الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دموع الوزراء

أحمد عصيد

2010 / 12 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


بكاء الوزراء في البرلمان أصبح ظاهرة ملفتة، فبعد بكاء وزير العدل، تلاه وزير النقل، و ليس مستبعدا أن يجهش وزير الإتصال بالبكاء عما قريب في لجّ الحملة التي تستهدف المغرب في العديد من الأوساط الدولية، كما قد يكون وشيكا أن نرى دموع وزير الداخلية بعد ما أسفرت عنه أحداث العيون الأخيرة.
وبغض النظر عن التأويلات المختلفة والقراءات التي قد تتعدّد بحسب الأشخاص والفرق والأحزاب والتيارات، إلا أنها ظاهرة تستحق الوقوف عندها ولو من أجل التعبير عن الأسف والحسرة لما آلت إليه الحياة السياسية المغربية، التي لم يعد نبضها يسمع منذ زمن غير يسير، بسبب ما أصابها من بوار وجمود، وما صار يعتورها من عيوب حولت آمال الناس إلى قلق ظل يتزايد حتى كاد يصبح يأسا قاطعا ما بعده من أمل.
قد يكون بكاء الوزراء بسبب شعور عميق بالغبن، بعد بذل الوسع والتضحيات والقيام بالواجب، وقد يكون بكاؤهم دليلا على الإحباط بعد أن يكونوا قد ووجهوا بمعاملة لا يستحقونها، وقد يكون ردّ فعلهم المحزن مؤشرا على انسداد الآفاق وعلى الشعور بعبثية الأمور التي طال أمدها وزاد عن الحدّ، فالإشتغال بالسياسة في المغرب ليس بالأمر المريح في بلد يفتقد إلى الشروط الضامنة لعمل مؤسساتي نظيف وفعال، حيث يجد الوزير نفسه بين نارين، نار المجتمع وانتظاراته الملحة وضغوطه التي لا تني، ونار السلطة العليا التي تمارس الحكم بالفعل دون أن تحاسب، و على الوزراء أن يتحملوا وزر سياسة جاؤوا بإرادتهم لتنفيذها وتحمل تبعاتها، معتبرين ذلك تشريفا لهم، غير أن الكثيرين منهم يصابون بالخيبة ويصعقون من درجة فساد المؤسسات التي يقودونها، و التي سلمت لهم فيها مقاليد الأمور ليكتشفوا أنهم محاطون بمافيات من كل نوع، لا تأتمر بأوامر الوزراء بل تستمد شرعيتها من مراكز النفوذ المخزني، و لهذا يصاب الوزراء ـ الذين يتحلون بقدر من الصّدق وعزة النفس ـ بكل أنواع الأمراض التي لم يكونوا يعرفونها قبل استوزارهم، فالسكري وأوجاع الرأس المزمنة والإرهاق الناتج عن التوتر النفسي الدائم هي أمراض رائجة في سوق السياسة المغربية، والوضعية أشبه بما قاله أحد شعراء أحواش الأمازيغيين عندما تولى الملك محمد السادس الحكم عام 1999، حيث أنشد مقطوعة شبّه فيها الدولة بحافلة مهترئة متهالكة، ذات محرك بارد لا يدور آليا من تلقاء نفسه، مما يضطر معه الركاب والسائق الجديد إلى "الدفع" بالأيدي، مع ما في ذلك من صعوبة زاد من وطأتها أننا في عقبة كأداء تبدو كما لو أنها بلا نهاية.
ثمة إذن عاملان قد يؤديان إلى إحباط الوزراء وذرفهم الدموع الساخنة، عامل التوتر الدائم الناجم عن فساد المؤسسات الموروثة عن العقود السابقة، وعن الصراع العبثي واللامعقول داخل دواليب الدولة، بين الأشخاص والمعسكرات المتطاحنة التي تجعل مصالح البلد في ذيل قائمة اهتماماتها، وعامل قواعد اللعبة التي لم ترْق بعد إلى مستوى اللعبة الديمقراطية المريحة لكلّ الأطراف.
و إذا كان الوزراء يتجنبون البتّ في العوائق الحقيقية لعملهم أثناء شغلهم لمنصب الوزير، فإن عقدة لسانهم تنحلّ بعد مغادرتهم للمنصب، فيحكون بحسرة عن العوامل التي حالت دون تحقيقهم للأهداف "المثالية" التي جاؤوا إلى الوزارة وهم يحملونها، وطبعا لا يجرؤ أحد منهم على تقديم الإستقالة بسبب "الثقة الملكية" التي وضعت فيهم، إذ الإستقالة تقتضي التبرير وتوضيح الواضحات التي هي من المفضحات كما يقال. وباستثناء السيد عثمان الدمناتي الذي زهد في منصب وزير الفلاحة الذي كان يشغله، و الذي تجرأ على أن يطلب من الملك الحسن الثاني بوضوح "إعفاءه" من منصبه بسبب عدم توفر الحدّ الأدنى من الشروط المعقولة للعمل السليم والنظيف، فإننا لا نكاد نجد من امتلك الجرأة على ذلك فيما بعد.
ذكرتني دموع الوزراء في البرلمان بمرحلة الطفولة، عندما كنا نلعب ليتحول لعبنا إلى تشابك بالأيدي ثم إلى البكاء، ففي لجّ الصراع والمنافسة الطفولية ننسى أننا نلعب، و نتوهّم كما لو أن ما نقوم به جدّ كل الجدّ، فنبكي بحرقة، رغم أنه لا موجب للبكاء. لقد بكى الوزير غلاب بعد أن اكتشف بأن الجميع انصرف إلى النوم في وقت التصويت على ميزانية قانون قضى في إعداده ثلاث سنوات، ولم يكن عليه البكاء لأن الذين انصرفوا إلى النوم يعلمون بأن الأمر مجرد لعبة مسرحية، ولو كان الأمر يتعلق ببرلمان حقيقي لظلوا في أماكنهم لشعورهم بثقل المسؤولية.
هكذا ينخرط بعض الوزراء في اللعبة بحسن نية، متناسين أنها مجرد لعبة لا أكثر، ما دامت الأمور الجدّية تتقرر خارج الحكومة والبرلمان، ولا يبقى إلا التنفيذ حسب الإستطاعة، لكن الوزراء من ذوي الحماسة والهمّة ينسون أنهم لا يحكمون، وأنهم مجرد منفذين في ظروف غير مثالية، وعندما يصدمهم الواقع بمراراته يبكون أو يتحسرون.
قد نكون متعسفين في قراءتنا التأويلية لدموع الوزراء، التي قد لا تحتمل كلّ ما ذكرنا، لكنها مناسبة سانحة لتنكيء الجراح التي لن يعالجها الصمت والنسيان في جميع الأحوال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيدة محجبة تحرق علما فرنسيا. ما حقيقة هذه الصورة؟


.. المحكمة العليا الإسرائيلية تقضي بتجنيد الطلاب -الحريديم- | #




.. غالانت يقول إنه آن الأوان لتفي واشنطن بالتزامها بمد إسرائيل


.. رائد مستقيل من الاستخبارات الدفاعية الأمريكية: الحرب لم تكن




.. فقد بصره وجزءا من أعضائه الداخلية.. الجزيرة ترصد حالة أسير ف