الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصفعة قصة قصيرة

محمد بقوح

2011 / 1 / 1
الادب والفن


حين انتهيت من إعراب الجملة .. جملة النحس ، و قبل أن أضع النقطة الختامية ، تطبيقا لنصيحة معلمنا الملازمة له في كل حصة دراسية ، نزلت على الجانب الأيسر لوجهي صفعة قوية ، شتت توازن جسدي النحيل ، لتتلعثم قدماي الصغيرتان ، فأسقط كسكير ثمل على أرضية الفصل ، و وجوه التلاميذ واجمة لا تفهم ، دون أن أعلم بدوري لماذا و كيف وجدت تلك الصفعة اللعينة القاسية و المؤلمة جدا طريقها إلى وجهي .. ، أما الشيء الوحيد الذي ظل بريقه عالقا بين ثنايا ذهني ، هو تطاير الطبشورة البيضاء ، التي كانت تئن بين أناملي المبللة بالعرق الساخن ، في فضاء القسم ، لتصيب جبين تلميذ آخر ، كان يتابع فصول درس القواعد في مقعده في الصف الثاني .
و بإشارة من المعلم .. تلك التي أصبحت عند التلاميذ معهودة مع مرور الوقت ، بحكم صدورها المتكرر كل يوم تقريبا ، يحضر بسرعة البرق أربعة تلاميذ كبار في السن ، يتميزون بقوة أجسادهم الضخمة ، لكن أيضا ببلادة فكرهم و كسلهم الذي لا حدود له . يجد هؤلاء كل المتعة و اللذة و النشاط في أداء مثل هذا الدور ، و خدمة معلمنا هذه الخدمة الغريبة و المجانية . كنا نسميه الحاج الطبل ، تعديلا لاسمه الحقيقي الذي هو الحاج الطيب ، و ذلك بسبب اقتناع كل التلاميذ ، الذين درسوا عنده بأنه بعيد جدا أن ينطبق عليه معنى هذا الاسم ، الذي اختاره له والداه حين ولد . و ليته لم يولد . بالإضافة إلى صفة حجم بطنه المنتفخة ، و التي تحيل إلى صورة الطبل ، المعروف عندنا بإيقاعه الرنان في مواسم احتفالية ، تجري بحينا المهمّش ، خاصة في الأعياد الدينية كعيد الأضحى . كانت بطنه تبدو و كأنها تتقدم جسده إلى الأمام ، ملفتة للنظر ، و كأن صاحبنا يحمل معه طبلا ملتصقا بجسده .

كان معلمنا الحاج الطبل ، أو بلغتنا المحلية الحاج كانكا ، قوي البنية ، لم تأكل منه السنون التي مضت و لو ذرة واحدة . يميل إلى السمرة الغامقة ، أما يداه المشعورتان فتشبهان جذعي شجرة هائلة ، و تشعرك النظرة الأولى لكفيه الغليظتين أنك أمام قطعة ياجور صخري ، و ليس لحم و دم بشري . لهذا ، و نتيجة لكل تلك الصفات و السمات ، كان معلمنا الحاج كانكا يشكل مصدر خوف و رعب مهول ، ليس فقط بالنسبة لتلامذة فصلنا ، بل داخل جميع جهات و أمكنة المدرسة ، و يمكنك التأكد من هذه الحقيقة ، حين يتحمل صاحبنا مسئولية الحراسة وقت الاستراحة ، كل التلاميذ يعرفون بل يحفظون عن ظهر قلب أيام حراسة الحاج الطبل ، و يحسبون له ألف حساب ، بحيث يشعرون في دواخلهم أنهم في وقت حراسته التي تقيّدهم ، أنهم لا يمرحون كما يريدون ، و يحد بشكل ظالم من حريتهم .

بعد لحظات وجيزة ، أحسست بجسدي الصغير مهزوزا في الهواء .. التلاميذ الأربعة الأقوياء ينتظرون بزهو إشارة المعلم النهائية لحملي . ثمة يد كقضبان الفولاذ آخذة في شنقي . تصورت نفسي في إحدى غرف الجحيم . يحيط بي لهيب كما لو كان غلافا جويا سميكا ، اعتقدت في وقت من الأوقات أنه لهيب النار . قلت في نفسي كنت مطيعا لوالدي ، فلماذا رمي بي إلى جهنم ؟ في هذه اللحظة ، استقبلت أذناي صوتا ممزوجا بأصوات أخرى لا أعرفها ..
- قف .. يا حمار .. قف ..
حاول جسدي المنهار أن ينتصب ، و بكثير من الجهد و الصعوبة ، نجحت في الوقوف ، غير أنني لم أتبين ملامح وجه معلمنا الحاج الطبل ، الواقف أمامي كجبل صخري ، بالرغم من محاولاتي المتكررة لفهم و إدراك ما الذي وقع لي ..
بعد حين ، بدت لي ما يشبه نجمات أو فراشات ملونة و ذات طبيعة نورية ، تتطاير أمام عيني ، فحاولت جاهدا أن أميز تلك الأشياء الموجودة في محيطي ، و كذا وجوه التلاميذ الأربعة بقربي ، بملامحها القاسية ، تتأملني بعيون جارحة .. حينذاك تحسست مكان الصفعة بكفي اليسرى ، فوجدته واجما ، و جامدا .. و كأنه جزء من قطعة ثلج دافئة ، شعرت معها بأزيز كثيف يتعالى صوته ، الممزوج بضجيج ما يشبه آلات مصنع ، تنبعث من داخل رأسي أو أذني - لست أدري - في الجهة الموالية لمكان الصفعة ..
عندما هممت للعودة إلى مقعدي ، خطوت خطوات متجها نحو الباب ، معتقدا أنني ماض إلى مكاني ، حيث أقعد في صفي ، فوصل إلى سمعي صوت معلمنا الصارخ و المرعب و المزمجر ، كصوت الرعد :
- إه ه .. إلى أين يا بغل .. إننا هنا .. و لم ننته بعد ..
توقفت فجأة ، ثم عدت خائفا مضطربا إلى مكان سقوطي ، أمام السبورة السوداء كسواد هذا اليوم ، أنظر حينا إلى وجوه التلاميذ الأربعة ، الذين ينتظرون متلهفين ، و حينا آخر أدقق النظر متأملا الجملة .. جملة النحس على السبورة .. و أتأمل شريط الإعراب الذي أنجزته ، لعلني أقتنص الخطأ الذي اقترفته ، و أنا أعربها .. قال صوته المكفهر :
- أعد الإعراب .. اكتب .. ماذا تنتظر .. و انتبه .. ؟
قلت في نفسي :
( اللعنة على اليوم الذي أدخلني فيه أبي إلى هذه المدرسة ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحويل إلى خارج النص
محمد بقوح ( 2011 / 1 / 2 - 00:43 )
مع الأسف التعليق تم حدفه لأسباب تهم الموقع
لكن يمكنني الرد على عنوان التعليق بكون الإطالة أكثر في معنى النص أعلاه سيفقد هذا الأخير جزءا من الرسالة الفكرية المرجوة من النص ، بالإضافة إلى انسجام الموقف المعبر عنه من قبل شخصية التلميذ كصوت محوري و سارد لأحداث النص


2 - لا أدري لماذا
أحمد السباعي ( 2011 / 1 / 3 - 18:45 )
لا أدري لماذا لم ينشر تعليقي كاملا بالرغم من أنني تحريت أن أكون فيه محترما شروط النشر قدر الإمكان .. المهم .. أهنئ الكاتب و أطمئنه إلى أنني لم أقصد ما فهمه من عنوان التعليق .. إذ قصدت التعبير عن إعجابي بالنص لأن أجمل النصوص في نظري هو ذاك الذي يمارس عليك سلطة رمزية تجعلك عبد إعجابك به .. فتتمنى لو طال النص.. أكثر


3 - جمالية التلقي
محمد بقوح ( 2011 / 1 / 3 - 23:01 )
أتفق معك أخي أحمد . إنه نوع من شد متلقي النص عند عتبة ما يمكن تسميته ب موقع تمفصل درجة معينة من المتعة الفكرية و الجمالية المشتركة بين فعل الكتابة و سلوك القراءة
تحياتي ..

اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي