الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع البروفيسور ميثم الجنابي عن حقيقة التصوف•

مازن لطيف علي

2010 / 12 / 30
مقابلات و حوارات


يرى المفكر العراقي ميثم الجنابي ان حقيقة التصوف هي تجربة وفلسفة بلوغ المطلق. ومن ثم فهي متنوعة وعلى قدر شخصياته. وبالتالي، فان كل ما لازمه من مظاهر عالقة لا علاقة صميمية له بحقيقة التصوف.
وقد اجاب الجنابي عن بعض الاسئلة المتعلقة بحقيقة التصوف:

* هناك اهتمام خاص بالتصوف من قبل المفكر ميثم الجنابي.. ما سبب هذا الاهتمام ؟
الاهتمام بفكرة هو عملية تلقائية. بمعنى أن كل ما يندفع المرء صوبه، خصوصا في مجال الفكر والإبداع، فانه مدفوع إليه بفعل صيرورته الذاتية، أي تكونه الشخصي وما يصير إليه في مجرى حياته الخاصة والعامة. بعبارة أخرى، إن اندفاع الإنسان صوب الفكر هو نتاج لهاجس فكري متعلق في الأغلب بالبحث عن الحقيقة، كما أن اندفاع المرء صوب المال هو لباعث له علاقة بتحسين شروط وجوده المادية أو للجاه والسيطرة أو قد يكون للتمكن من عمل الخير (وهو اقرب إلى المستحيل لكنه ممكن بوصفه حالة شاذة!) والشيء نفسه يمكن تطبيقه على مختلف مظاهر اهتمام الناس بهذه المهنة أو الصنعة أو الاختصاص. وقد يكون للمصادفة أيضا دورها الجميل والقبيح. وهي حالة لا تخلو من الحيرة، لكنها فردية للغاية، بمعنى يمكننا تتبع حيثياتها حالما نتناول دراسة شخصية معينة. وما يخصني بشكل ملموس، هو أن اهتمامي بمختلف ميادين المعرفة، والفلسفة منها بشكل خاص، هو سر الاهتمام بالتصوف. فالفلسفة هي "حب الحكمة"، والحكمة هي الخروج على الجسد والعقل، أي الاندفاع صوب معالم الروح والعيش بمعاييره. بمعنى الانتقال من طور العقل النظري إلى طور العقل العملي، أو ما تدعوه المتصوفة بعبارات العلم والعمل، أو المكاشفة والمعاملة. والجمع بينهما بطريقة، تصبح كل أشكال المعرفة ومستوياتها أسلوبا في "بلوغ المطلق". بعبارة أخرى، إن التصوف هو فلسفة المطلق الممزوجة بفردانية الوجدان. وهي عملية متسامية تصنع "أنا الحق" والعيش بقانونها. لهذا يمكنك رؤية وسماع اشعار مختلف "فحول" الشعراء، لكن أيا منهم لا يمكن لدواوينه أن ترتقي إلى بيت شعر للحلاج، أو كلمة منسية على ورقة كتبها النفري في فيافي الوجود!
إن دراستي للفلسفة العالمية والإسلامية منها بالأخص، أوصلتني إلى أن التصوف هو ذروة ما توصلت إليه الثقافة الإسلامية ضمن حدود ما ادعوه بالإسلام الثقافي. والمقصود بالإسلام الثقافي ليس بالضرورة الإسلام الدنيوي، بقدر ما انه الإبداع الإسلامي المحكوم بفكرة الثقافة العامة والخاصة وليس الدين، أي بالتاريخ الواقعي وليس اللاهوتي، بالحياة الدنيا وليس الآخرة، أو بالآخرة (المتسامية) وليس بالرغبة في جمع الجنان والغلمان! إن نحت مصطلح الإسلام الثقافي بالنسبة لي يقوم في محاولتي إبراز قيمة مختلف اختصاصات الثقافة ومستويات معرفتها ضمن مدارج البحث عن الحق الحقيقة، بوصفه التعبير المناسب عن مختلف مظاهر أنا الحق. انه إسلام المعاناة الخاصة والشخصية. وهو إسلام مثله وتمثله التصوف بطريقته الخاصة.
إن ما يثير اهتمامي في التصوف هو حكمته النظرية والعملية، وليس طرائقه! فالجوهري في حقيقة التصوف هي فكرة الحقيقة المتحررة من ثقل تقاليد العقائد "المقدسة" والمذهبية الضيقة والتقليد. والتصوف هو حركة حرة للقلب، أي لكل مكونات الإحساس والعقل والحدس. جوهرها البحث عن طريق للحقيقة. وإذا كان مظهرها ووسيلتها "الشريعة"، فلأنه الأسلوب الضروري لإيجاد النسبة بين الظاهر والباطن، أي الظاهر الإسلامي والباطن الإنساني. كما أن طابعها الفردي وسموها الأخلاقي ودقتها المعرفية وجمالها اللغوي وقدرتها للارتقاء غير المتناهي محكوم بغايتها الكبرى - الفناء في الحق والبقاء فيه. وهي المهمة التي اعمل من اجل رسم صيغتها المعقولة في عالمنا المعاصر، من خلال تحويل ما أدعوه بحكمة الروح الصوفي إلى مصاف العقل التجريبي والنقدي من اجل تأسيس فكرة للبدائل تذلل تقاليد السلفية والأصولية والتحجر والتمذهب غير العقلاني.

* يقال ان التصوف هو نتاج الزرادشتية أو البوذية او غيرهما من فلسفات الشرق؟
يتسم هذا التصور والحكم بقدر كبير من الجهل والتسطيح. فالتصوف اصيل بكل ما فيه. والسبب يكمن في جذوره واصوله الذاتية (الاسلامية). وكل ما عد ذلك مجرد مظاهر تستهوي التطفل والعابر وليس المعرفة الحقيقية.
وفيما لو تناولنا هذه القضية بمعايير الرؤية العلمية الدقيقة، فمن الضروري الانطلاق من واقع اختلاف الاراء والمواقف من حقيقة التصوف وماهيته ومن ثم اصوله وجذوره. وهذا بدوره مرتبط اما بالرؤية المنهجية او بمستوى المعارف والمدارك. الا ان هذا المدخل العام لا يحل كما يقال هذه الاشكالية، وذلك لان الحكم على التصوف يفترض الالمام والدراية به من حيث كون علما وعملا، وتقاليد ومنظومات وفلسفات. وهذه بدوها وثيقة الارتباط بكافة مكونات ومراحل الثقافة الاسلامية. ان الجهل بهذه الجوانب او عدم درايتها ومعرفتها كما هي، عادة ما يقف وراء الاحكام السريعة والسطحية عن التصوف، بما في ذلك فيما يسمى بالدراسات "العلمية" و"الموضوعية" التي تحاول البرهنة على ان التصوف هو "نتاج" مدارس او اديان ما اخرى غير الاسلام وتاريخه الثقافي.
ان التصوف هو المدرسة الاوسع والاعمق والاكثر اصالة للثقافة الاسلامية. انه مدرسة المطلق الاسلامي الثقافي والتاريخي.
ففيما لو اجملنا حصيلة المدارس او الاتجاهات النظرية والعملية الكبرى التي لازمت تطور العقل النظري والعملي في الثقافة الاسلامية، فان من الممكن حصرها باربع وهي الفقة وعلم الكلام والفلسفة والتصوف. والفقه والتصوف هما المدرستان الاسلاميتان الاكثر اصالة وصميمية.وشأن كل مدرسة او تيار اصيل وصميمي، فانه ذاتي بالضرورة، اي انه نتاج تلقائية التطر الذاتي للثقافة المعنية.
فكل ما في التصوف اصيل بذاته، واسلامي، بمعنى انه نتاج تطور الثقافة الاسلامية كما هي. واقصد بذلك الثقافة اعامة وليست الدينية. فالثقافة الاسلامية او سع بما لا يقاس من ان تربط بالدين. وذلك لان الدين لا يشكل من حيث الجوهر فيها الا نسبة ضئيلة جدا للغاية. وما عدا ذلك، بوصفه مضمونها التاريخي، هو نتاج الاجتهاد العقلي والروحي في مختلف ميادين الحياة والوعي.
والتصوف هو احد نماذج ومستويات وميادين التجربة الحسية والعقلية والحدسية للثقافة الاسلامية في محاولاتها تأسيس فكرة المطلق، او ما اطلق عليه التصوف عبارة الحق والحقيقة. فهي الوحدة الخاصة التي ميزت وجوده التاريخي والفكري والروحي، التي نعثر عليها في مجرى المعاناة الهائلة والمتنوعة لشخصياته على امتداد قرون في مجال تدقيق وتحقيق وتشذيب وتهذيب مختلف علومه وطرقه واساليبه ومفاهيمه ومصطلحاته وقواعده ومبادئه، اي كل ما يميز فرادته الاصيلة. بحيث يمكنني القولن بان كل ما في التصوف اصيل بصورة تامة. واذا كان اسلوبه الشكلي يتمظهر في وحدة الطريقة والشريعة والحقيقة، فلانها الصيغة التي تعكس اولا وقبل كل شيئ صيرورته الذاتية. انه طريق بلوغ الحقيقة عبر التمرس في شريعة الامة التاريخية، اي منطق ادراكها للحق في مختلف ميادين الحياة. وهي الصفة الجوهرية للتصوف الاسلامي، التي لا نعثر على شبيه لها في كل نماذج التصوف الاخرى على الاطلاق. من هنا عمق تجارب التصوف الاسلامي النظرية والعملية وتنوعها الهائل.
طبعا اذ ذلك لا ينفي امكانية تأثيره بمختلف المدارس والاتجاهات والشخصيات الدينية والدنيوية، الفقهية والكلامية، الفلسفية والعلمية الطبيعية، والشعر والشعراء والادب والاباء، المؤرخون واهل السياسية، باختصار في كل ميادين ومجالات ومستويات المعرفة الانسانية. فالتصوف كان يصهر كل نتاج التجارب الانسانية من خلال تذويبها في تجاربه الخاصة. وهذه صفة المدارس الحية الكبرى. ان التصوف تجربة او تجارب حية وليست عقائد ميتة. كما انه تميز على الدوام بانفتاح فكري ورحي هائل، من هنا عظمة كل ما فيه من الكلمة والعبارة حتى نظام الروح المتسامي.

* عند الحديث عن الصوفية يخطر إلى ذهن الانسان كل من الخرقة والمسبحة واللباس الرث وما شابه ذلك. ماهي العلاقة بين هذه الاشياء والنصوف والصوفية؟

لا علاقة جوهرية على الاطلاق! وذلك لان ما يخطر على ذهن الانسان، والمقصود هنا بالانسان فيما يبدو الانسان "العادي"، اي غير المحترف في هذا المجال، او غير العارف بحقائق التصوف العامة، او غير المتعلم بمعايير المعرفة العلمية او غير المثقف بمنجزات العلم والرؤية العلمية المعاصرة. وبالتالي فهي جزء من الاوهام والخرافات التي لازمت مراحل الانحطاط التاريخي للثقافة الاسلامية، الذي اصاب التصوف ايضا.
ان حقيقة التصوف هي تجربة المطلق. ومن ثم فهي متنوعة وعلى قدر شخصياته. وبالتالي، فان كل ما لازمه من مظاهر عالقة لا علاقة صميمية لها بحقيقة التصوف. وقد اطلق الصوفية على هذه الاشياء عبارة "ترهات الصوفية". من هنا قولهم، اذا اردت حقيقة التصوف فابذل روحك، والا فلا تشتغل بترهات الصوفية! والخرقة والمسبحة وما شابه ذلك هي مظاهر لهذه "الترهات"، حالما تصبح ذات قيمة بحد ذاتها، ومعزولة عن جذورها وحقيقة حاملها. فالفنان العظيم والموسيقي الكبير والشاعر الفحل والفيلسوف الاصيل قد يصاب كل منهم باثر حالة الابداع بذهول واندهاش من الهام الابداع يجعله غريبا في السلوك والاطوار والاذواق. اي كل كما يبدو في اعين الاخرين "جنونا". بينما الجنون كما يقال فنون، اي متنوع الصور والاشكال والمستويات. وما يبدو جنونا بمعايير الرؤية العادية هو عين العقل بمعايير الابداع الكبير. بمعنى انه يتجانس مع حقيقة الابداع التي تنفي وتنتهك الاعراف والتقاليد والمظاهر وتعيش بفعل ما فيها من وحي ذاتي. انها تعيش وتعمل وتفعل بمعايير الروح والقلب. لكن الامر يختلف حالما يقلد الجاهل والعادي والبليد هذه المظاهر. فخرقة الصوفي الاصيل شأن ملابس الفنان العظيم الرثة. ليس لانه يحب الرثة، بل لانه مشغول بما هو اكبر واوسع واعمق. انه يتجاهل المظاهر المزيفة والعرف المقيد للروح لانه يعمل بمعايير اخرى، ويزن الاشياء بموازين اخرى. ومن تعود على وزن الحجر او البطيخ فقط، قد يستهزء بميزان الذهب والدر. بعبارة اخرى ان لكل شيئ ميزانه الخاص. والخرقة والمسبحة ايضا، مع انهما ليستا جوهريتان في التصوف، الا ان لهما ميزانهما الخاص في تاريخ التصوف. واقصد بذلك رمزيتهما الخاصة، وبالاخص ما يمس الخرقة. ذلك يعني ان لكل منهما تاريخه الخاص. ولا ضرورة هنا للاستفاضة بكيفية نشوء هذه الاشياء ووظيفتها ضمن الطريق الصوفي وتربية المريد وسلوك الشيوخ. لكنني اكتفي بالاشارة الى انها، شأن كل ما في التصوف، ليس الا حالة عابرة امام مهمة وجدان المطلق، اي الذوبان في فعل الحقيقة من اجل ادراك النفس وتهذيبها الدائم. فهو طريق لا ينتهي ولا يتناهى، شأن الحق والحقيقة: جلي عصي ابد الابدين! بعبارة اخرى، ان حقيقة التصوف فيما اشرت اليه في العبارة الاخيرة ولا شيئ اخر!
• مدعوم من جانب الصندوق الروسي لدعم الدراسات العلمية المخصص لمشروع (القاموس الصوفي) رقم 10-03-00411-а) ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حملة ترامب تجمع تبرعات بأكثر من 76 مليون دولار في أبريل


.. القوات الروسية تعلن سيطرتها على قرية -أوتشيرتين- في منطقة دو




.. الاحتلال يهدم مسجد الدعوة ويجبر الغزيين على الصلاة في الخلاء


.. كتائب القسام تقصف تحشدات جيش الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم




.. وزير المالية الإسرائيلي: إبرام صفقة استسلام تنهي الحرب سيكو