الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة / الروزنامة الملعونة

بديع الآلوسي

2010 / 12 / 31
الادب والفن


سنين الإشاعات :

كان نور الزمان رابط الجأش حين أعطيت الأوامر بنسف آبار النفط ، ومنذئذ لم تعد توهمه تصريحات التلفاز التي تخدعنا ، ظل طوال الليل يروي لي مأساة إنسحابهم القسري المتزامن مع وابل الدخان .

نهاية الأسبوع الثالث اصيب بخيبة أمل من عبء الأكاذيب . بعد أن إنفض الجميع قال لي بشجاعة :لا تصدق سخافات التحدي، إنها إشاعات .

ذات صباح ، كنا وحيدين، وكعادته حافظ على تفاصيله الصغيرة ،إحتسى قهوته بلا اي إبتسامة ، مغمضا ً عينيه كأنه يغط في نوم متكاسل باحثا ً عن السكينة . حاولت بدعابة طفولية ان أزيح ما ينوخ على صدره من حيرة ، استغاث بزفرة طويلة ، حرك شفتيه بتثاقل قال لي مبتسما ًوبلا خجل : انت ثعلب ماكر مثلما انا ديك ساذج .

كل العشيرة تعرف انه جسور بعناد رغم نحالة جسمه ، لذلك لا يتوانون عن إسماعه أجمل كلمات الإطراء التي لم يعد يحتملها .

هذا الصباح هاتف مرتين ، تعكر مزاجه ، كأن نبأ ًسريا ً لوث دمه بالتوتر ، تظاهر بالحفاظ على مزاجه الأريحي وهو يؤكد لي : محنة .. والله ، هي في طريقها الينا .

كفهد جائع ،لم يتوقف عن ملاحقة كل حركاتي ، فجأة ً قبض على يدي والتمع بريق الضوء في عينيه معلنا ًعن فكرته المؤجلة : يا للمهزلة ..ضُحك َ علينا .

زمن الأسئلة :


عاد ضجيج الأسئلة يطارده كملاك الموت ، خاطبني بإنفعال منتظرا ً مني جوابا ً محددا ً : متى تتغير الأحوال ؟ .

قبل أن نفترق ، أسستفزني بلغته الصارمة :. ما الجرأة ، أمام مشقة الحصار ؟.

في المساء ، إنتبه الى ثرثرة النساء المتجاهلات لضروب الخيبة ، دمدمت احدهن بغنج ساخر : متى تغلب الشيطان وتتزوج ؟ .

مر بسرعة ، ودلف الى بيته دون ان ينبس بكلمة.

في تلك اليلة الباردة تقاطعت الاصوات وتشابكت في ذهنه ، رفس ظلال الإختناق التي تصرعه ، دون ان ينبىء احد ، عاود الخروخ محاولا ً نسيان الأسئلة التي تخترقه بإضطرابها العقيم .

إحداهن صاحت وراءه : لا تتعجل ، إنها في إنتظارك .

حين رأيته نظرلي َ بريبة أزعجتني ، ظل معزولا ًفي زاوية السرير ، متدثرا ً بمعطفه العسكري القديم ، مما زاد من توتري .

بعد صمت اجوف تساءل بصوت حائر : كيف قبلنا الإهانة ؟ .

ــ عفوا ً ، اي ..... ؟

ــ ان نتحول ، مرة ًالى خِراف ومرات كثيرة الى ببغاوات بلهاء .

بعد صمت يشبه الحداد ، قفز متذمرا ً وفي سورة غضب ، صرخ بإمتعاض : لا نكون أغبياء ،الحقيقة إننا لسنا رجالا ً أبدا ً.

تساءلت بدهشة : لماذاهذا التشاؤم ؟ .

فأجاب ضاحكا ً: ألا ترى، إننا متوجون بالعار منذ الصغر.

لم يعد يعرف كيف يحتاط من سيل الأسئله ، نظر لي َ بشفقه وأعاد نفس السؤال : لماذا الله اصابنا بالعمى ؟ .

الدقائق الثقيلة ضاءلت الإقتراب من الأجوبة السخية ، تنهد بقنوط واستأنف مناجاتي : أتظن إننا سنبتلى بغمامة موت جديد؟.

الغموض تشرب الى ذاكرته المتأرجحة بين الأسئلة التي تبحث عن معنى ، وبين زيف الأقاويل التي تنشر الأوهام .

تجاوز الإنفعال وبصوت خفيض ، أعلن شاكيا ًجازما ً : سيقرضنا الطاعون ألأرعن ؟.

بعدها إبتلعه الإعياء رويدا ً رويدا ً، تيقن إن عناء البحث لا يطل على أمل اونبوءة . هكذا هجع لخلود النوم الطويل ، الطويل ً.


ساعات الفتيات :

سٌعدَ خياله بالمتعة ، وتسلى بغرائز فتيات العشيرة اللواتي يتربصن به ، كان مندهشا ً من عبق الشهوة في عيونهن ومستغربا ًلهواجسهن المثارة و صدى اسئلتهن الحائرة ، كن يرددن : من سعيدة الحظ التي ستفلح به ولو لليلة واحدة .

الفتيات القاصدات البرية ، يطلن التأمل به ويتهامسن بخجل : جاء ..جاء ... جاء .

عند النهر يسبح عاريا ً فتجن شياطينهن برائحة الطيش والشهوة .

بدأت خواطره تتمايل بين الإنجذاب والنفور ، يلوح لهن ، يرشقهن بالحصى متيقنا ً انه سيفوز بأكثرهن نظارة .

إنتظر بصبر عودة السلام بإيقاعه الحالم ، ليحيا بهناء سخي.

قال لهن : إن إنهزمنا او إنتصرنا نحن في الحالتين خاسرين .


لحظة الهزيمة :

خرج نور الزمان من جبهات الحرب ، بعد ان دخل الغزاة كالصراصر ،عاد منهكا ً، لم تستقبله الفتيات الهائمات بالزغاريد ، دخل بيته مستغرقا ً في خيبته ، وبسطوة الموت التي ما زالت تعصف في ذهنه . حين خلا الى نفسه حطمه عذاب الإندحار ، تجعدت الدنيا بالرتابة وشملت رياح التغير كل شيء وإنطفأ البريق في عيون الفتيات ،، ظلال الهزيمة احالت المكان الى رائحة كريهة .اخذ مضاد الصداع عسى ان تشرق الدنيا عن بارقة من هذا الندم .

قال لهم : قاتلت حتى نفذ ...

ضحكوا : وماذا بعد ؟ .

ـ قتلت سبعة من المارينز .

بلا حياء صرخت احدى النساء ساخرة ً : وما النتيجة يا بطل ؟

ـ النتيجة وكما تعرفون ...... .

سألوه موبخين : لماذا لم تصمدوا ؟

ـ لا أدري .

كانوا ينظرون اليه بمزيج من الشفقة والتأنيب ، ولم تبادر اي فتاة طائشة او عاقلة وتسأله عن ما جرى لساقه المبتورة ؟

في ذلك الزمن الشحيح تخلى الجميع عنه.

عاد قلبه ينوح مشتغيثا ًمخذولا ًمن نكبات الزمن الثقيل الثقيل .


سنين الغزاة ايضا ً :

قال : لماذا احتمل كل هذا الألم ؟

ردد بإمتعاض لعدة مرات ـ كيف تحولت الى ديك اجرب ويتيم ؟

جلس نور الزمان معزولا ً يتأمل هذه الأسئلة التي تفور بالوجع ، وهو يتشمس امام حجرته محدقا ُ بما تبقى من ساق ، طاردا ً الذباب بضجر .

تابع قراءة جريدة حملتها له الريح .

قال : ياللغرابة يعيدون نفس الخداع بكلمات جديدة .

صار يدرك مع الوقت ان العبارات الطنانة تبهر للوهلة الأولى لكنها سريعة العطب .

وأطال النظر الى العنوان : التعددية دليل الديمقراطية .

إبتسم وغمغم : انتصر الغزاة لأنهم يؤمنون بهذه الخرافات .


يوم المواجه :

استيقظ نور الدين منزعجا ً،قاوم الهواجس التي تغتاله ، احتسى قهوته المعتادة ، ازدادت الفوضى الشرسة في تهشيمه، تعوذ من الشيطان مرارا ً .

قال : شيء فظيع ، الواجب اذن أن اهلك في ساحات الوغى ؟

تلمس ساقه ،،ضاق الهواء بصدره ، لم ينتبه الى انه دخل في ضباب التيه ،حاول ان يجمع مشاعره المبعثرة بين غموض الحياة وتفاهتها .

حينها إنفرطت دموعه ، صار الهباء المتشائم يطارد روحه ، ويرميه بوساوس تسد عليه الطريق .

بدت له البطولة دلالة على الخفة وقبل ان يهرب استدرك قائلا ً : حقا ً إن ساقي أثمن من الوطن المهلهل ومن عيون الفتيات الزاهيات .

تمهل َ ، عسى أن ياتي من يطل و ينقذه من عزلته التي أحالت اللامعنى على نهاية مجدية ، فزع حين التقت عيناه بوجه المنعكس في المرآة .

قال ـ يالها من مهزلة فكرة التشبث هذه.

لا يعرف لماذا إنثالت عليه الذكريات بتفاصيلها الصغيرة ، آبار النفط ، خداع التلفاز ، ضجيج الأسئلة ، كلمات الإطراء ، عيون الفتيات الشبقات ، وجوه المارينز الذين قتلهم ، ساقه التي ابتلعتها الحرب ، جفاء العشيرة .

احس ان الإلهة قد تخلت هي الأخرى عنه ، ظل يرنو الى طلقة الرحمة التي تليق به وتزيده فرحا َ غامضا ً ،حينها فقط شعر بالفوز كأنه عثر على ذاته التي خف وزنها اكثر مما كان يتخيل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا