الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وددت ، لو أحببتك منذ الولادة .. لكان العمر أجمل .

سيمون خوري

2010 / 12 / 29
الادب والفن



ما بين الأمس والغد ، ودعت بحراً مضى . أنا ، اليوم ما بين يومين ، مويجات صغيرة ، حملت الأمس الفائت في جيب خاصرتها ، ككنغارو إسترالي مُهجر الى ناطحات سحاب في فضاءات بعيدة .
نوارس صغيرة تطلق صافراتها ، معلنة زمن الإبحار في عالم جديد ، في بحر جديد . فقد إرتدى القبطان بدلتة الأنيقة وقبعته البيضاء . ودخان أبيض ينطلق من غليونه . ونوتي صغير يجرجر أخر بقايا حبل سري ، يصله بذلك الميناء . لا مودعين يحتفلون بغرقك ، ولا مستقبلين يحزنون على عودتك من يومك الى أمسك . فالغد هو ذاك الطفل الجميل . هل لديك أطفال ..؟ لا أحد يومئ بيده ، فالريح ساكنة .
سيدي القبطان ، هل لديك أطفال ، بوصلة المستقبل ؟ في رحلتك نحو البلاد التي تبكي فيها العصافير ، على نوعية الهواء الذي تستنشقه بلادنا ؟! أم حلاً سحرياً لحالة الطوارئ التي أعدمت من قواميسها كل كلمات الحب والغزل بالإنسان والورد والبحر . وحنطت الزمن في تمثال زجاجي ، قيل أنه من عالم خارق للعادة لا يعرف معنى الزوال ، ولا كيف تطلع الشمس من الغرب أم من الشرق ..؟ ويقدس الحائط والخشب والحجر .
لا شئ سوى صدى موج البحر ، موجة تعانق موجة ، ونورسة تلهو مع نورساً .. ونسمة هواء ، تبث موجز نشرة أنباء القلب ... وأنت ماذا ؟
أنا .. ههنا ، مرة أخرى ، أسامر بحر قادم جديد ، أجثو على شاطئه . أرمم بزبده كل آلام السنين المهاجرة ، وأغارُ من تلك الطيور الراحلة نحو الشرق .
بحر أبيض ، بحر أسود ، بحر أحمر ، وأخيراً بحر أصفر ، يهدد كل بحار العالم ، بالتحول الى " تسونامي " أخر . الى محيط من الدم ؟. و" بوذا " ما زال ينتظر في مكانه ، دون ملائكة . غافياً في محراب جوف الصمت ، فمن يسمع دعاء " يونس " وهو كظيم ؟ . حجر صامت ، نص صامت ، شعب صامت . أما حان آوان الغناء ؟ وأنت ماذا ..؟ أي بحر لديك ؟!
****** ******
قلت لها ، غداً سأبدل لون السماء ، سأحتسي القمر دفعة واحدة ، ثم ألقي بكأسي الفارغ ، خلفي نحو الماضي .. كما في حانة موسكوفية قديمة ، أو خمارة كرتكية شعبية ، وربما أحلم بخمارة أبو حنا العتيقة ، وشريحة " بسطرما " رقيقة جداً ، كرقة ورقة سيجارة لف . تتوسط صحناً صغيراً . أحزن على وجودها .. أتركها على حالها ، ليس رأفة بأبو حنا ، بل شفقة عليها . فمن العار أن تعيش لحظة المعراج وحدك.. والناقوس يقرع كل يوم ، مؤذناً في الفراغ .
فقد حان موعد الإبحار ياصديقتي ؟
قالت : قبل الرحيل ، برهن على أنك نهرٌ جاري ؟ فالحياة نهر ..
الحياة نهر .. الحياة نهر ..؟
في بلادنا جفت كل الأنهر . وأنت ياصديقتي ، منذ ولادة الأرض ترفعين سارية الغناء على مركبك الأوذيسي ؟ .
قالت : لا يهزم الحرب إلا الحب والغناء ..؟ لايهزم السلطان ، إلا قصيدة وشاعر .
أنا .. ياصديقة ما تبقى من زمن في ساعتي الرملية ، معزوفة " روك " صاخبة قديمة !؟ هزمتها الموسيقى الألكترونية .. التي تراقص أشباحاً . لا تستغربي ..!
هذا إعتراف من رصيف ، في حضرة شارع كبير مزدحم بالموتى . موتى بالعرض ، موتى بالطول ، موتى وقوفاً ، موتى جلوساً ، موتى نصوصاً .. موتى هياكل وتماثيل لسلاطين من زجاج ، وأبار نفط و إسمنت وزفت . فلا نهرُ في بلادنا . الكل شعاره نسراً أو صقراً أو باشقاً أو سيفاً أو حذاءاً .
فلا أحداً شعاره ، وردة أو سنبلة قمح أو قصيدة.
بيد أني أملك برهاناً وحيداً على أني لا زلت " نهر جاري " ، وهو كوني أحبك ؟ .. فيا سبحان الألهة ، كيف إختزلت الحياة بك . فأنت سرُ الماء والهواء .
إنفرجت أسارير نخاعي ، فقد إكتشفت سر الحياة ، بيد أن أحداً لم يعر إكتشافي هذا إهتماماً .. أين يمكن أن تسجل براءة الإكتشاف ..؟
على صفحة خدها ، أم على ثغر البحر المبتسم ؟!
كل الأطفال ثغور تبتسم ، كل النساء ثغور تبتسم ،؟ ترى هل الحياة مؤنث أم مذكر ؟ .. إنها ثغر يبتسم . منذ اللحظة التي مارست فيها الأرض فعل الحب مع الشمس .
قالت الألهة : ليقم الإله ، فشنو بتهيئة الرحم ، والإله تواشتار بصياغة الصور ، والإله براياباني بالإسالة ، والإله ذا تار بإيداع البذرة فيك " .
وأنت يا صديقتي ، فقد رعتك هيرا ، وولدتك إيزيس ، وغذاك زيوس ، وحماك أمون . أنت مطر وعشتار الحياة . من قال أنك خلقت من ضلعي المفقود ، الذي حوله " خارس " الى عصا لمنجله في وجه أنكي ؟؟ ثم حاول إغتيال أدونيس ؟
أنت مطر وعشتار الحياة .
مع نهاية البحر الذي مضى قلت لها أحبك .. ومع بداية البحر القادم قلت لها أحبك ... وعند عناق النهر بالبحر أيضاً ، ثم ماذا ؟
وعند حلول ساعة البياض ، سأردد أربعة حروف مقدسة ، الحياة هي " الحب " ماء الحياة الدافق.
وددت لو أحببتك منذ الولادة .. لكانت الحياة أجمل ، لأختصرت ساعات طويلة من الإنتظار ، على رصيف محطة قطار بخاري عتيق ، برفقة قطة متسولة . كمهاجر إختصر كل حياته الماضية ، في حقيبة ظهر باحثاً عن موطئ قدم لحقيبتة ، صدأت بفعل الإنتظار والترحال . ثم تحول الى رصيف غريب ، لرصيف أخر . ثم حضرت أرصفة أخرى .. من مدن لا ملح فيها ولا بحر لها . مدن إحتلها قرصان زجاجي . وإختفت الحجارة من أزقتها القديمة ... وأنت ماذا ..؟
أرصفة تتزاحم فوق أرصفة أخرى .. حقائب ظهر ملقاة على الشواطئ ، وفي أماكن كانت يوماً بيوتاً صاخبة للحب . إختفى منها بخار القطار الأبيض ، وغابت صافراته الجميلة .. فقد إستبدل بقطار أسرع ، إلتهم القمر دفعة واحدة ، قبل أن أحتسي منه رائحته . قطار بلا دخان أبيض ، بل بسحابة سوداء .
هل لا زلت تنتظر دخان أبيض من متحف عتيق ؟
يا .. أيها الساكن فوق جمر السنين منذ فجر التاريخ ألم يحن موعد غناءك ؟
تنتظر ماذا ؟ ، فالمستقبل أمامك ، والماضي خلفك ، وأنت تنتظر أن يتحول النص يوماً الى شاهداً معك .. وربما الى حقيبة ظهر أخرى ، وسيرحل كما الراحلون . أبطال وأنبياء وسحرة ومشعوذين وأوسمة ونياشين وتماثيل لسلاطين من زجاج رخيص .
وستبقى الدهشة ، و " منيرفا " ترافق " بوماً " حمل الدهشة في أعماقه منذ لحظة ولادته .. ما هذا العالم المسكون بالصمت ؟!
فما أجمل هذا البحر القادم المدهش ، حين تنام رموشي على هضبة شفتيك . بيد أني أحب زمن خروج الأطفال من المدرسة ، وما يحدثونه من ضجيج صاخب وعفوي ، ففي تلك اللحظة يتحرر الأطفال من سلطة المعلم .
وددت لو أحببتك منذ لحظة الولادة ، لكان العمر أجمل .. وتعلمت معنى الغناء مبكراً
وأنت ماذا .. إنسان أم حجر ..؟! يا أيها المصلوب في مكانين ، الوطن والمهجر .
سيمون
أثينا / 25 / 12 / 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لوحاتك بديعة
زهير دعيم ( 2010 / 12 / 29 - 14:46 )
اخي الكاتب المبدع سيمون خوري : لوحاتك بديعة فيها من عبق السوسن تارة وأخرى من هدير الموج يرتطم بصخر صيدا..
خيالك أفيح وغزلك رهيف.
كل عام وانت مبدع


2 - بين نبرات كتابك الحزين
فتحى حسن غريب أبوغريب ( 2010 / 12 / 29 - 17:54 )
بين نبرات كتابك الحزين..المح مشاهد الاسى وموات الحنين
المح فيك يارفيق التى حسرات توقفت برحيلها دقائق السنين
أنت الذى باعه الزمان...... فمات فى أحشائه حلمه...الجنين


3 - ليقرأ هذه اللوحة من يُحب الأدب والفن
الحكيم البابلي ( 2010 / 12 / 30 - 04:29 )
العزيز سيمون خوري
هللويا هللويا هللويا
تعرف بأني شتمتك لأول مرة اليوم ، وأثناء قراءة معلقتك الرائعة هذه ؟
ولا أحاول أن أطريك بقدر محاولتي إيصال إعجابي ودهشتي لهذه القصيدة التي من الخطأ جداً تسميتها مقالاً !!، بل هي قصيدة رائعة حازت على قلبي ووجداني وجعلتني أفكر لنفسي : لماذا لم يُحاول هذا الرجل أن يكون شاعراً ؟
بدلاً من سفح حياتهِ في السياسة التي تُخَشِب وتقتل الروح الشعرية الجمالية السحرية داخل الإنسان الشاعر ؟
كنتُ في حديث تلفوني مع الصديق الطيب فارس ميشو قبل قليل ، وذكرتُ له بأن كل سطر من قصيدتك السحرية هذه يستحق وقفة تأمل طويلة بعد الدخول في معابد عتيقة لإستخراج الدرر المخبوءة بين الكلمات والحروف الملونة لعالم لا يستطيع خلقه وإبداعه وحتى دخوله غير البشر الذين بهم المسرة
ورغم إعجابي بكل السطور وما ترمز إليه ، فقد أعجبتني التورية في جملة ( ويُقدس الحائط والخشب والحجر ) ، والتي أعتقدها ترمز لحائط المبكى وخشبة الصليب والحجر الأسود
أعتقد يا خوري الإبداع أن هذه اللوحة الزيتية ككل تُمثل أجمل ما قرأتُ من أدب لسنة 2010
شكراً للموسيقى وللأوبريت والحلوى ولعالم القصيدة الخاص
تحياتي


4 - رد الى الأحبة
سيمون خوري ( 2010 / 12 / 30 - 10:53 )
أخي العزيز الجليل زهير تحية لك أشكرك على تعليقاتك وتشجيعك الدائم وكل عام وأنت بخير.
أخي العزيز فتحي تحية لك شكراً على مرورك ، بعض ماذكرته هو واقع حال العديد من الأصدقاء الذين باعهم الزمن . ولم يتبقى شئ قابل للعرض أو بذل الجهد من أجله في عالم عهر كل شئ وحوله الى سلعة , أخي فتحي شكراً لك وكل عام وأنت بخير
أخي الحكيم البابلي تحية لك أنت من أصدقاء ما تبقى من هذا العمر ، ممن يحلو للمرء محاورته . وأنا فعلاً قد أستحق أكثر من شتم . أكثر من مرة شتمت ذاتي على عمر ضاع بلا فائدة . منذ يومين في سوق شعبي كان أحد المهاجرين الروس يعرض نياشينة وأسمته للبيع . تلك الأوسمة التي تحولت الى أن تباع على الرصيف فيما قضى عمره فرحاً بها . لكنه فجأة أدرك أن رغيف الخبز أثمن من كل هذه النياشين والأوسمة . ربما هذا حالنا ونحن نستعرض سنوات ما مضى والى أين وصلنا .. ترى ألا نستحق الشتم .. نعم ربما نستحق أكثر من ذلك . ومع ذلك أعتقد أني شخصياً أعيش في الزمن الإضافي كالذي يمنحة الحكم في مباراة كرة قدم وشكراً للإلهه الجميلة .أخي الحكيم أشكرك وتحيتي لك وللعائلة الكريمة وصديقي فارس .


5 - روح شاعر وقلم ساحر
فارس اردوان ميشو ( 2010 / 12 / 31 - 01:10 )
الصديق العزيز والكبير ( الشاعر ) سيمون خوري
سيبقى في داخلك ذلك الطفل الكبير الحالم المُبحر في عوالم الدهشة ، وستبقى روحك مسافرة في عوالم الفرح والنور ولاتستقر في مرفأ
تقول صديقتك ، لايهزم الحرب الا الحب والغناء ..؟ ولايهزم السلطان الا قصيدة وشاعر
ولا تدري صديقتك انه في بلداننا ، قتلت الحرب الحب واصبح الغناء بوقاً للمحاربين ، واستعبد السلطان القصيدة واصبح الشاعر طبالاً في جوقة السلطان
لعل المستقبل يحمل لنا بحوراً جديدة نبحر خلالها الى ارض بكر متدرعة بالحب والفرح
ياصديقي كل عام وانت والعائلة بخير
حفظتك الهة الخمر والحب والشعر
تحياتي


6 - كل عام وانت بحب
ناهد سلام ( 2011 / 1 / 4 - 22:06 )
شكرا لكل تلك الاناقة ،كالعادة تأسرني كلماتك ، كل عام وانت بحب وعطاء
دمت بخير

اخر الافلام

.. مسرحية -شو يا قشطة- تصور واقع مؤلم لظاهرة التحرش في لبنان |


.. تزوج الممثلة التونسية يسرا الجديدى.. أمير طعيمة ينشر صورًا




.. آسر ياسين يروج لشخصيته في فيلم ولاد رزق


.. -أنا كويسة وربنا معايا-.. المخرجة منال الصيفي عن وفاة أشرف م




.. حوار من المسافة صفر | المخرجة والكاتبة المسرحيّة لينا خوري |