الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حلم يقظة

ناصرقوطي

2010 / 12 / 26
الادب والفن



للمرة الأولى أكشف ذلك دون أن تضعف عزيمتي ، وبصفاء ذهن حاد علمت بما سيفعلونه ازائي ، وعليه ، يجب القيام بأي شيء في سبيل تجنب شرورهم التي قد تصيبني وأنا في غفلة منهم . فيما مضى كنت سادرا في أحلامي ، ساهما عنهم ، رغم معرفتي الأكيدة بما يضمرونه لي من حسد وكراهية . ابتدأ التوجس في ذروة صحوتي لحظة انبثاق الإصبع الثالثة ، إصبعا نحيفة امتدت فوق أنفي وراحت تهتز كبندول مضطرب يؤكد لي بطريقة أو أخرى عجزي التام وانتفاء الملكات الأخرى التي يتمتع بها أي كائن آخر ، يخبرني أن الزمن بالنسبة لي قد غدا محض رنين ودوي في حال عدم أخذ مشورتهم وإحاطتهم علما بما تنجلي عنه الأمور ، وامتثالي التام لما يأمرون به أو يسطرونه على لوح وصاياهم . الإصبع تهتز مع نبرات وعيد تتكرر كشريط تسجيل منسوخ يعيد لازمة وحيدة مملة ( عليك أن تتخلى عن ادعاءاتك وإلا ستكون العواقب وخيمة ). الكلمات تتصادى بتكرار ممض فيما غيمة من دخان تسربت من مكان ما وانزلقت على جبيني . صعدت أمام ناظريّ ، تكاثفت واربدت على السقف حين سمرت عيوني على نقطة ضائعة فيه بحثا عن متنفس للضوء يبهرها ويزيل عنها غشاوة هذا الشحوب الذي يهيمن على جثتي . منقطعا عن العالم بين هذا الاصفرار الذي ترشحه الجدران من حولي ، حتى نسيت عدد الأيام التي مرت على مكوثي معهم وكم سرب من عقارب الوقت د ب على رقبتي وياقة شيخوختي المنشّاة بهباب كهوفهم ، ولا الطريقة الغامضة التي داهنوني بها والسرعة الفائقة التي بنو فيها الجدران من حولي ومضوا مقهقهين . رغم ذلك ورغم الحيطة التي تحصنوا وراء متاريسها ، فأن صراخهم واختلافهم في الوصول إلى اقصر الطرق وأكثرها دهاءً وتمويهاً للخلاص مني كانت تتسرب إلى مسامعي ، تصلني من وراء الجدار ..!.. الجدار الصلب الذي راح يشحب ويستحيل أمام نفاذ بصيرتي وحدّة طباعي إلى شريحة شفافة من الهلام ، حتى أتاح لي ـ في نهاية المطاف ـ رؤية هياكلهم المضحكة ، متندرين على الطريقة المُثلى التي قاموا بها في الخلاص مني ومن جثتي التي يحرسونها الآن بعد ان كشفت لهم ـ بنواياي الطيبة ـ بعض خططي التي قد تركنهم في زاوية الإهمال والنسيان . لقد اكتشفوا أنني أتخطاهم في مضمار عملنا الجمعي الذي يتطلب بعض المثابرة والطموح ، وكنت قد حذرتهم مراراً في سالف الوقت وكشفت لهم بعض سوءاتهم وغرورهم في معرفة ماينضوي عليه عملنا ، وتنصلهم عن طبائع الثعالب التي يجيدون الاختباء وراء فرائها ، ونزوعهم الأخير الذي دعاهم لدس السم في كأسي ونحن نحتسي إكسيرنا المفضل عند انتهاء العمل في نسخ مخطوطات الأولين . وفي نهاية الأمر بدأ العقار يفعل فعله في كل مفاصل ذاكرتي ، التي راحت تشحب ويدب الخدر في كل زاوية من خلاياها . حتى إذا تيقنوا من غيبوبتي التامة حملوني ثلاثتهم ، وكان آخر ما رأت عيني إصبع أحدهم تهتز وتنذر بالوعيد . وهكذا غدوت خلف الجدار الذي احتضنتني حجارته الصفراء بسمومها وهي تمر عبر أوردتي ، وقد دفعت الأدمة بانتفاخات أشبه بقوارير صيد محكمة الإغلاق على ضفادع تتقافز ، بحال لايسمح فيها مجال للحركة أو التنفس ، معزولا كما لو في تابوت حجري . ولكن الطريقة المداهنة وصراعي الخفي مع ذرات الغبار هما اللذان دفعاني على اجتراح عوالم أخرى أكثر نقاء من فساد هواء الكفن الذي كنت أرتكن إليه ، مما جعلني أتنشق الغبار العائم من الأثير الثقيل وأحوله إلى نسمات نقية ، أمررها عبر الطبقات المتراصة من الهواء الراكد والكلمات الكريهة التي كانت تفح وتقذف أمام وجهي . وما أكبر الدهشة التي عقدت لساني حين تحسست أناملي ثقل الكفن فوقي ، لقد كان عبارة عن قصاصات من صحف يومية وأغلفة كتب قديمة اصفرت وحالت ألوانها وقضم جرذ الأيام حافاتها وكلماتها مالم يسع لك أن تقرأ ماتبقى منها أو تحبو على ساحتها التي لاكتها الأفواه وملت الألسن اجترارها . كانت مجرد خرابيش سحرة ، سفسطات وطلاسم ، ولأنها كانت تضغط بثقلها على بصري وتمنع عني رؤية كل ماحولي ، حركت كفي حركة خاطفة وأزلت كل ذلك الهراء . نهضت مستثارا من الغبار الذي كان يعصب عيوني ، واضعا أولى خطواتي الحذرة ـ شديدة التنبه ـ عبر الجدار وبالتحديد على أرضهم التي سحرتني يوم كانوا يحاورون بعضهم بشفاه متدلية وألسنة مدربة لاتمل الهذر والهذيان في أشد حالاتهم صحوا . الغريب في الأمر حين عزمت على القصاص منهم ألفيت نضراتهم أكثر خمولا وركودا من مستنقع للسلاحف . درت المكان ثانية ، عاينت أطرافهم السفلية وقد علاها فطر غريب واشتبكت عليها الأعشاب الميتة بعد أن تسلقت أرجل المقاعد والطاولات المستديرة . مرت خطواتي الثقيلة بينهم وكان نصلي يلتمع بانتظار الطعنات الأولى التي سأوجهها لهم ، في البدء كانت الوجوه مشوهة مخيفة مما جعل الصدمة تعقد لساني الذي راح يلثغ حروف أسمائهم على جباه أقنعة كثيرة كانت تتساقط في كل مكان ، حاولت أن أصرخ ، لوّحت بكفي أن انهضوا لكنهم كانوا كأنما اتفقوا على أن لايعيروني انتباها ، رغم صحوة موتهم المؤقتة أو حتى يروني باغماضة عيونهم . صرخت ، بكيت ، أمطرت سماواتهم رعداً بضجيجي عسى أن أوقظ صحوتهم ، طيبتهم التي تراكم عليها صدأ الأيام وكأن الضجة التي أحدثتها أمامهم هزت الأثير الثقيل المتضوع بروائح إكسيرهم الذي كانوا يتعاطونه كل يوم ، وأزالت العماء المطبق الذي ورثته إبان مكوثي معهم . اقتربت منهم ، حاذيتهم أكثر . كانت عصافير دوارة تحط على شفاههم ..!.. ياإلهي إنهم يبدون طيبين في إغفاءتهم تلك ، فكيف جرؤوا على قتلي ..!.. تساءلت ، درت في المكان ، ابتعدت لأزيل تشويشا مر في خاطري . تقدمت ثانية وبيدي نصلي الحاد ، كنت مزمعا على الطعن ولكن أي مجرات من الأحلام المحبطة كنت أراها تهبط على سيماهم ، أي سواحل من الطيبة والبلاهة . تقدمت ، رفعت كفي عاليا ، وفي السكون الحذر هوت الكف و... مرت أناملي تمسح جباههم الباردة وتزيل بقايا العرق المتفصد منها ، لقد أنشبت الحمى أظفارها بأجسادهم المتهالكة على المقاعد . الأقنعة تذوب على الطاولات ، الأجساد كما تماثيل شمع ، رؤوسهم تتضاءل ، تذوي تحت ثقل بصيرتي التي يستثيرها الضوء وقد تركت حيرتها تعقد لساني على أسئلة كثيرة . علامات استفهام تتعلق ، تنغرز في سقف الحلق كالصنارات .. أولها .. بأي طريقة مخاتلة سأدفعهم لرؤية أعماقهم التي تصطخب وتمور بالدناءات .. !!.. أجبت نفسي وأنا أشعر بالخيبة ، لربما هي المواجهة الأكثر رعبا على رؤية ذواتهم تتهشم أمام مرآة الآخر . وعند هذه النقطة كان البندول قد توقف من التأرجح فيما ازداد الرنين في الرأس ، فعرفت كيف أفيق من صحوتي تلك على صحوة أكثر إيغالا في الألم من رؤية الآخرين وهم يتعفنون في باحة المكان رغم السماء التي كانت تمطر شموساً كثيرة ...... كبيرة وساطعة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با