الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرعب السياسي بين الكونت دراكولا وجريجوري سامسا

مهدي بندق

2010 / 12 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


الرعب السياسي بين الكونت دراكولا وتحولات جريجوري سامسا
مهدي بندق

استيقظ صديقي الدكتور محمود رشدي صبحا ، وإذا به – وللغرابة – يجد نفسه في فراش وثير جداً غير فراشه، وقبل أن تتفجر دهشته رأي شخصاً مرتديا بذلة سوداء و"بابيون" أبيض يقترب مبتسما: Good morning Mr., President ومشيراً إلى خادم خلفه يحمل صينية الإفطار. قال صديقي لنفسه : يا له من حلم ! ولكن رئيس جمهورية ماذا ؟ وما لبث حتى أتاه الجواب حين قاده سكرتيره الخاص بكل تهذيب إلى الـ " مكتب البيضاوي " !
بسرعة أدرك صديقي رشدي بذكائه الخاص خطورة الموقف ، فهاهو - المؤمن بفكرة المساواة - يجلس على قمة الهرم الرأسمالي العالمي ، رئيساً لمجتمع منقوع في مياه ثقافة " الفردية " Individuality التي تعتبر النجاح والفشل في الحياة مسئولية الشخص لا الدولة ، وهو مجتمع برغم كونه طبقيا إلا أنه مفتوح بما يسمح لأي فرد فيه أن يغدو مليونيرا أو سيناتور أو حتى رئيسا؛ فقط إن.. فقط إن عمل بجدية صارمة وعزم لا يلين . وعلى العكس - في رؤية هذا المجتمع الذي أقنعوه بصواب الداروينية الاجتماعية- فإن الكسالى أو ذوي الحظوظ السيئة ليس لهم أن يلوموا أحداً غير أنفسهم. ذات يوم كتب الفيلسوف نيتشة : يجب أن تتوقف المسيحية عن مطالبتنا بتحويل العالم إلى ملجأ للعجزة والمنحلين ! شكراً له أن غفل عن الإسلام الذي يدعو لغوث كل ذي كبد إنسانا كان أم حيوانا.
فهل يمكن لصديقي "الرئيس رشدي" أن يعمل في هذا المناخ على إقرار الحق والعدل ( من وجهة نظر الفقراء والمطحونين في العالم) بينما يعارض توجهاته معظم أفراد مجتمعه نفسه المتأثرين بمنطق "الحلم الأمريكي" القائل بأن الحق والعدل هما نجاحي "أنا" في تحقيق غاياتي "أنا" دون التفات إلى معاناة الآخرين؟

دراكولا مصاص الدماء
تعني كلمة دراكولا في اللغة الرومانية " الشيطان " ثم أطلقها أهل ولاية بنسلفانيا الإيطالية على حاكمهم "فلاد الثالث" ( ت 1476) لإعدامه 40000 شخص من رعاياه بالخازوق ، وكان قد ظهر بالتوازي مرض الأنيميا الخبيثة في أوروبا، فلجأ بعض المرضي لمداواة أنفسهم بالسطو على الناس لامتصاص دمائهم فيما يشبه عمليات نقل الدم في عصرنا، بفارق أن عصرنا – الذي تعلم الرياء - يشترط " تطوعنا" بعطايا دمنا خاصة لأعدائنا ، بينما كان المرضى الأعداء القدامى يأخذونها جبرا.
هذا بالضبط ما أغرى الكاتب الأيرلندي برام ستوكر( ت 1912) بابتكار شخصية تجمع بين ذلك الكونت الرهيب وبين مرضى الأنيميا الخبيثة مصاصي الدماء في رواية نالت الشهرة العالمية وتحولت إلى مصدر طاقة متجددة لمئات الأفلام ، ولعل ذلك يعود إلى ما ُيعرف في علم النفس بالرمز الجمعي حيث تتعلق الشعوب ببعض الأساطير التي تشير من طرف خفي إلى واقع معاناتها، وتفاصيل الفظائع المفروضة عليها، فكأن أسطورة الكونت دراكولا تقول للجموع : انتبهوا فثمة كيان قائم بينكم يمتص دماءكم ليعيش بها ويقوي ويتجدد ويتجبر، وماذا يكون ذلك الكيان اللاإنساني البشع إن لم يكن النظام الرأسمالي؟! وقد يكفي للمصادقة على هذه الدعوى رصد كيفيات معيشة أصحاب الرساميل ومدرائهم وموظفيهم بل وعمالهم (وأعني بعمالهم من يعيشون اليوم في نطاق المركز الأمريكي الأوربي فقط) مقابل جحيم البؤس السياسي المؤدي للفاقة والمجاعات والأمراض وانهيار المنازل والمبيت في العراء، مما يلف معيشة مئات الملايين من سكان العالم الثالث المعذبين على أطراف هذا النظام.
فهل بمقدور الرئيس الدكتور محمود رشدي أن يدفع بمطرقته وخشبته المدببة في قلوب الدراكوليين المسئولين عن هذه الكوارث ؟! أغلب الظن أن معاونيه في البنتاجون والسي آي إيه والإف بي آي سيكونون أول من سيغرز الخشبة بالمطرقة في قلبه هو فور علمهم بتفكيره ذاك وحتى قبل أن يعبر عنه ولو بالإيماءة. وانظر يا سيدي الرئيس رشدي إلى ما جري لسلفك جون كيندي وما سيجرى لزميلك باراك أوباما بمحاولتهما تزويد الدولة "بسندوتشات" الفكر الاجتماعي قصد الحد من نهم الدراكوليين الذي لا يشبع من دماء البشر.

صرصور كافكا
كتب الأديب التشيكي فرانز كافكا (ت 1924) روايته الشهيرة " المسخ" عن شاب يدعى جريجوري سامسا صحا من نومه ليكتشف أنه تحول إلى صرصور، مع بقاء أفكاره الإنسانية كما هي ، حيث تستمر تساؤلاته الجادة عن أسباب وجود الإنسان في عالم لم يختره ، وإنما ُأرغم على العيش فيه وفق شروط القوة والجبروت . وليس بمستبعد أن يكون الدكتور رشدي قد تذكر هذه الرواية وهو يواجه مأزقه الحالي : كونه صار رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية ولكن بعقليته هو كمصري عربي مسلم ذي ثقافة تؤمن بحق الشعوب في تقرير مصيرها وبناء دولها المستقلة على أراضيها المعترف لها تاريخيا بحيازتها. في مأزقه هذا سوف يتساءل كيف سيتصرف إزاء الصراع العربي الإسرائيلي وفي القلب منه القضية الفلسطينية ؟ لاغرو أن " يتمنى" الاستمساك بمبادئ الشرعية الدولية وتطبيق قرارات الأمم المتحدة . بيد أنه سيكتشف أن جميع مبادئ الشرعية الدولية قد خصصت للتداول " الشفاهيّ" حسبُ لزوم مؤتمرات القمم والاجتماعات العامة واللقاءات الثنائية، وسيكتشف تدريجيا أن كل هاتيك القرارات قد خضعت لتأويل إسرائيل بما يحقق مصالحها في ابتلاع الأراضي العربية بدء من القرار رقم 181 لسنة 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية وعبرية ، والقرار رقم 194 لعام 1948 الصادر بشأن عودة اللاجئين الفلسطينيين لوطنهم ، وحتى القرار 242 لسنة 1967 الذي يدعو اسرائيل للانسحاب من الـ "أراضي العربية" التي احتلتها في حرب حزيران ، وهو ما أوّلته إسرائيل( بالصياغة الانجليزية) إلى "أراض عربية ُاحتلت في حرب حزيران" وقس على ذلك بقية القرارات من مؤتمر مدريد إلى اتفاقية أوسلو وحتى المفاوضات الحالية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي والمتعثرة جراء إصرار الأخير على استمرار بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية ، فضلا عن المفاوضات "المجهضة " التي جرت منذ سنوات بين إسرائيل وسوريا بشأن الانسحاب من الجولان ومزارع شبعا اللبنانية. فهل نستبعد احتمال فرار الرئيس الدكتور رشدي أمام أرتال شاحنات اللوبي الصهيوني "رباعية الدفع" التي يعدو بجوارها تسعة أعشار أعضاء الكونجرس من الديمقراطيين قبل الجمهوريين مثل الـ Bodyguards؟ بينما تغني له صنائع الميديا بصوت فرانك سيناترا العذب الدافئ : لا تحلم يا سيادة الرئيس بنوم هادئ ولو لليلة واحدة ما لم تتوقف عن ممارسة الضغط على فتانا الوسيم ناتنياهو، وثق بنا حين نؤكد لك أن العرب عاجزون عن الحرب ، بقدر ما هم عاجزون عن التعامل سياسيا مع الأمر الواقع ، وبالتالي فالمصالح الأمريكية بمأمن من أن تمس ، أم تراك تضحي بمصالح الشعب الأمريكي من أجل الأوهام التي تسميها مبادئ الحق والعدل ؟! فإذا أجبت بالإيجاب فإن آليات النظام كفيلة بالإطاحة بك في الانتخابات القادمة بعد عامين اثنين، وإن غداً لناظره قريب حيث ستعرف أنك وأمثالك Strangers in the night
وهكذا أدرك الدكتور رشدي أن النظام هو من يصنع رئيسه وليس العكس ، ولكن لأن صديقنا لم يكن واحداُ ممن يقبلون بأن تغرب شمس العقل في رائعة النهار، فلقد ظل يبتهل إلى الله لينتشله من الفخ "الكافكاوي" المفزع كي يعود لحالته الإنسانية العادية: محكوماً بين المحكومين يعاني مثلما يعانون ، حالماً بيوم تخلو فيه الدنيا من نسل الكونت دراكولا .
ولسعادته فقد استجاب له الرب الرحيم فلم يعد رئيسا .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الرعب السياسي بين دراكولا وجريجور سامسا
هناء علوان ( 2010 / 12 / 20 - 19:06 )
يقترب كاتبنا الكبير مهدي بندق من أدب الفانتازيا السياسية بأسلوبه الرشيق السهل الممتنع ، وأنا كطالبة دراسات عليا في العلوم السياسية والاقتصاد استفدت كثيرا من هذا المقال الممتع الذي يشرح كيف تتغلب البنية على حواملها من الأفراد . شكرا للكاتب وللموقع على هذه النفحة الطيبة


2 - الرعب السياسي
نبيل فهمي المحامي ( 2010 / 12 / 21 - 10:18 )
من أجمل المقالات التي قرأتها في الآونة الأخيرة وإن كنت أعتب على الكاتب الكبير الأستاذ مهدي استخدامه لمبدأ التقية حتى لا يتصادم مع رؤساء العرب . ومع ذلك فالرسالة وصلت وشكرا


3 - لرعب السياسي نعيشه فعلا
مصطفي عوض ( 2010 / 12 / 23 - 19:38 )
أمس ضاعت فلسطين ةالعراق واليوم يضيع السودان وغدا سوف تضيع مصر ولبنان . وماذا بعد ذلك ؟ مبروك للأخوان المسلمين الجلوس على تلها وطظ في مصر يا سيادة المرشد وطظ في جميع الأوطان بفضل الحزب الوطني الذي يمهد
لك طريق الصعود إلى الهاوية وأنا أقول لكاتب هذه المقالة : سيادتك بتفخ في قربة مقطوعة . باى باى ياعرب

اخر الافلام

.. غزة اليوم (27 إبريل 2024): مخاوف الاجتياح البري لرفخ ومصير م


.. الاستخبارات الأميركية ترجح أن بوتين لم يأمر بقتل المعارض ألي




.. طلاب أميركيون يمنعون الشرطة من الاقتراب من زملائهم أثناء صلا


.. الجيش الإسرائيلي ينشر فيديو لإنشاء رصيف بحري في قطاع غزة




.. بايدن يشغل الساحة وحده وترمب عالق في قاعة المحكمة