الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
اغنية السيدة ذات القلب الأعظم ..
عبد العظيم فنجان
2010 / 12 / 20الادب والفن
اشارة : سبق لي أن نشرت مقاطع ومجتزءات من هذه القصيدة ، على موقع " الحوار المتمدن " لكنه الآن في صيغته النهائية ، التي ستأخذ طريقها الى النشر في مجموعتي الشعرية الجديدة ، و" السيدة ذات القلب الاعظم " عنوان قصيدة الشاعرة السومرية أنخيدوانا في مديح إينانا / عشتار البابلية ، وفيها محاولة اعلاء لشأن إينانا على بقية الآلهة ، وحسب رأي الباحثين كانت تلك ردة فعل طبيعية بمواجهة صعود الآلهة الذكور على حساب الآلهة الاناث في البانثيون السومري .
مثلما جمعت انخيدوانا تناقضات اينانا في قصيدتها ، حاولت أن اضفي على هذه التناقضات معنى معاصرا لامرأة هذه القصيدة .
...........................
اغنية السيدة ذات القلب الأعظم
منكِ ، من عفوكِ وعفويتكِ وصدقكِ ، ومن يأسكِ وشجاعتكِ ، وإليكِ : إليكِ أيتها السومرية القلب ، الهائمة على وجهها ، مثل عاصفة تبحث عن أقدامها في ليل العالم
أنتِ فكرة في مخيال الشعر ، يكتبها الشعراء جيلا بعد جيل ، وحين تتحقق الكتابة تنفتحُ الفكرة على فكرة اخرى تنسفُ الكتابة ، فلا يكتبكِ أحد إلا بالمحو ، ولا يمحوكِ إلا من رآكِ ، وكل من رآك رأى ذاته فخرّ صعقا ، ثم صاح من الوجد : أبحث ُ لكِ عن وجه ، أنتِ الموصوفة بالعطر ، وروحك لا تشرق إلا على الغصن ، مثل وردة .
لن أقطفكِ كما يفعلُ العشاقُ ، إذ لستُ أحدا من هؤلاء ، لستُ من اؤلئك :
إنني عاشقٌ يجدلُ سلة أحلامه من دخان النوم على المصاطب ، من النجوم التي تومض في سماء اسمكِ ، من الرحيق الذي يعط من مسامكِ ، فيكوّن سحابا أزرقا إليه يصعد المطرُ ، ومنه يسقط الكلم الطيب ، والرمان ، والتين ، والزيتون ، وطور سنين ..
اقيمُ بينكِ وبينكِ ، فلا بيت إلا الشِعر ، ولا سقف إلا القصيدة .
لا أذكرُ أين رأيتكِ أول مرة ، ربما خلف النسيان والذاكرة : لا أذكرُ من وجهكِ إلا وجهكِ كله ، ولم أتحرَّ عن اسمكِ في الأسماء ، رغم أن اسمك في الينابيع ، يختلف مع مذاق كل نبع .
لكِ الماءُ في كل قطرة ،
في كل بذرة لكِ بستان ،
ولك خلف كل نافذة مسافر.
هناك قطارات تقلكِ إلى كل مكان ، وأنتِ راكب واحد : محطات كثيرة تنتظركِ . تمشين مع المطر تحت المظلات ، تشربين في الحانات كؤوس عشاق لم يأتوا إلى الموعد ، وتنامين مع شعراء على مصاطب من الهواء .
سريرك غابة ، وهم بعض أشجارك .
لكنني قدتُ أيامي بعصا طولكِ . تبعتُ آثاركِ في الأسفار ، فعثرتُ على مدن لم تخلق ، لكنها مأهولة بضواحيك وأنحائك : مأهولة بخطواتكِ ، بطيرانكِ ، وبشعركِ الذي يغطّيكِ عارية في الماء ، في النار ، في الهواء ، وفي التراب .
عثرتُ عليكِ تحت ثيابي ، فارتديتكِ ، ومشيتُ عاريا ، يكسوني الندى بعادات براعمكِ .
شاهدتكِ على شاشات السينما ، وأنتِ جالسة إلى جواري ، وصافحتكِ في منامات كنتُ فيها يقظا .
قرأتكِ في الأديان ،
وتنفستُكِ في قرى التهمتها الحرائق .
سمعتُ أجراسكِ في كنائس فخشعتُ وصليتُ ، شملني غناؤك بالحنان في الأزقة فترنحتُ وبكيتُ ، تعتني حنينكِ في المنافي فانشطرتُ في الجهات .
هدهدني صوتكِ ،
وأنا نائم في مهد صوتكِ .
وكثيرا خفتُ من جبروت ضعفكِ ، كثيرا آويت شجاعتي إلى سلامكِ ، و قدّمتُ عنقي إلى حروبكِ ، كثيرا شربتُ دموعكِ ، وسكرتُ في حانات نومكِ .
إنني متورط ٌ بما لا أعرفُ كنهه :
لا أعرفُ ما هو الحبَّ بالضبط ، إلا إذا كان هذا الذي يوّترني مثل قوس ٍ ، هو الحبُ .
إلا هذا التردد ، إلا هذا اليقين ، إلا هذا الخوف ، إلا هذا الذهاب ، إلا هذا الإياب ..
إلا إذا كان هذا الطيران ،
كالريشة ،
من يدكِ هذه الى يدكِ تلك ، هو الحبُ .
إلا إذا كان هذا الحبل
الذي يتدلى من سقف العالم ، وأنا أتأرجحُ معه ، هو الحبُ .
إلا إذا كان هذا الشغف بأن أتيه في أقاصي وجهكِ ، هو الحبُ .
إلا إذا كان هذا الخطر المحفوف بهديل الحمامة ، هو الحبُ .
إلا إذا كان هذا النعاس المقيم في مهد السهاد ، هو الحبُ .
إلا إذا كان هذا السرير المحروس بقبائل من القلق ، هو الحبُ .
إلا إذا كان ازدهار الرقة في الشوك وتفاقم الخشونة في الحرير، هو الحبُ .
إلا إذا كانت هذا السهم الذي ينطلق نحوكِ فيمزق قلبي هو الحبُ .
لكنني أعرفُ مساراتٍ كثيرةٍ ، وكلّ مسار نهايته أنتِ.
إذا صرتِ حربا ،
فأنا الميادين ، والغبار ، والعربات ، وأنا القتلى كلهم .
إذا صرتِ خمرا ، فأنا سكرانكِ الأبدي .
اجرفيني إذا صرتِ ريحا ، فأنا ريشة بملامح حصاة .
اجرفيني إذا صرتِ إعصارا ، فأنا حصاة بملامح ريشة .
اكسريني ، فأنا انسان ..
استعاراتُ غيابكِ تجري ، تسيلُ في ساقية الحضور ، ومجازاتُ حضوركِ تشغلُ الغيابَ عن نقل أقدامه .
لا أقول : " احبكِ " لأنني قلتُ ذلك لأُخريات قبلكِ .
لأنني خِطتُ على قمصانهن أزرارَ صعلكتي وعُريي .
لأنني نمتُ في الممزق من صفحاتهن ، واغتسلتُ بالحار من مياههن العميقة .
لأنني كتبتُ بأصابعهن أغلاطي الجميلة .
لأنني شطفتُ يأسي بدموعهن ، وآخيتُ بين خيباتهن ودموعي .
كان نصيبي من الحب أن أقع في غرام جميلة ، تحرضني على أن أكفر بجمال جميلتي السابقة :
لن أكفر لأن كل جميلة أنتِ .
كل كفر أنتِ ،
وكل طاعة .
كل شِعر أنتِ ،
و كل نثر .
احبكِ لأنكِ كلّهنَّ ، لأنكِ الفيء ، وأنا الجسرُ الذي لم ينم ، في حياته ، على وسادة من فيء .
لأنكِ السفينة ،
وأنا الطوفانُ الذي يحدسُ أن مَن يوقفه عن الغرق في الطوفان ، هو أنتِ .
كل صباح يـُريني هياميُ كيف أتدلى من عنقكِ ، ككِسرة من مياه القمر، لأن جسدكِ النورُ : هكذا خنقني حبرُكِ من بداية السطر ، أنا الجاهز العنق لكل مشنقة ، لكنني رأيتُ الخلاص يلمعُ ، كالموسى ، بين نهديكِ فألتقطتُ حرّيتي بأسناني . من يومها وأنا ألفُّ عنقي حول منديلكِ ، واغني :
أنتِ عشبة الخلود ، التي من أجلها يكتبُ العالم خطواته اللامتناهية في دفتر الخطر .
أنتِ المغامرة ، والوصول .
أنتِ العودة بقبضة التجربة .
أنتِ الزمن ، قوارب الخيال ، والطيران .
أنتِ الرغبة ، الجسد ، وأنتِ اللعنة والغفران ، وحلاوة الخطيئة .
أنتِ تنهداتُ النبع :
جريانُ الدفء في نهرٍ من البشاشة .
أنتِ سدودٌ من الحنان :
خيط ٌ من الطفولة ، لم يزل يرتفع من أجل طائرتي .
أنتِ أجملُ سرقاتي من الكتبِ :
زادي أنتِ ،
ومتعتي عندما تسطعُ شمسُ الافلاس ،
ويخرُّ التشرّدُ صعقا من جيوبي .
أنتِ هروبي من الثكنات :
متاهتي أنتِ ،
وحدودي .
أنتِ منفاي :
وطني الذي ولدتُ فيه مقذوفا إلى خارج العالم .
أنتِ فيروز
عندما يغرقُ المطرُ بالصباح .
أنتِ صباحٌ
يشرقُ من قصيدة منتصف الليل .
أنتِ اغنية ، منذ قرون ، وأنا أبحثُ عن بداية لأكتبها :
أعرفكِ تماما كما أعرف الملائكة ، رغم أنني لم أقابلكِ مرة .
لم أعرفكِ قط ، كما لم أعرف الملائكة ، رغم أني أحفظكِ عن ظهر قلب .
أعرفكِ خائبة ، وأعرفني لا أفوقكِ إلا في ذلك .
أعرفكِ تكتبين العثرات ، وأعرفني أقودُ خطواتي إليها .
اعرفكِ بمستوى المصابيح : تكنسين عن أكتافي ظلام الأزقة .
أعرفكِ خلف العالم ،
وألمحكِ ، خلف الشبابيك ، تجلدين المارة بخواطر ينسجها صمتكِ .
أعرفكِ مشطورة بينكِ وبينكِ .
أعرفكِ ذاهبة وقادمة .
أعرفكِ ممّا يسببُ الدوارَ للبحر .
أعرفكِ ممّا يعودُ الصيادون به لينتبذوا بحرا بعيدا عن دموع زوجاتهم .
أعرفكِ ممّا يُفرّقون به بين الليل والظلام .
أعرفكِ ممّا يجعلُ القوارب سكرانة تنقلُ على ظهرها العواصف .
أعرفكِ مما يجعل الشواطيء آهلة بالقبلات واللؤلؤ .
وأعرفكِ ممّا يجعلُ الشيطان والملاك في حيرة من أمر الله .
أشعرُكِ امرأة .
أشعرُكِ في اللانهاية ، هناك ..
في غرامياتٍ شائكة ، وفي حبٍ لم يحصل بعد .
أشعركِ في القفص تمنحين القضبان أجنحة الحرية .
أشعركِ تحت السوط تباركين الحزانى .
أشعرُكِ المختارة من العشق ، والعاشقة من الشاعرات .
أشعرُكِ هائمة على وجهكِ ، في العالم .
أشعركِ تحملين العالم .
أشعركِ تلدين العالم .
أشعرُكِ المسافات ، الخطوات ، والبـُعد .
أشعرُكِ افقا من الغموض ، وغموضا يغسلُ الافق بحزنه .
أشعرُكِ تبحرين في نهرالكون وقاربكِ الزمن .
أشعرُكِ في الساعات تجرجرين الزمن من ياقته .
أشعرُكِ الطمأنينة عندما تتعطل حواس الأمان .
أشعرُكِ الأمان يكسو الخوف جلباب نومه .
أشعرُكِ الخوفَ يجلس مع الأمان على مائدة واحدة .
أشعرُكِ إنسانا ، وأشعرني ذائبا فيكِ ،
لكن ذلك هو ما يـُقلقني :
يـُقلقني أنكِ امرأة ويقلقني أنني رجلٌ .
يـٌقلقني أن الحبَّ لا يستطيع أن يصهرنا أكثر من أن تكوني الخيط وأن أكون الشمع ، أو أن تكوني الشمع وأنا الخيط .
آه ،
الشـِعر هو الخلاص عندما يذيبنا كالشعلة في النار ، فلنصرخ إذن : إن لم تجمعنا الحياة معا ، فليجمعنا الشـِعرُ ..
كلانا يعرفُ أن الآخر ليس هو الآخر ، وأن المستحيل كلمة فارغة .
كلانا يجهل أن الآخر هو الآخر ، وأن الحب لغة مستحيلة .
كلانا يؤمن أن الشعر هو الحب ، وأن الحب هو الشعر .
كلانا يكتب الشـِعر على صدر أيامه ، فيموت شهيدا .
قلتِ مرة : أنتَ ملاكي ،
فصرتُ شيطانا .
قلتِ مرة : أنتَ حدودي ،
فصرتُ متاهة .
قلتِ مرة : أنتَ عنواني ،
فتلاشيتُ ، ولم أعد أحدا ..
يا زميلتي في الخوف ، يا نهاية البـُعد ومبيت الخطوات في المسافة .
يا طالعة بوجهكِ المبتسم ، يا مبتسمة بقلب الطفل .
يا ناضجة كالطلع ، يا جريمة عادلة .
يا شريكة الليل ، وغريبة النهار .
يا مَن تلوذ بإسمكِ البراري ساعة يريق مياهه الجفافُ .
يا من لا يطيق جمالك الجمالُ .
يا من يبتكرون القبل من اجل شفاهكِ .
يا من اشركتِ بي واشركتُ بكِ ، فلم نعد نحب بعضينا كما أنتِ أو كما أنا .
نزغنا رمحُ العشق في القلب فانقلبنا :
تحبينني كما هم اولئكِ السائرون في نومهم ، واتعبدكِ كما يفعل البدائيون في الكهوف :
كما يحب الحمقى والاغبياء والسكارى ،
كما يتعبد العميان نورا منسيا .
كما يتهجد الاميون حروفا من الصخر .
احبكِ ،
وأعرفُ أني لا أستطيع أن أحبكِ لأن العالم خسر قلبه في الحروب والمعارك .
لأنكِ الحب ذاته .
لأنكِ الشك ، وأنا القلق الذي يفور في صحنه الجمر .
لأننا جرحنا المهدَ ،
وخرّبنا سرير الطمأنينة .
لعبتُ معكِ لعبة الغرق ، فولد الماء .
لعبتُ معكِ لعبة الماء ، فولد المطر .
لعبتُ معكِ لعبة المطر ، فولدتْ الغيوم .
لعبتُ معكِ لعبة الغيوم ، فولد البرق .
لعبتُ معكِ لعبة البرق ، فولد المرمر.
لعبتُ معكِ لعبة المرمر ، فوُلد صدرك :
لعبتُ معكِ لعبة صدركِ ، فوُلدتْ حلمتان .
ثم
نفد اللعب ، فجأة ، فقد وصلتْ التقاليد ،
وولدتْ العائلة ، ثم نشبت الحرب .
عندما نقبّوا ، بحثا عنك في طبقات سومر ، وجدوا حلمة واحدة : حلمتكِ الثانية لا يعرف أحد أين أستقرتْ :
لعل الغزاة ، في أحد أدوارهم ، حملوا غبارها إلى بلادهم ، فجُن الهواء وولدتْ العاصفة .
لعل الريح حملتها فنبتتْ أولُ شجرة رمان على الأرض .
لعلها وقعتْ في يد الماء فسكرتْ الينابيعُ ، وترنّح العالمُ .
لعلها ..
لعلها صارت كلمة ، تشعبتْ جذورها بين سطور أوراقي ، ثم فاضت بحنان على هذه القصيدة .
............................................................................................................................
[email protected]
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض
.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب
.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع
.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة
.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟