الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليل الأبد

ناصرقوطي

2010 / 12 / 28
الادب والفن


قصة قصيرة ناصرقوطي

ليل الأبد
(( لم نكن نحن الذيـن ينبغي أن يتحملوا الإثـم..إنما نستطيع أن نسرع بصمتٍ بريء نحو الموت في عالم ٍ جعله الآخرون مظلما ))
كافكا



(( ظلمات الأمكنة))

ـ السقف ينهار ..
ـ هذا عائد إليهم وحدهم ..
ـ أنهم يفتعلون ذلك ، أليس كذلك ..!
ـ المسألة أعقد مما تتخيلي ..
ـ هل نبقى في الظلام ..؟
ـ سيتضح كل شيء قريبا ..
ـ لكن متى ..
ـ لاأعرف ..
ـ من يعرف إذن ..؟
ـ .............!
كانا يقفان حذاء جدار عال ينصتان تحت سقف القاعة .
ـ هل قطع التيار الكهربائي ليبدأ احتفائهم ..!
ـ ............!
ـ أين أنت إني لاأراك ِ ..
امتدت أذرعهم تتشابك في الفراغ .
ـ هيا نخرج .. تمسكي جيدا ..
بصعوبة بالغة يلتمسون طريقهم من بين الأجساد المحتشدة في العتمة المهيمنة . ثلاثة أشباح تنسحب خلفهم ، يندفعان إلى الشارع ، يدهشهم الضوء الضئيل المتسرب من قمر آب الذي مابرح يتضاءل وسط السماء البعيدة . كان الظلام يشتد بعد أن صرّح أحد المحتفين معتذرا عن عدم إكمال العرض لعدم صلاحية مولدات الطاقة .
ـ ظلام غريب .. هل خسف القمر / سألت هي
ـ لقد اعتدنا كل شيء .. / أجاب هو
ـ انظري هناك ..
ـ ماذا ..!
ـ هناك ألاترين ..
ـ أرى ماذا ..
ـ الضوء هناك ..
ـ حقا ... ولكن ..
ـ لكن ماذا ..
ـ يبدو بعيدا و ....
ثم مكان يضيء في البعيد ، يحترق بالضوء ، يتوهج بياضا كالفضة ، ضوء باهر يتفتح في السماء . كرات ضخمة من اللازورد تنقذف في الفراغ ، تنفلق وتحيلها بياضا فتلوح أشباح النخيل المتراصة في الظلام ، كائنات خرافية بهياكلها الجاثمة هناك .
ـ هل أحرقوا النخيل ..؟
ـ ...........!
ـ ربما تحول العرض هناك ..
ـ ربما احتفاء آخر .. دعينا نسمع ..
كانت الأصوات والصرخات تنطلق عاليا عبر مكبرات الصوت ، الطبول تقرع صاخبة والظلمة تشتد ، أعمدة النيون تتراقص في عماء مطبق ، تنود كالأشباح وقد تدلت أسلاكها صافرة عبر الشوارع إثر الريح والظلام وهما يطبقان فكيهما على كل شارع وبيت .


(( ظلمات الروح ))

كانا يسيران بصعوبة حين تدفعهم الريح الى الوراء ، الريح والظلمة لاشيء آخر ، تصدمهم ركام النفايات من الأغذية الفاسدة ، علب الصفيح الفارغة التي ألقاها الباعة المتجولون على قارعة الطريق ، يتحسسون دربهم في الظلام في دروب خالية وموحشة ، شارع ضيق يرميهم بأحضان شارع آخر ، حارة مهملة تحملهم كقطط عمياء لزقاق متروك وآسن وكلما اقتربا من مصدر الضوء كان الضجيج يتعالى والروائح تشتد نفاذا . كان كل واحد منهم يحاور نفسه خوف أن يفقد ثباته بين زحمة الأجساد وصراخ الهتافات ، حتى إذا وصلا ران صمت مطبق وخف الضجيج بينما راح البعض يسخر هامسا مشيرا الى رجل في نحو الستين ، يتململ بين حاشيته كان كمن يريد أن يقول شيء ولكنه في حيرة من أمره ، ماذا يقول وعن أي شي يتكلم فاستطاعا بصعوبة بالغة أن يسمعا ماكان يدور بين رجلين من الحشد ، تناهى الصوت مختنقا ..
ـ ماذا يحدث ..!
ـ انها ذكرى زيجته الثالثة ../ أجاب الصوت الآخر
ـ أيعقل هذا ..
ـ انه الرجل الوحيد هنا ألا تعرف ..
ـ أعرف ذلك .. أعرف ..
قال ذلك ثم ران الصمت وتحولت عيونهم نحو الرجل المحتفى به وهو لايني يقطب حاجبيه بين رنين الدفوف بينما خيط من الدخان موه ملامح وجهه المستفزة . أبخرة كثيفة انبثقت من كل مكان وراحت تتضوع في الفضاء الرحب ، وهو لايني براقب بعينيه ألاعيب النيران من الكرات الملتهبة التي يتقاذفها الصبيان بين فوضى المهرجين ، الذين بحت أصواتهم من كثرة ماهللو وهم يتقافزون بكروشهم المتدلية . كان الرجل يحرك أطرافه الضخمة بين انفلاق الهتاف والصراخ ، في البدء غمغم بطلاسم وتعويذات لم يفقه معناها ، ثم رفع كفه مشيرا أن ينصت الجميع وأشهر سيفا لامعا أرقصه في الهواء لحظات مترنحا بجثته الضخمة ، منحرفا الى أقصى اليمين ، طاعنا بذوءابات السيف آخر النسمات العابرة من الشمال ، هه .. هه .. هه .. انطلقت كركراته بين الهتاف الذي غطى على آخر الصرخات وآخر ضحكة قذفها متحاملا على ذلك البصيص الضئيل من ضوء القمر ، ـ هه .. قذفها منتشيا عبر سحابات الدخان المتكاثفة بين فوضى الجموع ، وهكذا بتنا نرى ظلا قاتما يمتد ، غامرا المساحات المضيئة ، يستطيل ويعرض في الجانبين حتى يعبر الغبار الثقيل ويغمر شجيرات الكستناء التي تبرعم حبيبات السخام العالقة في الأغصان الجافة ، وجثث الحملان المشيطة بين ظلال الأشجار . كان كل شيء يغرق في عتمة كالحة ...... قالت :
ـ هل شهدت ذلك ..؟
ـ حتى النخاع .. ! ../ قال وهو يحول بصره نحوه مزدهيا بلباس عرسه الأخير يلقي بنظراته الكليلة على الحديقة ثم يجتاز الرواق الطويل ، بينما كانت أوراق شجرة الكستناء قد فقدت بهجتها واستحالت أشباح صغيرة واجمة . ودون أن يطرف له جفن أشار إلى ثلة من الفتيان بألبستهم المزنرة بالنحاس أن يتبعوه وهو يتأمل الضوء المتراقص لألسنة اللهب الداخنة ، متكئ للحظة خاطفة على حافة السور النحاسي الصدئ مطمئنا ذاته من أنه لن يكون غريبا ومهملا رغم كل هذه الظلمات التي تغرق فيها المدينة ، وبذهابه الخرافي كانت الحشود قد تفككت وانفض الشمل بينما صدى قرع الطبول يتناهى من بعد بترجيعات رتيبة ومملة ، ويسقط كل شيء في الظلام .

(( ظلمات الطفولة ))

على إيقاع الطبول ذاتها وطأت أقدامهم شوارع المدينة ، تماوج ضوء الشمس ، تململ ثم تلاشى وراء أكمة من الأشجار البعيدة ، وتسللت حمرة البنفسج من العذوق تاركة تويجات قانية . أقدامهم المفلطحة أثارت الغبار ، جيوش من الغبار راحت تعصف بالفراغ ، تسف بين الأسلاك المتراخية المترامية بين الأعمدة ، تتوالد لتفقس أشنة كالحة ، تدب وتهيمن على ساحات المدينة والجيوب الضيقة منها والمنحدرات المتربة المفضية إلى مراتع الطفولة ، وقد بهرتنا لحظتها تلك الالتماعات المتشظية من بريق نصول الحراب الحادة اللاهثة وغمرتنا نشوة عارمة ، حركة العجلات وهمهمة صريرها فوق الحصى والإسفلت بين ذرات الغبار ، متناسين لحظتها شغف الطواف في الجادات المتربة والسعي وراء أجنحة الفراش ومكامن العصافير حتى طائراتنا الورقية التي ماعادت تخفق ثانية فوق السطوح الواطئة التي أثقلوها باللافتات ، لافتات نعي وانتصارات كاذبة ، حتى ضاق فضاء الشرفات بها وهي تتأرجح بين الأشرطة المتدلية كالأفاعي ، بين أسلاك مكبرات الصوت والمصابيح الضخمة المتأرجحة والمتشنجة بالضوء الساطع ، وألعاب النيران المنفلقة في كل مكان ، حتى اختفت زرقة سماء طفولتنا وتلاشت في العتمة والدخان .
ـ ألا تمانعين من السفر ..!.. / سألها للمرة الثانية ، أطرقت لحظات ، حركت عنقها الأهيف وقالت ..
ـ ان كنت تقدر فخلص نفسك ..
ـ لم يكن هذا رأيك من قبل ..!..
ـ لقد تغيرت أمور كثيرة ..
ـ أعرف أن لامكان أكثر أمنا من موطئ قدمينا ، لكنهم يبثون الظلام في كل مكان ..
ـ أعرف ذلك ، أعرف ، اذهب وحدك إذن ..
ـ أراك لاحقا ..


(( ظلمات الجسد ))

انه يذكر فحسب ، دوران عباد الشمس ، انحناء الأغصان الغضة ، إغفاء اليقطين وبداية ذلك الليل الطويل . حين انفض المحتفون وتلاشى ضجيج همساتهم بين أعمدة النور وذرات الغبار التي تكتنف المصابيح ، جر جسده النحيل في العتمة ، كان كل شيء يترجرج أمامه ، يتموه في انطباقات مكرورة من الجدران وهنالك إطار نافذة ينفرج ، يتسع لهوام البراري .. لثلاثة خفافيش مترهلة .. أمصال الدم تنز عبر نواجذهم وأنيابهم ، ثلاثة أشداق ترشح صديدا ينساب بأذنيه .. صاح الأول ..
ـ الباب يسع جملا بسنامين .. / أثار الآخر زوبعة من رذاذ أصفر حين أطلق صوتا لزجا ..
ـ هذا المكان ليس بحاجة لأمثالك .. / سرب من ديدان بمجسات لزجة ، يسفي تحت الأضلع . حرك الثالث بطنه المتكورة حين صاح بملء شدقه ..
ـ هل تضنونها فوضى ..!.. / سرب آخر يقضم دون هوادة مابين الفخذين ، أسراب النمل تدب مع شروع النسغ الصاعد لذرى أوقيانوس القلب ...
ـ من تضن نفسك ..؟ / أنامل اليد تعزف لحنا طويلا فوق رمال الصحراء . الجسد أوركسترا هائلة ، المايسترو يبثون إيقاعاتهم المألوفة ، يوزعونها على مر العصور ، بدءا من أظفار القدم حتى المفرق ، الأصابع تنفرد ، تتلاشى ...! عبر المواسم تنبت لليرقات الأجنحة وتغدو فراشات ، كذلك الذباب .. النمل .. وللخفافيش أجنحة تطير بها ، تضيء دهاليزها المظلمة ، وهذه الجدران وان بلغت عنان السماء فهنالك فضاءات أخر ..
ـ لن تفارق هذه الظلمة ..
ـ سأصل عبر الدبيب المتواصل ..
ـ لن يبقى لك شيء ولن تحاور إلا السراب . .
ـ سأطول ماتبقى من نتوء الدقائق آخر هفوات القلب وصدى رفيف الأجنحة ..
العتمة تتسرب إلى خلايا الجسد .. آلام مبرحة .. تطيرات من آلام الجذور الممتدة حتى نفاد مياه نهر المجرة ..أين الجدران إذن ..؟ .. الأهلّة .. النجوم .. العصاغير .. الأجنحة .. كنت تحلق في فضاء مظلم ، تتعلق بالمقلوب ، يجب أن تعتاد الأمر .. ولكن لأي المنافي يهرب الجَلَد .. هل ثمة ضعف بمياه الكارون .. في كلس الجدران الضخمة للأهرامات الألف .. و.. يادجلة الخير ياأم القرابين .. ذات الشموع تنساب في مياهك ، شموع النذور البائسة تختلج في ثنايا جيدك الذهب ، سيلاطفها الموج طويلا ثم يرميها مثل قشة عابرة في نفاية شاطئ مهمل لتصبح نسيا منسيا ، مزق من فلين رخو بين غمرات الزبد الفائرة وذبالات محترقة كنا نراها في رحلة الأنهر وعذابات المدن . ومثلما الخفافيش تبث ظلمتها هنا ، فهنالك خفافيش في كل مكان تصوغ من مؤخراتها آخر لحن لآتي فيض المستنقع ..
ـ أين تولي وجهك ..؟
ـ أي دابة تقدر أن تعبر هذه الحدود ..
ـ المسألة ليست بالسهولة التي تتصورها ..
ـ اخفض صوتك ، انهم يقتربون ..
صوت المذياع يتسلل عبر ذاكرة المكان ، نافذة ضيقة مشرعة إلى العراء وما من أغنية غير نشرات الأخبار وإعلانات تتكرر بلازمات متنافرة .. ( الخوف فطرة بشرية لحفظ النوع .. تجارة رابحة في عظام الموتى .. ناقلات البترول .. الجوع في بلدان العالم الثالث .. الشيخوخة المبكرة والظلام .. طائرة تحلق دون طيار .. احتمالات الحياة على المريخ بعيدة ، لامنجاة فالهستريا أقرب ماتكون .. ) ..
ـ إذا أبطأت سأتخلى عنك ..
ـ ابتعد أنت ودعني معهم ..
الصوت المنبعث من المذياع يتحشرج ، يتخلخل ، يختلط . ثلاثة رجال بدناء يدورون في فلك المكان يسكتون البث ويسدلون الستار على ذلك النهار ، ليس بعيدا عن الكارون ، ذلك النهر الذي لايضمر العداء لأحد . .
ـ تكلم أنت تعرف وجهته ، لماذا لم تخبرنا ..؟
وماثم في نسغ الروح إلا بقايا ندية من أعنة أرخينا قيادها لتأتأة اللسان و ... لاشيء سوى الليل والظلمة والبوح الأخرس ..
ـ تكلم ..!
ف .. ت ..ك .. ل .. م ... ت ...............................








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا