الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تهديد الذَاكِرة العراقية

نصير عواد

2010 / 12 / 22
الادب والفن


الذاكرة العراقية مهددة بالخراب. لا نتحدث عن شيء لا تعرفونه، خصوصا وأنتم تتابعون يوميات الهجمة القادمة من عصور البداوة والثأر مُسلّحة بالمال والسلطة والفتوى وبركات الاحتلال لتهديد حياة العراقيين وسلامهم الاجتماعي، ولكن الأكثر خطرا من الهجمة استقبالها بالصمت والتبرير وغمض العيون فيما هي تتوسع وتؤذي الحياة اليومية للعراقيين وتحاصر الثقافة وتتدخل في المناهج التعليمية وقريبا ما يوزع أصحاب الثياب السود القوائم على بيوت العراقيين يحددون فيها المأكل والملبس وحكايات ما قبل النوم.
إن تسييس المذاهب في عراق ما بعد الاحتلال أنتج وعيا طائفيا ورعبا جماعيا أدى إلى أن يلوذ الفرد بعشيرته وطائفته، وينشط في تشكيل مجموعات سرية تتغذى من بطون التاريخ والحروب الدينية وقيم البداوة وتنتشر انتشار النار بالهشيم في فراغ سياسي وفوضى اجتماعية قل نظيرهما في العصر الحديث. بمعنى أن الانهيار السريع للدولة العراقية ومؤسساتها أفسح في المجال للطائفية أن تبني بيتها على تفكك البنية المجتمعية وأن تهدم في استعجالها الكثير من القيم الاجتماعية والثقافية للمجموعات والأقوام التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها ومواجهة الفكر الطائفي بنفس أساليبه وأسلحته. وفي الوقت الذي تزداد فيه محاصرة الثقافة والفنون وتجفيف منابع الحداثة يجري على الجهة الأخرى فتح متنفسات للتعويض وإشغال البسطاء وتصريف الطاقات الإنسانية عبر استحداث طقوس ومناسبات تم توزيعها على أيام السنة، وما حادثة مقتل الأمام الحسين بطف كربلاء التي تستغرق شهرين من البكاء واللطم والطبخ وقصائد الحزن إلا حلقة من مسلسل درامي عن اثني عشر إماما يجري الاحتفال بيوم مولدهم ويوم وفاتهم ويوم سجنوا ويوم مرضوا، وفي السياق ذاته ستتحول الكثير من الأيام العادية والمألوفة في حياة الناس إلى أيام مُعظّمة ومقدسة كما نجده في يوم الغدير الذي تحوّل إلى عيد وعطلة رسمية يتم الاستعداد لها طويلا لغرض استخدامها كمناسبة للشحن الطائفي والتذكير بمفردات البيعة والولاية والحق المهضوم. أما نحن الجالسون على رصيف الأمل والنوايا الطيبة فقد ألهينا أنفسنا طويلا بالحديث عن سماحة الأديان وتصوير الهجمة التي أربكت النسيج الاجتماعي ومارست شتى صنوف التهديد والقتل على أنها خلل في الممارسات وليست في الأديان، وحاولنا أن نفصل بين النص وبين من يوجه إليهم، نفصل بين الوسيلة وبين الهدف، مع أن حقيقة الأمور والممارسات اليومية تقول عكس ذلك. الطائفي، عبر أسلوب الانتقاء، يجد في الكتب المقدسة تبريرا لما يفعله ويحتاج إليه في حراكه اليومي، فقد يُفعّل آيات التسامح والمحبة عندما يكون في موقع الضعف ويعمل على تشديد خطاب النهي عن المنْكر عندما يجد نفسه في موقع القوة، أي أن الكتب المقدسة هي المنبع والمرتكز الأساس لنشوء فكر وممارسات الطائفيين في إلغاء الآخر وتغذية الانتقام الأعمى. وإذا كانت هنالك آية قرآنية في السلم أو حديث نبوي في التسامح فهناك عشرات الآيات والأحاديث الشريفة تعيدنا إلى بدائيتنا وبدويتنا وقسوتنا في إلغاء الآخر وقتل المختلف، وليس مصادفة سماع أحد الطائفيين وهو يختصر مجزرة كنيسة النجاة في بغداد بجملة بسيطة بقوله"لم نأتِ بشيء من عندنا فالنبي محمد (ص) في حديثه الشريف قال، لا يجتمع في الجزيرة دينان". فهذه الآيات والأحاديث ،والفتاوى أحيانا، يجري تفعيلها خارج حدود الزمان والمكان وكأن المجموعة في عزلة لا ترى فيها سوى ما تريد أن تراه، وكلما هاجرت المجموعة إلى الداخل وحفرت في خصوصيتها الثقافية لتحريك المشاعر الأكثر عمقا ومأساوية في التاريخ البعيد ستزداد عزلتها وسيضمحل تدريجيا إحساسها بالآخر ويقل دعمها الثقافي للأصوات والأنواع الثقافية المغايرة.
إن العزلة التي عانت منها الطائفة الشيعية بالعراق عبر قرون من الصراع والتقية، أنتجت خصوصية فكرية صنعت لنفسها مناخا ثقافيا مشبعا بمفردات البطولة والقداسة والإمامة والمظلومية التي تخاطب المشاعر وتغذي الأمل في ظهور من يملأ الأرض بالعدل، ولكن هذه الخصوصية الفكرية ـ الثقافة التي شيدت على إلغاء الآخر عانت، بعد وصولها إلى سدة الحكم، من قصور في التوفيق بين متطلبات الداخل التي تخاطب المشاعر والأحاسيس والهموم المباشرة وبين التفاعل والتواصل مع الثقافة الإنسانية. هذه الخصوصية التي تنتقي من الأنواع الثقافية ما ينسجم مع توجهاتها الطائفية " الشعر الشعبي، الخطب الدينية، المشاعر الحسينية، الإعلام المرئي السهل" غير قادرة حتى الآن على تقديم مشروعها الثقافي الوطني القادر على الاستمرار والإقناع والصمود أمام التساؤل النقدي والتطور الهائل لمنتجات الثقافة والحضور في النشاطات الإقليمية والمهرجانات الدولية. فحصار وإلغاء وتحريم الفنون كالموسيقى والرسم والنحت والبحوث والنقود والدراسات التي تغرف من منابع الحضارة الإنسانية وتسير مع ما توصل إليه العلم والتكنولوجيا، ستؤدي إلى غلق منافذ الإبداع وهجرة النخب المثقفة وإفراغ الوطن من مبدعيه وسوف لن يُتْرك أمام المسؤولين سوى إرسال الشاعر"الحسيني" للمشاركة في النشاطات الثقافية الإقليمية والطلب من عنده"دكتوراه في حب الحسين" للمساهمة في المؤتمرات الدولية. ينبغي الاعتراف هنا إن النخب السياسية للأحزاب الدينية التي عاشت في المنفى ووسعت علاقاتها بالأوساط الثقافية والسياسية استطاعت شراء بعض الإعلاميين والشعراء والكتبة لتسيير أمورها التقنية بالعراق على الرغم من معرفتها بماضيهم السياسي وأسلوبهم الانتهازي الذي جعلهم أشبه بحربة مواسم في كل عرس ينبتون ويرقصون، مرة بسبب الحاجة وأخرى بسبب الخوف والتهديد وثالثة بدافع الالتزام بقيم الطائفة والعشيرة. ولكن هذه الأداة الرخيصة ستبقى مصدر قلق للطائفيين المشبعين بروح الثأر وسيتخلصون منها حالما يشتد عودهم.
الثقافة، كغيرها من نشاطات الإنسان الأخرى، قادرة على العطاء والإبداع والاستمرار مثلما هي قادرة على تبرير الظلم والتغنّي بالتدمير وتصوير الجلاد على أنه بطل قومي، وإذا ما حاكمنا الثقافة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع فإنها ستكون الأخطر على ذاكرة الشعوب. بمعنى أن الثقافة قادرة على أن تكون جزء من تحديث المجتمع وتنويره وتحريضه على مواجهة المحتل مثلما هي قادرة على تبرير الاحتلال والعمل ضمن أجندته والأخذ بيد الملايين المغيبة إلى القرن الأول للهجرة للبحث عن عدو موهوم قَتَل الحسين عليه السلام، ألبسوه ثوب أهل الشام مرة وأخرى ثوب آل سعود وثالثة ثوب أهل الأنبار وقد يلبسونه ثوب مسعود البارزاني في المستقبل القريب.
إن ما يحدث في عراق ما بعد الاحتلال هو أن نخبه السياسية والدينية كشفت عن ثقافة ذات مضامين وأساليب تُكمل ما بدأته الديكتاتورية المقبورة من قمع وإلغاء للحريات باسم الدين والأخلاق، ولكن هذه المرة عبر خطاب بسيط ومتصلب يتبنى فكرة "المظلومية" ويدغدغ مشاعر الأغلبية الأمر الذي جعله خطابا بعيدا عن المسائلة والاختلاف. فتكسير آلة الدولة القمعية بعد دخول المحتل ومن ثم بناء مؤسسات رقابية جديدة تستلهم روح القمع وإلغاء الآخر والتدخل في حياة المواطنين الشخصية، أنتج ثقافة تخاطب الأحاسيس وتلبي الحاجات الروحية للجموع الخارجة توا من محنة الديكتاتور لتغطي فيها على فشلها في بناء مشروع وطني ثقافي واضح المعالم يحمل معه الجديد والعميق للهوية الوطنية المعروفة بالتنوّع والحراك والإبداع. والسؤال هو إذا كان الطائفيون قد هددوا استقرار المجتمع وثقافته قبل أن تكتمل أدواتهم ويتبلور مشروعهم البديل فكيف بمستقبل الأقليات والأحزاب والمنضمات العراقية إذا تمكنوا من ذلك في المستقبل؟ خصوصا وأن هنالك الكثير من عوامل المال والسلطة واحتكار الحقيقة الإلهيّة تساعدهم في ذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اذاكــان
مـواطن عراقى ( 2010 / 12 / 22 - 13:14 )
بعــد ألأحتــلال--كلمه غير دقيقه--فهل اللطم والتطبير والزنجيــل والتشـابيه فى الخمسينــات والستينــات وقبلهــا وقبلها هى من صنــعة ألأحتـلال الذى انقــذنا من احط واســخ بــدو --ولــولاه - --- -لكــان ابن عدى ســوف يقمعنا--اقصـد يقودنا
وهــل ألأحتـلال وألامبـريياليه والصهيــونيــه هى التى أدارة ألأجتمــاع فى مــؤتمر بنى ســاعده وقتــل سعــد ابن عبـاده هل قامت به الســى اى ايه نــرجوا من العزيز نصيــر أن يقدم لنـا معـعلومه بعيــده عن المـوقف المسبــق-ألأيديولوجى-


2 - تحية طيبة
نبيل عبد الأمير الربيعي ( 2012 / 3 / 24 - 12:45 )
اخي ورفيقي وصديقي وابن مدينتي في مجمل كتاباتك تصيب كبد الحقيقة وفي هذه المقالة قد اثلجت قلبي كونك صادق في تعبيرك ومقالتك , اطلب منكَ المزيك من المقالات ليعرف القاريء ما يحل ببلدنا , تحياتي

اخر الافلام

.. مباشر.. أسئلة لازم تراجعها قبل امتحان اللغة العربية غدًا.. أ


.. جامعة كاليفورنيا في ديفيس تفتتح أول مركز أكاديمي لأبحاث وفنو




.. تفاصيل جديدة في واقعة مشاجرة إمام عاشور بالشيخ زايد..«مراته


.. فوق السلطة 394 - اتّهام جدّي لمعظم الفنانات بالعمل بالدعارة




.. ادعوا لطلاب الثانوية العامة بالتوفيق.. آخر الاستعدادات لامتح