما شاهدته وسمعته ولمسته جدتي الملعونة عندما كانت زوجة لجناب الشيخ الحالم المحترم .
عندما علم أبي بما قمت به ، أخذته موجة غاضبة دفعت به إلى الخروج وهي يمسك يدي لأكون شاهدا على كذب ما نشرته في الصباح ، إلا أنّ اهتمام الناس بالحلم وانقسامهم حال دون رغبة أبي في تحقيق ما يريد ، فلم نجد من يلتفت إلينا ، كانوا مشغولين عنـّا في تفسير الحلم الذي لم يبق منه سوى ذكر جدتي وقد سمعت منهم ما لم يخطر على بال ، انقسم الناس إلى فريقين ، بعضهم أمر ببناء جدارية تمثل جدتي وهي تطلب المغفرة ، وعلى الجميع نحر النذور عند قدميها ، بينما أمر شيوخ الفريق الآخر بقية الفقراء بتشييد تمثالا لجدتي ( أخزاها الله ) تخرج الأفاعي والعقارب من فمها ، وتسيل الديدان من بين شفتيها ، وعلى رأسها الغراب الأبيض يصرخ بلا انقطاع :
ـ اللعنة عليك أيتها الفاجرة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟