الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
على دار الأوبرا الفنلندية في هلسنكي نساء عراقيات في أوبرا عايدة
يوسف ابو الفوز
2010 / 12 / 22الادب والفن
في وسط العاصمة الفنلندية ، هلسنكي ، تنتصب دار الاوبرا الفنلندية ، التي تم الانتهاء من بنائها بشكل فاخر عام 1993، حسب تصميم واحد من اهم فناني العمارة الفنلنديين المشهورين عالميا ، مجهزة بأحدث وسائل التكنولوجيا لبناء وتحريك الديكورات الضخمة ، وبخشبة مسرح مساحتها خمسمئة متر مربع ، وسقف بأرتفاع 28 مترا ، حيث بعدها بدأت مرحلة جديدة في مسيرة الاوبرا الفنلندية ، التي تمتد بداياتها الى عام 1911 ، حيث كانت فنلندا جزءا من الامبراطورية القصيرية الروسية ، وبحكم كون القيصر الكسندر الثاني (1855ـ 1881) ، اختار هلسنكي عاصمة شتوية له ، فقد شيد مسرحا خاصا لحفلات الاوبرا والباليه كانت تقدم عليه العروض التي ساهمت بتطور كادر فنلندي تدرب واعد اجيالا لاحقة ، ساهمت في ان ترسم نشاطات دار الاوبرا الفنلندية مسيرة باهرة بحيث انها حاليا تقدم سنويا حوالي 300 عرضا ، يشمل حفلات موسيقية أوركسترالية لفنانين مشهورين، اضافة الى عروض الاوبرا والباليه ، حيث في كل موسم يكون هناك اربعة عشر اوبرا الى جانب سبعة عروض باليه ، ويشترط ان يكون في كل عام هناك سبع عروض جديدة ، ثلاث منها عروض باليه واربع عروض اوبرا ، وحيث يعمل في دار الاوبرا الفلندية ، كادر يضم حوالي خمسمئة من الموظفين الدائمين، من أعضاء الأوركسترا ، مغنين في الجوقة ، عازفين منفردين، راقصي الباليه ، أفراد خدمات فنية وتقنية، اداريين ، اضافة الى عشرات المطربين والراقصين والموسيقيين، من مختلف الجنسيات، الى جانب وجود مدرسة للموسيقى والباليه تابعة لدار الاوبرا تضم 200 طالبا . من اهم العروض التي شاهدها زوار دار الاوبرا الفنلندية، هذا العام ، كان اوبرا "عايدة"، للموسيقار الايطالي الشهير "جوزيبي فيردي" (1813 - 1901) ، التي وضع موسيقاها حسب طلب "اسماعيل باشا " خديوي مصر ، الذي دفع له مقابل ذلك 150 الف فرنك من الذهب الخالص، وكان مقررا تقديمها في حفلة افتتاح قناة السويس على دار الاوبرا الخديوية عام 1869، لكن تأخر وصول الملابس الخاصة بالعرض من باريس ادى الى تقديم عرض عمل اوبرالي آخر لفيردي مأخوذ عن قصة لفكتور هوغو ، اما اوبرا "عايدة" فقد قدمت لاول مرة في العالم في عام 1871 على خشبة مسرح دار الاوبرا المصرية القديمة . خيوط قصة اوبرا عايدة صاغها شعريا الشاعر الايطالي "انطونيو غيالانزوي"، استنادا الى وقائع تأريخية كشفت عنها الحفريات الاثارية علي يد عالم الاثار الفرنسي "اوجست ماريتا" في وادي النيل ، حيث كتب قصتها بأختصار "ميريت باشا" عالم المصريات الفرنسي، وهي تحكي قصة انتصار المصريين على الاحباش، وتروي قصة حب الاميرة "عايدة" ، الاسيرة الحبشية ، وراداميس قائد الجيش المصري ، الذي أحبته لكنها تواجه بتعلق وحب أبنة فرعون مصر لحبيبها راداميس واستعدادها للزواج منه ، ويجد رادميس نفسه بين أمراتين تتصارعان لنيل حبه ، فيعيش صراعا نفسيا شديدا في الاختيار بين الواجب والعاطفة ، واذ يستسلم لعاطفته ، ويقرر الهرب من حبيبته الى الحبشة ، دار الاعداء ، ينكشف أمره ويحكم عليه من قبل رجال الدين والفرعون بالموت ، فيدفن حيا مع حبيبته عايدة .
ويعتبر نقاد ومؤرخو الفن ان اوبرا عايدة بداية شكل جديد للدراما الغنائية ونهاية لعصر كانت جذوره تمتد الى التقاليد الشعبية في الموسيقى ، فالموسيقار فيردي ، في ايطاليا ، الى جانب فاغنر ، في المانيا ، يعتبران من اساتذة العصر الذهبي للاوبرا ، الذي ساهما بأعمالهما بتجاوز الاساليب القديمة ، ممهدين لأساليب وطرق اوبرالية جديدة شهدها مطلع القرن العشرين . وتعتبر اوبرا عايدة احد ابداعات فيردي لكونه استطاع بوضوح ان يعكس التلوين الاوركسترالي من خلال اقترابه من ملامح الحضارة الفرعونية وبيئتها المتنوعة ، ففصول الاوبرا يختلط فيها التأريخ بالحضارة بالمشاعر الانسانية ، فجاءت موسيقى فيردي مكتضة بروح الشرق ، معبرة عن سمو النيل وافق الصحراء واجواء المعابد وروح الفخر ، وربما ان كثيرين لا يعرفون ان السلام الوطنى المصرى ، الذي ظل مستخدما من عام 1876 لغاية 1958 ، تأريخ الوحده مع سوريا ، هو مارش الإنتصار المأخوذ من اوبرا عايده ، ويمكن تماما تلمس روح الشرق في هذا المارش . ويشير العديد من النقاد الموسيقيين ، الى ان تأثر فيردي باعمال شكسبير ، وكتابته لاوبرا عطيل ، استنادا الى قصة شكسبير ، قد منح موسيقى فيردي عمقا في التعبير عن الموضعات التأريخية والسياسية ، اضافة الى ارتباط فيردي وموالاته للنشاط الديمقراطي والحركات التحررية مما اكسب موسيقاه روح التمرد والتجديد، او كما يقال عادة عنه سعى لان تكون موسيقاه الصوت المعبر عن سعي شعبه الى الحرية .
وقدمت اوبرا عايدة ، على مختلف خشبات المسرح ، في العديد من دول العالم ، فهي تكاد تكون واحدة من اشهر الاوبرات التي يظل يتقاطر عليها المشاهدون للاستمتاع بموسيقاها، وبعرضها المسرحي ، مع اختلاف المخرجين والعازفين والمنشدين . مؤخرا توفرت لي الفرصة لمشاهدة عرض اوبرا "عايدة" ، على خشبة مسرح دار الاوبرا الفنلندية ، (أتحدث عن عرض ليلة السادس من شهر تشرين اول / اكتوبر الماضي) رسم رؤيتة الاخراجية على المسرح المخرج الالماني "جورج روتيرنغ" ، مع عزف الفرقة الاوركسترالية لدار الاوبرا الفنلندية بقيادة الموسيقار الايطالي "ستيفانو رانزاني" ، وساهم في اداء الادوار نخبة من الفنانين الفنلنديين اضافة الى مشاركة بعض الاصوات الاوبرالية العالمية مثل الفنان الايطالي "اناتولي بلامبور" (تينور ) ، والفنانة الامريكية "ماردي بايرز" (سوبرانو) . المخرج الالماني جورج روتيرنغ ، بدا في العرض فنانا بارعا ، يجيد السيطرة واستخدام اداوته الفنية ، واسقاط الاحداث العالمية المعاصرة ، على عرض اوبرالي تأريخي ، وأبداء موقف رافض من الحروب والعنف ، وتمجيد الحب والوفاء . فكرة العرض الاساسية عنده اعتمدت على المزج بين الازمان ، وتبدى ذلك بشكل اساس في الملابس التي صممها الالماني "غوتز فيشر"، فرأينا رجال الحرس، الذين يحيطون بالفرعون وبرجال الدين ، بعضهم بازياء بلمسات من عصر الفرعون مزودين بالرماح والسيوف ، وبعضهم بملابس هجينة حديثة ، بناطيل خاكي وقمصان فضفاضة ، والبعض الاخر بملابس قاتمة مستمدة من ملابس الغستابو النازي مزودين ببنادق رشاشة قصيرة . أما راداميس (التينور الايطالي اناتولي بلامبور) ، قائد الجيش المصري ، فارتدى تحت معطفه الذهبي العسكري ، الذي سرعان ما ينزعه ، ملابس عصرية ، كانه قائد مفرزة مقاتلين في حرب العصابات في امريكا اللاتينية أو مكان اخر ، أذ ظهر ببنطلون جينز قاتم وجاكيت جلد اسود . وقدم العرض المسرحي طبقة الارستقراطية في قصر الفرعون في حفلاتهم الباذخة ، بملابس عصرية ، فالرجال ظهروا ببدلات السموكن والفراك وربطة العنق الفراشة ، والنساء بملابس السهرة الطويلة ، من اخر صيحات الموضة ، والحفلات والخدم من حولهم وكأنهم في قصر رئاسي في القرن العشرين او الحادي والعشرين ، اما في مشهد السجناء، بعد هزيمة الجيش الحبشي في المعركة ، ظهر الاسرى بالملابس البرتقالية اللون الشهيرة لسجناء سجن غوانتانامو الامريكي ، وترك المخرج عايدة (السبرانو الامريكية ماردي بايرز ) تخطر طول العرض بثوب منزلي بسيط ، من ملابس شمال افريقيا، بقماش موشى بالزهور الكبيرة ، لا تزال ترتديه فتيات هذا العصر ، بينما ظهرت ابنة الفرعون امنيريس (الميزو سبرانو الفنلندية تويا كانيهتيلا ) ، في اعلى درجات البذخ ، والتمسك بالمظاهر ، ففي كل مشهد كان لها فستان مغاير ، يعكس روح التعالي، وكانت فساتينها ، تبدو وكأنها لا تختلف عن فساتين زوجة اي رئيس جمهورية معاصر، او من فنانات هوليود الحريصات على مظهرن وازيائهن، اما رجال الدين والكاهن الاكبر والفرعون وحرسهم ، فهم الوحيدون، الذين ابقى عليهم العرض بملابس ذات نقوش فرعونية ، لكن الوشم والنقوش ، والالوان ، كانت تجعلهم وهم يتحركون ككتلة واحدة على المسرح ، كأنهم كأئنات غرائبية ، من نسل الافاعي ، عاكسا موقفا موحيا وواضحا من سلطة رجال الدين .
استغل المخرج ، خشبة المسرح الضخم ، ، استغلالا دراميا كبيرا ، مع ديكورات باذخة صممت ببراعة من قبل فنان الديكور الالماني "بيرناد فرانكي" ، الذي استخدم الازرق الداكن مع الذهبي ، ليعطي عمقا دراميا للمشاهد عسكت الثراء الابداعي للعرض ، توافقا مع انارة ذكية من تصميم الفنلندي "اليكا بالونيمي" ، فالمسرح قسم الى مستويين بارزين ، طابقين ، يختلفان عن بعضهما البعض في التفاصيل والغايات ، مما منح العرض العديد من مظاهر القوة والجمال ، ويربط بين الطابقين سلم عريض بدرجات عديدة ، استغل في تقديم العديد من مشاهد الصراع والسجال في الافكار والمواقف ، خصوصا في ظهور رجال الدين والحرس المحيط بهم ككتلة واحدة متناسقة ، امام راداميس الحائر او عايدة المحبطة . الطابق الاعلى من المسرح ، الذي بدى كباحة وممرات وشرفات قصر فرعوني ، وكان متميزا بالنقوش الفرعونية والقناديل والاعمدة الفاخرة الذهبية والتماثيل ، ظل مكانا لحركة رجال الفرعون وابنته ورجال الدين ومجتمع القصر الارستقراطي ورجال العسكر، وايضا راداميس في المشاهد الاولى من العرض ، قبل ان يتحرك الى الطابق الاسفل ويظل هناك الى نهاية العرض ، الى جانب عايدة ، التي طيلة العرض كانت تتحرك على الجزء الاسفل من المسرح ، الذي خصص لعامة الشعب ، ومكانا لزنازين السجن ، حيث سجن الاسرى الاحباش ، وبينهم والد عايدة ( الفنلندي ميكا كاريس ) ، الذي اخفى في البداية شخصيته كملك للحبشة. على خشبة المسرح ، بين ديكورات الطابق االاسفل ، البسيطة ، بين عامة الناس ، جرت مشاهد الحب ، بين عايدة وراداميس ، وجرت منولوجات رادميس الشهيرة ، في صراعه بين الحب والواجب . كانت ابنة الفرعون امنيريس تدخل المسرح دائما من الطابق الاعلى ، من شرفات القصر ، وتتحرك احيانا على درجات السلم العريض صعودا ونزولا دلالة الحيرة وعدم الاستقرار في القرار ، وحين تقف في النهاية ، الى جانب رجال الدين في ضرورة اعدام رادميس واتهامه بالخيانة ودفنه حيا مع عايدة انتقاما، تقف تماما في شرفات القصر العالية، على مقربة من الكاهن الاكبر رامفيس (الفنلندي يوركي كورهنينين ) ورجال الدين ، الذين يريدون التخلص من راداميس باعتباره خائنا . أيضا ابتدأ العرض المسرحي بنزول عايدة الاسيرة من الطابق الاعلى ، دلالة على تغير مكانتها الاجتماعية ، لتبقى العرض كله تتحرك في القسم الاسفل ، ولتدفن حية في اخر مشهد مع حبيبها المغدور، وكانت الاضاءة الخلابة تمنح المشاهد المسرحية ابعادا نفسية اعمق . وطيلة العرض ، ظل هذا التقسيم ، بين مستويات المسرح يتحكم ويعكس الصراع الدائر بين عناصر الحكاية ، فرجال الدين وابنة الفرعون وحرسهم من جهة ، وعايدة ورادميس والجيش الحبشي وقائده وعامة الناس من جهة اخرى . الطريف ان المشاهد القليلة التي ظهر فيها الفرعون (الفنلندي هانو فورسبرغ ) ، تطلبت من الجمهور ان ينظر عاليا ، فقد جعله المخرج يظهر من احدى الشرفات العالية ، محاطا بالانوار والدخان التي تضفي عليه مظاهر القدسية والغرائبية ، واذ كان الجمهور يراه واضحا ، فأن من يسجد له على خشبة المسرح ، يسمع فقط صوته ويرى الاضواء المحيطة به ، مما يعكس فوقية الحاكم وتعاليه وابتعاده عن عامة الناس . وفي مشاهد استعداد الجيش الفرعوني للحرب ضد جيش الجبشة ، عكست بشكل واضح الرؤية الاخراجية للمخرج الالماني جورج روتيرنغ ، وموقفه الرافض للحروب وسيطرة الرأسمال ، اذ زود خشبة المسرح ، في وسطها تماما بست شاشات سينمائية مستطيلة كبيرة، ومع مارشات الاستعداد للحرب والابواق التي تنعق من شرفات القاعة المحيطة بالمسرح ، لتخلق الجو المرعب والمتوتر ، ما قبيل الحرب ، راح يتوالى عرض صور ارشيفية ملونة من كل تاريخ الحروب البشرية المعاصرة ، مترافقة مع صور ابار النفط ، والدبابات الحديثة والمدافع وناقلات الجنود والطائرات ، مع صور الدمار والقتلى وتدمير القرى والمدن والاثار الانسانية ، ابتداء من حروب فيتنام ولاوس ، ومرورا بحروب البوسنة ، وصولا الى حروب الخليج وغزو العراق ، وراحت تتكرر بشكل واضح، مع نعيب الابواق وأنين الكمانات ، صورة الام العراقية ، التي تفرد عباءتها وهي تصرخ امام جثث القتلى الممددة امامها ، اضافة الى صور لجنود امريكان يقتحمون بيوتا عراقية ، ورجال عراقيين معصوبي العيون ، وصور من سجن ابو غريب في بغداد ، وصور نساء يبحثن عن ماء صالح للشرب . كانت رسالة العرض واضحة ، للتحذير من تناسل القوة والحروب والعسف عبر الازمان ، والذى ادى في اخر العرض لدفن الحب والرغبة بالسلام مع عايدة ورادميس تنفيذا لقرارات رجال الدين الافاعي والفرعون المتسلط وابنته الحاقدة .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - تعليق
سيمون خوري
(
2010 / 12 / 22 - 11:26
)
أخي الكاتب المحترم تحية لك وشكراً على عرضك الجميل لأوبرا عايدة وعلى الخبر المفرح حول دور نساء عراقيات ومشاركتهن . وكل عام وأنت بخير
2 - تحياتي
رحيم الغالبي
(
2010 / 12 / 22 - 20:55
)
موضع وبحث فني رائع...يسحق القراءه اكثر من مره
مع اعتزازي
http://m1.ankido.net/
.. فنان بولندي يجسد مشهد قصف إسرائيلي على خيام النازحين في غزة
.. الموسيقار خالد حماد قبل حفله بمهرجان الموسيقى العربية: عمرو
.. فنانون عرب يقعون في فخ التطبيع مع إسرائيل
.. «انا والعكس صحيح» أمسية شعرية مع الشاعر العراقي شوقي عبدالأم
.. الشاعر والدبلوماسي العراقي شوقي عبدالامير: الحمر أول من تبنى