الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آلام مسيحيي العراق في عيد الميلاد

جوزيف بشارة

2010 / 12 / 25
الارهاب, الحرب والسلام


يحتفل اليوم المسيحيون الذين يأخذون بالرزنامة الغربية بعيد ميلاد أمير السلام يسوع المسيح له المجد، ويدخل ضمن هؤلاء بضعة ملايين من مسيحيي البلدان التي تضم أغلبيات مسلمة منها لبنان والعراق والسودان وسوريا ومصر وباكستان إيران وأندونيسيا وماليزيا وغيرها. غيوم كثيفة لبدت سماء احتفالات المسيحيين الشرقيين بعيد الميلاد هذا العام، إذ أن مسيحيي لبنان يمرون بواحدة من أدق المراحل منذ انتهاء الحرب الأهلية فبل عقدين من الزمان، بينما يعاني مسيحيو العراق واحدة من أسوأ سنواتهم في ظل الضغوط التي يتعرضون لها لمغادرة بلدهم، في الوقت الذي يواجه فيه مسيحيو جنوب السودان بصبر تعنت حكومة الشمال الإسلامية قبيل أيام قليلة من الاستفتاء المصيري الذي سيحدد مستقبلهم كجزء من السودان أو كدولة مستقلة. هذا فضلاً عن المعاناة الدائمة للمسيحيين في مصر ونيجيريا وباكستان وأندونيسيا وماليزيا وإلى أخره من هذه البلدان.

لا توجد أقلية مسيحية في أي بلد ذي أغلبية مسلمة تحتفل بعيد اليوم بسلام وقلوب مبتهجة. نعم لا توجد لأنه لا توجد أقلية مسيحية تتمتع بحقوقها كاملة في إي من هذه البلدان. هذه حقيقة ثابتة لا جدال فيها. ولكن يأتي وضع مسيحيي العراق باعتباره الأكثر خطورة نظراً للتحديات الرهيبة التي يواجههونها. لم تكن السنة الحالية سنة عادية لمسيحيي العراق، وإنما كانت سنة عرفت بمجازر بشعة قام بها إرهابيون باسم الإسلام ورسوله وقرآنه وراح ضحيتها العشرات من الأبرياء العزل الذين ضمت قوائمهم أطفالاً وشيوخاًَ ونساءً. وكان أسوأ هذه المجازر ما شهدته كنيسة سيدة النجاة بالعاصمة العراقية بغداد في نهاية شهر اكتوبر الماضي عندما اقتحم مسلحون مسلمون ينتمو لتنظيم دولة العراق الإسلامية الكنيسة وأخذوا المتعبدين بها رهائن قبل أن يفجرو أنفسهم بعد نحو ثلاث ساعات قتلوا خلالها عدداً من الرهائن في عملية جبانة وخسيسة تضاف إلى المجلدات التي تدون التاريخ الأسود للإرهاب الإسلامي.

يرن في أذني كلما نقلت وكالات الأنباء أخباراً عن أوضاع المسيحيين في العراق وصف الفيلسوف المعروف سقراط للرجل الشجاع بأنه من لا يهرب من أعدائه وأنما يبقى لمواجهته. كان سقراط نفسه فيلسوفاً شجاعاً دافع عن مبادئه وأفكاره وفلسفته حتى الموت. وما وجود مسيحيين بالعراق اليوم رغم كل الحوادث الإرهابية التي تشن ضدهم بغرض التخلص منهم نهائياً إلا قمة الشجاعة التي تحدث عنها سقراط. فالمسيحيون الذين بقوا في العراق ولم يغادروها إما بسبب حبهم للعراق أو إغلاق نوافذ النجاة أمامهم أو بسبب عسر ذات اليد أو لأي سبب أخر يتحدون المصير الذي حتمه عليهم أعداء الحياة ومصاصوا الدماء وأتباع الباطل.

من السهل جداً الحديث عن الشجاعة، ولكن قليلين جداً هم من يقدرون أن يبقوا شجعاناً في وقت الشدة الحقيقية. ومسيحيو العراق هم من الشجعان القليلين القادرين على الصمود أمام وحشية الإرهاب الحقير. أليست شجاعة لا مثيل لها أن يبقى مسيحيو العراق متمسكين بمسيحهم بينما هم في مرمى رصاص الإرهابيين؟ أليست شجاعة لا مثيل لها أن يحتفظ مسيحيو بدينهم بينما يستهدفهم الإرهاب؟ أليست شجاعة لا مثيل لها أن يتمسك مسيحيو العراق بعقيدتهم في الوقت الذي يقدمون فيه أطفالهم وشبابهم ونسائهم وشيوخهم قرباناً على مذبح الإيمان. أقول مذبح الإيمان وليس مذبح الإرهاب لأن كل الشهداء من مسيحيين العراق ما هم إلا قرابين مقدسة تقدم دفاعاً عن الإيمان.

لم يرتكب مسيحيو العراق ذنباً حتى يدفعوا حياتهم وحياة ذويهم. الذنب يقع على عاتق البشرية التي تصمت على وحشية الإرهابيين ولا تزال تسمح لهم بممارسة أنشطتهم القبيحة. إنه ذنب المجتمع الدولي الذي لا مباديء له ويكيل بمكاييل. وإنه ذنب كل السياسيين الذين يغضون الطرف عن الجرائم ضد مسيحيي العراق إرضاءً لأطراف معينة أو ضماناً لصفقات تجارية أو حتى للحصول على بضعة جالونات من النفط. وإنه ذنب كل من جاء بزعماء يستخفون بمذابح المسيحين أويتجاهلونها أو ينكرونها مثل باراك أوباما الذي رفض إدانة جريمة كنيسة سيدة النجاة على أنها استهدفت المسيحيين العراقيين وأصر على أنها حادثة عادية تأتي في إطار حالة عدم الاستقرار التي يعيشها العراق. وإنه ذنب زعماء عرب ومسلمين يشجعون الإرهابيين على جرائمهم بغرض خلق مصاعب كبيرة أمام النظام الجديد في العراق.

إن ما يحدث من تطهير عرقي لمسيحيي العراق لهو وصمة عار على جبين كل مسلم لا يتخذ موقفاً قوياً ضد التطرف والإرهاب اللذين يرفعان شعارات إسلامية ويبرران جرائمهما بنصوص من القرآن وأحاديث للرسول. لقد حان الوقت اليوم، نعم اليوم، من دون تاجيل لمواجهة التطرف والإرهاب بصراحة ومن دون مواربة. المسئولية تقع أولاً على رجال الدين المسلمين الذين يقولون أنهم معتدلون. أعني هنا رجال الإفتاء الرسميين والأزهر والمراجع الإسلامية. عليهم تفسير القرآن بصورة تلغي تماماً الجهاد المسلح، وعليهم إنكار بصوت عال المقولات الخائبة التي تدعي أن المسيحيين مشركين وكفرة يتوجب قتالهم، وعليهم الاعتراف بأن بالمساواة بين البشر وبأن المسلمين لا ينميزون أبداً عن غيرهم من خلق الله، وعليهم تكفير الإرهابيين بدلاً من المفكرين.

مناسبة سعيدة كان من المفترض أن يحتفل بها مسيحيو العراق، ولكن آلام الإرهاب قتل الفرحة في قلوبهم. كيف يحتفلون ودماء شهدائهم لا تزال تزين بناية كنيسة سيدة النجاة. كيف يحتفلون وهم غير قادرين على إعلان مسيحيتهم؟ كيف يحتفلون وهم يخشون غدر الإرهابيين من حولهم؟ أنني من خلال هذه السطور أوجه تحية قلبية شخصية لكل مسيحي لا يزال يعيش فوق التراب العراقي وبخاصة هؤلاء الذين يعيشون في المناطق الملتهبة. أذكر مسيحيي العراق بقول السيد المسيح له المجد بأن مملكتنا ليست من هذا العالم، وبأن لا يخشوا من يقدر على قتل الجسد، وبأن إذا كان هو قد اضطهد وقتل فسنضطهد نحن أيضاً ونقتل. أذكرهم بأن الاضطهاد سمة كانت ولا تزال وستظل من أهم سمات المسيحية. وليعلم مسيحيو العراق بأن كل إنسان ذي ضمير حي يشاركهم أوضاعهم السيئة إن لم يكن بالجسد فبأنفس موجوعة ولكن أيضاً برجاء لا ينقطع في المخلص الذي نحتفل بميلاده اليوم. كل عام وأنتم بخير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع