الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مايتبقى من البياض

ناصرقوطي

2010 / 12 / 24
الادب والفن


قصة قصيرة ناصرقوطي


ما يتبقى من البياض

هناك .. حين يحتضر الفجر ويدور مرارا قبل أن يسلم الروح ، أو يدرج زاحفا على ما تبقى من ظلال . في انكسار الأفق ، عند الخط الفاصل بين السفر السرمدي والإياب ، حين تتشابه الدروب ، تندغم الظلال ، في دعة تسترخي الرطوبة وتندى بحنين المقل . في المدينة التي لا تنتهي عندها الحدوس والتأويلات إنما تنتهي عند حدودها كل العلامات الفارقة للوجوه . في المكان الذي يعود الواحد منا لا يشبه إلا نفسه . هناك أدخلوه ، عاريا ، إلا من ثوبه الأبيض الأكثر نصاعة من نديف الثلج وبكل هيبة تركوه " نائما بجوار الباب " بين أقرانه الغارقين في إغفاءاتهم ، من ذلك المكان راح يسترق السمع لنأمات الأصوات الجديدة وينظر حوله دون أن يصدق أن هنالك عالما بمثل هذا النقاء البلوري . كانت عيناه الرماديتان تثقبان انبهار الهالات المشعة بالبياض والتي تكاد تغشي البصر من شدة سطوعها . كان كمن يسبح في خضم من لجج من نور لا متناه ويهمس :
- ( أأنا في غيبوبة أم ماذا .؟ ) ..
سأل نفسه بينما كانت حبيبات الغبار ، مثل فراشات صغيرة ملونة تتطاير من أنفه :
- ( لأجل من كل هذا الضياء والنور الذي يخطف الأبصار ...!!) .
سأل ثانية فيما الأنوار تكاد تلاشي كل شيء في المكان حتى إذا لم يجبه أحد انتفض فجأة وصرخ :
- ( أأنتم موتى أم ....!!) .
وقبل أن يكمل جملته سمع صوتا رخيما . صوت رجل في نحو الأربعين ، كان الصوت ينبثق ثقيلا فيه رنة موسيقى حزينة :
- ( عليك أن لا ترفع صوتك لئلا توقظ النيام ..) .
- ( بل كلهم يقظون .. فلم التردد ..) .
- ( لكنك لا تدري أن الضيوف لا يسألون إلا بعد مضي ثلاثة أعوام من رقادهم ، فالزمن هنا يمر بسرعة الضوء ، وأنت لم تعرف حتى اللحظة إيقاع هذا العالم لأنك نزيل جديد فدع عنك السؤال واسمح لي أن أوجز لك مالا تعرفه عنا .) ..
- ( أعرف .. أعرف كل شيء ، ولست في حاجة لمعرفة شيء بقدر ما لدي من مشاريع لم تكتمل ، وأخشى أن تؤخرني ، كما إنني مازلت في منتصف الطريق .. ) .
قال " محمد الحمراني " ذلك بعد ان ساد صمت أبيض بارد وهو يحدق بوجه الرجل ذو الأربعين عاما ليهمس وقد تحول غضبه إلى تعجب فيما ارتسمت ابتسامة فاترة على شفتيه المكتنزتين :
-( ان صوتك يذكرني برفيق قديم ، حتى ان طاقيتك التي على رأسك تشبه طاقية رفيقي " أحمد آدم " غير أنك متقدم عنه في السن .. أأنت هو .. تبدو أنك هو ولكنك شخت كثيرا.. ) ..
- ( كلنا يشيخ هنا مادمنا مستمرين بالرؤى) ..
قال آدم ذلك وأشار بسبابته نحو كوة صغيرة تنخر فيها ديدان بيضاء وأضاف :
- ( أنظر هناك ، ألا ترى الضوء أشد سطوعا .. ألم تسأل نفسك .. ألا ترى الديدان تبني مملكتها وهي تسعى بكل طاقتها ضد فناء جنسها الأبيض .) ..
- (أرى ذلك ، ولكنها تأكل كل شيء ، حتى التراب ، فهي تبني مستوطناتها في المزاغل والبيوت والحارات فهذا ديدنها وليس من الغرابة في شيء . يبدو أنك لا تعرف ما فعله الجنس الأبيض في تراب كل العالم إنني أعجب لدهشتك ..!!)
- ( إنني أتكلم عنك فحسب فبالرغم من وصولك المبكر تريد أن تعرف كل شيء دفعة واحدة ..) .
- ولكنني أسعى لأكمل مشواري .. حكاياتي التي لم يسردها أحد بعدي ، كما ان حكاياتي عن رحلة مسافات في الجنوب ، مسافات من القهر والأوبئة . مسافات بوح أخال أن لا يتطرق إليها أحد غير صمت الأنهر الصغيرة والشاخات ، فتظل مختبئة هناك بين سعف النخيل .) ..
- ( لا تخف .. إنها هناك _ همس آدم _ وهي محض حكايات لا أكثر سيقصها أقرانك بألف لسان ، ولتعلم ان قصائدي التي لم أكتبها ، أسمع رنين موسيقاها عبر بلايين الجدران وهي تتردد على لسان " علاوي كشيّش " وغيره من أقراني فلا تبتئس ودعك في رقدتك ، أغمض عينيك فقط وسترى العالم أكثر جمالا وسيكون لك شأن في فجر آخر فنم يا صديقي .. نم . ) ...
هكذا رقد الحمراني ، أغمض عينيه على حلم أبيض ، وطافت ذاكرته عبر سماوات لازوردية حتى شعر لحظتها ان رقاده ذاك دام أعواما طوال فخلع رداءه الأبيض وارتدى بنطاله الجينز ومعطفا رماديا وارتقى صاعدا إلى الأعلى بصحبة رفيقه آدم الذي قدم إليه رفيقا آخر هو" قاسم العجام " الذي صافح الحمراني بود ظاهر فتحرك الثلاثة وفي جوانحهم فرح غامر يعادل شدة سطوع الأنوار في عالمهم ، فبدأ الضوء يخبو وهم يصعدون إلى الأعلى نحو عالم رمادي ، يزداد قتامة في كل خطوة يتقدمون بها ، يمسك أحدهم الآخر خوفا من الافتراق عن بعض والضياع إلى الأبد ، في عالم سديمي تنتفي فيه الظلال وتنساب آلاف الأقنعة عن وجوه ساكنيه انه عالم الرماد ، الذي يرومون الصعود إليه بحذر شديد وهاهم يصعدون بخطى واثقة بين الأنوار التي راحت تخفت وراءهم رويدا رويدا .

* * * * * * * * * *
(( مما لم يدونه " الحمراني " في مخطوطته الأخيرة " حجاب العروس "))

فوق درجات السلم الضيقة كنا ندرج _ صعودا _ باتجاه الغرفة وكانت الظلال تزداد قتامة كلما توغلنا إلى الأعلى .. لم نكن نعلم حتى ساعة وصولنا بغياب زميلنا واختبائه متخفيا ومحتجبا عنا كل تلك الأعوام ، لولا زوجته المسكينة التي أكدت لنا وجوده وعجزه المتفاقم عن الكلام أو الاتصال بأي كائن آخر وان كانت وزغة عابرة تزحف تحت مصباح غرفته المطفأ أو عنكب يبني خيوط بيته بين رفوف الكتب أو طائر السنونو الذي هجر عشه عند حافة النافذة ، ولولا زوجته التي كشفت لنا عن وجوده لتلاشى في عزلته المريرة تلك وطواه غبار النسيان . لم يتبادر لنا لحظتها ونحن نلج عتمة الغرفة ونراه مستلقيا على ظهره إلا مسخ كافكا . كان ظهره قد تدرع بترس فولاذي واستطالت رقبته فيما أذرعه السائبة كانت تتحرك في عدة جهات وفمه الضفدعي الذي نجا من الحراشف التي كانت تغطي جسده برمته راح يطلق زبدا أخضر ، لقد غدا كائنا هجينا بين السلحفاة والإخطبوط ، كائن متفرد بتلك الخصال التي يملكها ، ملقى على ظهره في الغرفة التي تموت فيها الظلال ، بين رفوف الكتب التي تغطي الجدران من حوله وهو لايني يحرك أطرافه العديدة دون أن يستطيع الوقوف لمقابلتنا ، غير أن ظل ابتسامة ارتسمت على شفتيه حين ألقى عليه "العجام" التحية وجلس قربه مقرفصا ، وكما لو يخاطب إنسانا سويا راح العجام يعتذر عن عدم مجيئه في الوقت المناسب ويشرح له الظروف التي دعته إلى التأخير بالوصول لحظة المرض الذي أصاب طريح الفراش ، أما أنا ورفيقي آدم فقد عصبتنا الدهشة وعقدت لساننا مما جعل العجام يخفي ابتسامته وهو ينظر إلى الدرع المحرشف الذي يعيق زميلنا عن إبداء أي حركة ، وباعتباري نافد الصبر أمام كل ما يتعلق بانحراف الكائن فقد حاولت بعجالة أن أعيد الأمور إلى نصابها ، خاصة وأنا أرى أمامي عجز هذا الكائن المسكين المغلوب على أمره وهو يحاول جاهدا الاستدارة إلى جنبه الآخر أو الوقوف على أطرافه المتخبطة ، نهضت بغتة نحو مكنسة طويلة من النوع الذي يستخدم في المصحات وبمقطعها العرضي الذي دفعته تحت الدرع المحرشف حاولت أن أقلبه نحو جهتنا التي كان يناضل في سبيل الوصول إليها ، كان يتأتىْ ووجهه نحو الجدار، ولكن عبثا ما كنت أقوم به ، حتى إني أعدت الكرة عشرات المرات ولكنه سرعان ما كان ينزلق بحراشفه الدبقة ليعود إلى ما كان عليه من وضعه المزري السابق كاشفا عن عورته التي لاتني تطلق رائحة غريبة هي أقرب إلى رائحة الكافور المستخدم لغسل الموتى ، حتى فوجئت بكف قوية تقبض على عصى المكنسة وصوت العجام ينطلق زاجرا ..
- ( عليك أن تخجل .. ألا ترى إننا في بيته .. )
أعدت المكنسة إلى موضعها خلف الباب ونظرت بحيرة نحو آدم الذي تلفه الحيرة مثلي غير انه لم يتفوه بحرف ، إنما غمزني بحاجبيه وبرطم بشفتيه وكأني حدسته يقول ..
- ( غدا الأمر خطيرا وعلينا بالهرب وإلا ستنتقل لنا عدوى رفيقنا العجام ونرى الأشياء كما يراها الآن ) ..
- ( مهلا .. دعنا نرى ما ستؤول إليه الأمور ، لاتعجل ..)..
قلت ذلك ورحت أنصت للكلمات والطلاسم الغريبة المتقطعة التي تصدر منه وهو ملقى على ظهره ، فيما زوجته التي كانت تقف متصالبة عند باب الغرفة لا تكف عن نقل نظراتها الغريبة بيننا ، حتى إذا تحركت أخيرا واضعة كفيها على بعض همست بندم لحظة استقرت نظراتها على الجسد العليل:
- ( عرفته قبل أربعين سنة .. كان شابا طموحا يعمل في المسرح ، وكان يردد دوما انه " كومبارس " لا أعرف ما تعني هذه الكلمة وكنت أهبه النقود كلما كان يصرخ ويقول انه سيغدو كومبارسا ، كنت فرحة لفرحه وهو يعود محملا برزم الكتب كل يوم ، ولكن منذ تلك الحادثة تحول إلى رجل آخر ..) .
أطرقت لحظات وعدلت من وشاحها الرمادي وأضافت :
- ( قبل انقضاء اليوم السابع من زفافنا وحين طرق أبوه علينا باب الغرفة وأخبره أن يخرج فجرا مع جدته العمياء إلى محطة القطار ، ومنذ ذلك اليوم غدا غريب الأطوار . ) .

* * * * * * * * * *
(( ما حدث في المحطة ))

فجر يوم بارد ، لم تكن العصافير غادرت أعشاشها بعد ، السماء رائقة كانت ، نقية الزرقة وعالية إلا من بضع غيمات هابطة ، متدلية ، متبقية من ليلة أمس بعد هطول المطر طوال تلك الليلة الفائتة ، أما الدروب الموحلة التي كان يتصاعد منها البخار فكانت خالية إلا من بضعة جرذان تنتقل مسرعة بين أكوام المزابل أو تلتصق تحت جدران بيوت الشناشيل ، تبحلق بوجوه القطط الخاملة وهي تعبر الأزقة بحثا عن طعام . كان مهموما وهو يقتادها من يدها العجفاء ويهمس بكلمات أبيه التي تركها في أذنه :
- ( خذها .. لاأريد أن يعرف مكانها أحد .. لاأريد دليلها إلا الشيطان .. أجلسها بيدك على الكرسي .. قطار الثامنة والنصف .. لاتنسى .. القطار الأول الذاهب إلى بغداد .. ) .
- ( أجلسي هنا .. لاتتكلمي كثيرا .. امسكي هذه الصرة ففيها بعض الطعام .. لا تتحركي حتى أعود..).
كذلك همس الابن في أذن جدته وعوى القطار في اللحظة التي انزلق منه حفيدها ( مروان الأعسم ) وعاد أدراجه .. لم يلتفت ولم يتناهى لسمعه إلا عواء بعيد .. عواء كائن جريح ينفث دخان آهاته المتلاشية في سماء باردة .. عاد منتصرا وقد حقق رغبة أبيه .. انه يعود الآن إلى عش الزوجية وكان ما يزال يهمس :
- ( لا.. لاأريد دليلها إلا الشيطان .. أتركها وحدها .. القطار الذاهب بعيدا حيث تضيع هناك .. لن يعرفها أحد وهي لن ترى أو تعرف أحدا .. بغداد كبيرة .. لاتتكلمي مع أحد .. خذها .. لاأريدها أن تعرف .. أمسكي هذه .. قطار الثامنة والـ ... القطار الذاهب إلى .. إلى القطار .. القطار .... ) .
راح ذهنه يستغرق في هذيان محموم طوال طريق العودة إلى البيت ، عيونه متورمة ، زائغة ، حذاؤه يلغ في الوحل وعلى بنطاله الرمادي تنبت زهرات من الوحل غير انه لم ينتبه أو يلتفت إلى مايلوثه ، و لم ير لحظتها حبات الندى كيف كانت تنزلق برقة على الرصيف وتندي جبينه الأسمر العريض ، ولارفع عينيه باتجاه السماء التي كانت تزداد زرقة ونقاء ، وكيف كانت النسيمات العليلة تطرد ما تبقى من غيمات هشة نحو تخوم المدينة وهي تتسلل إلى رئتيه ، ولم ينتبه إلى المودعين يدرجون في مسافات قريبة منه وأجسادهم تكاد تلامس معطفه الرمادي . إلا أن نظراته الساهمة كانت تصطدم بالبضائع الضخمة الجاثمة بين هياكل العربات التي أكلها الصدأ ، والظلال الرمادية القاتمة وكيف تتكسر نهاياتها بين جدران زوايا محطة المعقل . كان فكره مشوشا حد نسيانه أن يتناول وجبة الفطور ، وهو يشعر بمرارة في حلقه إثر تدخينه علبة كاملة من السجائر الرخيصة ، ويبصق على جانبي الطريق كلما شعر بغصة تكاد تخنقه ، حتى خيل إليه انه يراها وحيدة ، هائمة في طرقات العاصمة ، إلا أن صوتها انبثق في ذاكرته وهي التي احتضنته في طفولته وصباه ، انه يعرف ذلك الصوت أكثر مما يعرف خطوط يديه ... مروووووان .. كان الصوت يتبعه .. يناديه ضعيفا .. متقطعا بحشرجة الشيخوخة .. وهمس في نفسه :
- (انتهى كل شيء وما هذا الصوت إلا رجع صدى بعيد .).

وتسابقت خطواته في العدو ، والصوت الخفي وراءه يزيدها اضطرابا ، حتى إذا عبر بناية المحطة أطلق ساقيه للريح وانتهى عند البيت ، شاحب الوجه ترتسم على محياه سيماء رجل معتوه وهو يقابل زوجته التي راحت تصفق بيديها فيما دموع سوداء تسقط غزيرة من مقلتيها وتعبر حافتي فمها القرمزي الدقيق ، بينما صعد هو وبخطوات مضطربة ولكنها متوثبة سريعة كقفزات قط بري ليزف الخبر إلى أبيه ويدفن بعد ذلك رأسه في وسادة العرس المخملية ، تلك الوسادة التي امتصت دموعه عبر السنوات حتى استحال لونها من الوردي إلى رمادي فاقع . منذ ذلك اليوم وتلكم الحادثة المريعة التي ما يزال يتذكر تفاصيلها الدقيقة كل لحظة حتى بعد أن توفي أبوه وغدا هو عجوزا لا يستطيع الحركة ، واحتجابه عن الجميع والتحول الغريب الذي طرأ عليه أخيرا أصبح لا يطيق النظر في المرآة ، ولا يتكلم بشيء غير اجتراره تفاصيل تلك الحادثة .. حادثة محطة القطار التي أفضت به إلى ماهو عليه وغدت رجع صدى يتردد منذ أربعين عاما وأكثر .

* * * * * * * * * *
(( اعترافات متأخرة لأحدهم ))

في الغرفة الضيقة تتلاشى الظلال ولا يطغي عليها إلا لون رمادي كالح ، ولا منفذ إلى الخارج غير فرجتين صغيرتين واحدة كشق في النافذة الصغيرة والأخرى تحت الباب المغلق الذي ركنت عليه مكنسة طويلة بقبضة بلاستيكية ، والصمت يهيمن على الجميع إلا أن العجام وباعتباره ناقدا حريفا في مجاله حاول أن يكسر تلك الرتابة والمرارة المستشرية في نفوس الجميع أمام رؤية زميلهم مروان الأعسم وهو طريح الفراش لأعوام طوال ، وبجرأة يحسد عليها قال موجها كلامه إلى الجميع :
- ( "لابد أن تنقضي الحياة ولكن كيف ؟ انه الفن .. ذلك الطريق الملتوي لقضاء الأيام المتتابعة بقسرية مهووسة وفصامية مزمنة " فدعونا من كل شيء ولنعد إلى المدرسة الشيئية وآلان روب غرييه . ) .
وحين لم يرد عليه إلا الصمت راح يسهب في الحديث عن الكاتب الفرنسي ومدرسته قائلا
- ( أعتقد أن الشيئية غدت معطفا مهلهلا وعفا عليها الزمن مادامت تتناسى واقع الفرد المعيش ، فهي أقرب إلى ديكورات العصر الحديث الخالية من الروح وهي إحدى نتاجات الغرب وتمزق العلاقات الإنسانية التي أنتجتها تلك الحضارة ، وأرى إننا أبعد الناس عن تمثلها لأن واقع الشرق الراهن يضج بملابسات وتعقيدات قل نظيرها ومن الخطل التماهي مع تلك المدارس ومحاولة تقليدها فروايات مثل ( جن ) و ( غيرة ) تعد محض إطناب لغوي لا أكثر ، ودوار في المكان والنفس الممزقة وهي بالنتيجة نتاج حضارة متورمة بكل علاقاتها الفردية والمؤسساتية ) .
- ( ولكن _ تكلم آدم بعد طول انتظار _ ألا ترى أن وجهات النظر فيما يتعلق بالأدب تتوحد عالميا وأن التمزق الذي يمر به الغربي يطأ الفرد الشرقي بكل صور الرعب والاغتراب وما معاناتنا في هذه اللحظة إلا مصادرة لحقوق الفرد ، كما لازال الشرقي يخضع لتابوات قد تحرر منها العالم ، فأنت ترى بعيون الشرق الذي لا يستطيع أن يرى أبعد من أنفه فيما المدرسة الشيئية وعلى رأسها آلان رووب غرييه ، ترى وتنظر إلى الظلال التي خلفتها الاستلابات في العصر الحديث كما نعاني الاستلاب الآن في أبشع صوره . ألا ترى معي أن هناك فهما قاصرا للتعاطي مع الواقع ومن إننا لازلنا ننظر للكتابة الأدبية كما ننظر لحكايات ألف ليلة وليلة ، فمادامت الكتابة الأدبية عبرت أشواطا هائلة فيتوجب علينا أن ننظر بعيون مركبة وأن نقرأ مابين السطور ، وإلا كيف كان ينظر العالم الاشتراكي لكتابات فرانتز كافكا ، وكيف أن أمة عظيمة تقّيم باسترناك أو سولنجستين التي اختلفت إليهما النظرة الآن .. أليس هناك علة في فهمنا القاصر والآني لأديب ما ظهر في مرحلة ما . وان حقبة تاريخية تطبل لسفا سف ما تلبث أن تذوي إن سلط عليها الضوء ، ومن إننا مازلنا أسيرين لسطوة الانجرار نحو الكتابة المباشرة كما مازالت المهيمنات السلفية التي لانستطيع منها خلاصا تأخذ بركابنا ، فنحن ملتصقون بالطين وبذاك الإرث الذي يشكل لنا فزاعات متجددة بمجرد أن حاول أحدنا تخطيه. ) ..
- ( أعتقد إذا سمحت _ قال الحمراني مشيرا بيده إلى العجام الذي كان متأهبا للرد _ أعتقد أن كلاكما على صواب غير أن واقعنا الراهن يتحرك _ وجوديا _ بين هذا وذاك فمصادرة الفرد لدينا لما تزل على قدم وساق وهروبنا نحو غرييه وغيره هو هروب نحو الترميز لأننا لانستطيع أن نقول بوضوح وصراحة وان أي مثقف وكاتب عندنا لازال يدور ويناور في مكانه ، حتى لتقرأ الطلاسم المبثوثة في نصه أكثر من أن تسمع له نأمة تجشئ رافضة ، غير أن الغرب عبر المسافة _ و برمشة عين _ تعاطى مع واقعه المحيط بجرأة ليست لها نظير وماعلينا إلا التعاطي مع الواقع بتلك الجرأة التي تعامل بها "آلان رووب غرييه" وأقرانه المجددين لأنهم خلصوا إلى نتيجة مجتمعهم وتسلحوا بعدته المعرفية دون خوف ،أما نحن وعلى حد تعبير آدم لازلنا تحت رحمة ألف ليلة وليلة ، و لننظر للحالة تلك من أن الكتابات الأدبية استنفدت طاقاتها لديهم "وعبرت أرواحهم حدود الممكن " على حد تعبير كامو غير إنا مازلنا نراوح في معاناتنا والتي أولها منع أي خيار لدينا بالرغم من ذواتنا المثقفة الفاعلة . فالرعاع يسوقونا إلى حتوف نجهلها والحالة مازالت غائمة بالرغم من سعينا الحثيث لمحاولة فهم مايحدث ، فالهوة واسعة بين التصدي للشكل الأدبي الذي طرحته الشيئية والمضمون الذي مازال يؤرقنا ، فالمضمون لدينا جملة احترابات بين قبائل وممنوعات واقصاءات وثوابت ليس في استطاعة أحد تخطي خطوطها الحمر فيما الشكل لديهم هو تخطي _ ضمنا _ لكل تلك الثوابت والمضامين التي نحن دائمو الدوران عليها ..أعتقد ..) ..
- ( أعتقد أن كل شيء ينطوي على خدعة _ رد العجام مقاطعا _ فكل مسألة تتبدى بخداع الناس وفرض سطوة عليهم ، خاصة فيما يتعلق بالرعاع هي جريمة كبرى خاصة إذا ما فهمنا التأويل الذي تطرق له آدم ، فبعض الكتاب يضطهدون خياراتنا لأنهم منساقون تحت مسميات خطرة أولها لغة غبار الكهوف التي يعرفونها جيدا وآخرها من يسكن في بيت العنكبوت ويتخذه مأوى له في عصر التحولات والتكنولوجيا فموت المؤلف لدى بارت مثلا ماهو إلا موتا رمزيا فهو قد تسرب إلى أحفاده وأنتم أعلم مني بذلك فالخطورة التي كانت تكمن بفرد واحد أفقست وأفرخت عن أجيال هجينة راحت تؤول الطروحات التي طرحها نقاد الغرب في حينها كما أن فهم النصوص بتلك الطريقة وقراءتها تقودنا إلى تعمية أخرى أشد تعقيدا من النصوص ذاتها وما الظلاميون إلا نتاج فكرة ووهم خادع ) .
- ( وما أنت إلا واحد من ضحايا تلك الفكرة العنكبوتية .. آه .. لولا الإهمال ، فقط لو أتيحت لي فرصة أخرى .. بضع سنوات ، لحققت في الرواية وفي النقد الشيء الكثير ، ولكنه الإهمال .. إهمال عالمنا الثالث هو الذي قتلني . ) .
قال الحمراني ذلك محولا دفة الحديث والبوح باتجاه المصائر الفردية والعلاقات الشخصية حتى إذا أطرق لحظات همس عجام بيأس :
- ( لقد قتلني التعصب ، وأبعدني عن كتبي التي أحب أما أنت يا مروان فيقال انك كنت تستخدم مكتبتك كفخ لأنصاف المعرفيين ، وكنت تجني من ورائها الكثير لتحقيق مآربك الشخصية وها أنت ترى كل شيء زائلا وقبض ريح فماذا تقول ..؟ ) ..
مروان - ( ............!!. ) ..
الحمراني - ( لو أتيحت لي فرصتك يا مروان فبالرغم من مشواري القصير لكنني تركت من يذكرني ولكنه الإهمال ..آه .. هو الذي لم يدعني أكمل مشواري ..) .
آدم - ( لاتندم حيث لاينفع الندم ، ان قتلك الإهمال ، فالصدفة العمياء هي التي منعتني عن إكمال مشاريعي المؤجلة ، كان من الممكن أن أغير الاتجاه بعيدا عن الظلاميين ولكن ..آه .. " مسكين هو البلد الذي يحتاج إلى شهداء " على حد تعبير غاليلو ، ولكنني أقول لك يارفيقي وعلى لسان غاليلو أيضا " إنها ستظل تدور " تدور كما يدور حجر الرحى ، ولن تتوقف إلا في حدود عقول البعض ، من الذين يضعون للأمور خواتيمها الساذجة ونهاياتها التي يرون فيها نهايتهم ..) .
مروان هامسا في ذات نفسه ( إنني أحسدكم على تلك النهايات ، النهايات اللامكتملة .. كان في خاطري أن أكتب عنكم أنتم الثلاثة ،، لولا وضعي الراهن ) ..
قال العجام وكأنه حدس بما كان يدور بخلد مروان الأعسم
( أنت نسيت فعل وجدوى الكلمة وقيمة الكتاب إلى الحد الذي جعلك لا تهب كتابا على صعيد الاستعارة وبدأت تخون أقرب الناس إليك وتضحك على الجميع دون استثناء ، وهاأنت تدفع ثمن فعلاتك الشنيعة ولن تلتحق بمملكتنا البيضاء ، بل ستظل ظلا من الظلال ، ولن تشبه إلا نفسك أينما حللت فاكتب عن نفسك فحسب ، انك أضعت نفسك وأسلمتها للشيطان منذ أن أضعت جدتك وخنت أصدقاءك .. أكتب عن الأعوام التي كنت تنام فيها قرير العين بعد أن نفذت وصية أبيك ..!!!).
مروان - ( ................) .
لم يتكلم مروان إنما لاذ بصمت مرير وكان جسده يتورم ولكنه راح يهمس نادما في ذات نفسه :
( ثلاثتكم وصلتم إلى بر الأمان ، أما أنا فقد مسخني الجشع ، ومازلت أرسف بقيود خطاياي وضعتي ، وأكاد أسقط كل يوم نحو غور عميق مظلم ، حيث لاشيء إلا المسوخ بانتظاري ولامسعى لروحي غير اللهاث وراء كل ماهو زائل وقبض ريح ، أما أنتم القابضون على جمرة المعرفة بشغف وقوة الأبطال الخالدين فقد حققتم ما عجزت عنه وتوجتم رؤوسكم بأكاليل نصر ستظل على مر الزمن ..لا تهزم ) .
كان يهمس بذلك كما لو يعيد حواراته عندما كان يمثل كومبارسا في مسرح مدينته ، ويطرق لحظات قصيرة أمام وجوم الجميع وكأنه يواجه جمهورا محتشدا على خشبة المسرح ، وكما اختلطت الحقيقة بالوهم لدى هاملت ، بدا يسمع صفيرا في أذنيه ، صفيرا حادا مصحوبا بصوت سفيف رمال وقهقهات عديدة ضاجة وساخرة ، أضحى يستشعر ثقل الندى الذي يلتصق بجبينه الأسمر ، ويسترجع ذاك اليوم قبل أربعين عاما أو يزيد فهو مازال يتذكر الصدأ الذي يأكل عربات القطار المتروكة ، وأعادت ذاكرته رؤية الجرذان وهي تلتصق بالجدران المتآكلة قرب زقاق بيت أبيه ، وتذكر على حين غرة كل ما مر عليه في تلك الساعة ، ولكنه لم يستطع لحظتها أن يمنع صرخة هائلة انطلقت دون إرادة منه ، صرخة كصرخة عطيل .. صرخة مدوية هزت جدران الغرفة فسقطت رفوف الكتب في اللحظة التي راح فيها جسده ينتفخ وتنمو له أذرع كثيرة ، استطالات أخطبوطية ، راحت تمتد وتنمو بسرعة مذهلة قبل أن يجد أحدهم فرصة للهرب وقد ملأ جسده كل محيط الغرفة ." حلت النهاية إذن " صرخ أحدهم فيما أطلقت زوجته صرخة حادة وانزلقت من تحت فرجة الباب الضيقة ، كان جسده يتضخم إلى الحد أن أطرافه الأخطبوطية اندفعت عبر الفتحة الضيقة للنافذة مهشمة زجاج الدرفة الوحيدة لتصل إلى الزقاق ثم إلى الشارع وربما وصلت مركز المدينة ، كانت من الاندفاع بحيث لم يصمد أمامها شيء ، ولكن سرعان ما دوى انفجار هائل ، وراحت ثلاثة أجساد تعوم في بركة من القيح والحبر ومئات من الصفحات وأغلفة الكتب تعوم على سطح البركة التي خلفها انفجار جسده وكان " كافكا " بعينيه الفأريتين وأذنيه النافرتين يرقب تفاصيل المشهد الأخير، وهو يطل عبر أحد أغلفة الكتب العائمة في الخضم حتى إذا مضت ثوان معدودة نظر الثلاثة إليه فشاهدوه ينكمش من جديد على فراشه العائم وسط الغرفة ، عاجزا ، نصف مشلول ، يلوك لبان الكلمات بتعثر واضح ويتأتىء :
- ( ما بال ... مابالللللكم تنظررررون نحووووي باسستغررراب ) .
- ( وكأنك لم تفعل أي شيء ، فيما أضعت نفسك إلى الأبد .
قال الثلاثة ذلك وقاموا بإلقاء الغطاء الموشى بزهور رمادية على نصف جثته مع بضعة دنانير دسوها تحت وسادته دون أن يعلم ، وخرجوا آسفين من فرجة ضيقة في النافذة ، وتسللوا كالظلال نحو عالمهم بعد أن طافوا بسرعة البرق على مدنهم الرمادية القديمة ، حتى إذا ما صحا الحمراني على صوت نزيل جديد راح يقص على رفاقه رؤيته الأخيرة التي شاركوه فيها وما دار في العالم الرمادي ، وكيف نجا هو ورفيقاه بأعجوبة ، غير أن العجام وآدم كانت لهما رؤيا مختلفة فراحا يتهامسان عما سيفعلانه يوم غد مع نزيلهم الجديد ويتحاوران من وراء أكاليلهم البيض ، يحلمون بعالم أكثر بياضا ، وعلى شفة كل واحد منهم يبرعم سؤال واحد أحد :
( ترى .. ما الذي يحدث لو تواصل الاثنان .. المجيء والغياب .. الموت والحياة .. مملكة البياض ومملكة الرماد ) ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما