الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بطاقة تعريف

عباس داخل حسن

2011 / 1 / 2
الادب والفن


ينحسر النهار ويتسلل ضوء شحيح تتقاذف دقائقه المتناهية عبر الشباك المؤطر بخشب صندوق عتاد رمادي ، خلع وجهاه وحشر بعناية بين اكياس الخيش المعبأة بالتراب . ثمة رائحة ثقيلة يغط بها المكان ورطوبة منعشة زغم عفونتها الجياشة تمخر الانوف المفلطحة والدقيقة ،رائحة كثيراً ماتذكرني برائحة المقابر الغارقة في دياجير الظلمة المتخثرة فوق جثث الموتى المطمورة . رائحة تزكمني منذ الطفولة وتعيدني الى تلك الايام الموشومةعلى حجر الذاكرة .
كنت ايامها صغيراً مشاكساً بنزق طفولي اتسلل تحت جسر المدينة المهيمن بجبروته على النهر الذي يستلقي تحت وطأته مثل افعى خرافية ، كانت هناك عدة حجيرات مغلقة بمربعات من الحجر المشوي وقد تخللتها فتحات صغيرة نتيجة لاصطدام مجهول كانت علب مجوفة محتقنة بظلام مبهم ، كثيراً ما حذروني منها ومن تلك الحماقات المحفوفة بالمخاطر فقد كانت الثعابين تتلوى في مهاجعها الباردة مختبئة في قتامة الظلمة تطلق فحيحاً مخيفاً وحفيف اجنحة خفافيش هرمة تتخاطف عبر الحيز المظلم ملتصقة بالجدران المعشوشبة بلزوجة مختلطة بوصيص ينبعث برتابة غامضة.
كنت احدق وسط عالم رخو في اللاشيء كنت احاذر الخفافيش بشدة خوفا من التصاقها على احدى عيني وعندها قد لاتغادر الا اذا نظرت بمرآة من الذهب الخالص ، هكذا قال لي اخي الذي يكبرني بثلاث سنوات عندما كنا نقصد النهر الطافح بهدوء غريب ليعلمني السباحة خلسة في ايام قيظ جنوبي ملتهب كنا نطفيء اجسادنا الساخنة ونمتلىء ببهجة اسرة وحذر يبعثر في رؤسنا الصغيرة لذة لانستطيع الافلات من سلاسلها التي تربطنا بالنهر ونتمرغ على الجرف وفوق غرينه الرملي الناعم نتألق وسط النهر ونندمج في مويجاته البارقة بلون فضي والماء يبرد رغباتنا الطفولية . كانت امي توبخنا كلما علمت بذلك الا انها تهدأ وسط الحنان الامومي العذب.
كانت تلك الايام الآسرة تنزلق بسرعة مثل قطرات زئبق على سطح العمر البلوري ، لم اكن وقتها قد عرفت النساء والتدخين وحقيبة السفر ولم تلفح وجهي رغوة صابون الحلاقة . ولم تغمط قدماي الطليقتان بحذاء ثقيل يحد من الجري في الازقة وراء رفقاء طفولتنا ونحن نلعب لعبة التخفي . كنت اغمض عيني ليختبيء الاخرون لعبة جميلة تمنح فرصة التلصص والخداع رغم خوفنا من قسم اللعبة الي يلقى على من يقع عليه الاختيار ورغم خوفنا الطلسمي في ذلك الوقت اكثر من أي وقت اخر .
كان جدار الملجأ يفرز حيوانات صغيرة نابضة تحدق بنا بألفه ملغية ذلك العداء التاريخي والفكرة التي عرفناها عنها من كتب الصحة بأنها مجلبة للمخاطر والامراض المعدية .
كان يحلو للبعض عند سماع صوتها المتناغم اسماء الطيور عليها وكأنه يدللها .حدقت بوجه (كاظم) الذي كان يجلس قبالتي ماسحاً حديد بندقيته اللامع بفرشاة مغموسة في وعاء زيت داهناً اجزاءها الحديدية بروية كان اكبرنا سناً وشى الشيب رأسه وتجسدت صرامة الريف في وجهه الذي لايخلو من وسامة غادرته مبكراً ، كنا نحتكم اليه كثيراًعند نشوب شجاراتنا لاتفه الاسباب وكان الجميع منشغلين في نوبات حراسة يترصدون عبر المزاغل الطرق النيسمية المطبوعة على الارض المتناهية في قلب المسطحات المائية الشاسعة والبعض يغسل ملابسه واخرون يقومون بأدامة طفيفة لسقوف الملاجىء المدروسة مع الارض ويخلد البعض لراحة قصيرة بأنتظار نوبة حراساتهم. كان الملجأ يغرق في عتمة شاحبة ويتفجر بداخله سكون عميق . كانت نظراتي تطوف متفحصة اشيائنا المتناثرة جعب عتاد..خوذ..بنادق متدلية ..اكياس رمادية حشرت بداخلها اقنعة وقاية مطاطية .ثمة اكياس مؤونة معلقة على جذوع السقف .
اصطدمت نظراتي بصورة لفتاة في الركن المقابل على الجدار الترابي الذي يشبه جرف نهر جف منذ زمن سحيق كانت الصورة مرسومة بخطوط دقيقة على ورق المقوى الابيض الذي احترقت حوافه بسمرة الغبار وبصمات التداول والتنقل رمقت الصورة التي لم تكن بعيدة عني بنظرات من يشاهد لاول وهلة كنت اعرف الصورة بدمها ولحمها كانت مشدودة مثل لبوة متحفزة تبعث في اعماقي سيل من الذكريات لايام لم تعد تنتهي لجمالها الطري مثل جنح فراشة.
تذكرت ايام خوالي مثقلة بالجراح ورائحة الدم الطازج وايام حصار أشتد فيها أوار المعارك ومشاعل التنوير وازيز يحف اذاننا مثل أجنحة الموت الخاطف كانت الصورة طيلة تلك الأيام حتى لحظة رسمها في ساعات السكون التي يخلفها ازيز القذائف التي تصفر بوحشية وخلف انقطاع الصراخ والانين كانت تلك الصورة مثل ذكرى قديمة تتناسل في رأسي عشرات الصور المشوشة المنبعثة في جمجمتي التي استشاطت فيها فكرة ملتهبة مثل شظية لاعادة رسم تلك الصورة من جديد وحشرها في ذلك الاطار الفارغ المحمول على احد اعمدة النور الموجودة وسط الجسر الذي كنت اتسلل تحته وانا طفل . كانت المدينة ترمي ظلالها وهي قابعة تحت شمس تموز المتوهجة فتبدو مهجورة حينما كانت أرقب ذلك الاطار المعلق مثل كف تومى بالسلام اطار الصورة التي لم اتعرف على صاحبها ربما كان من الذين مررت بهم اوصورة دعاية لفتاة تعلن عن مشروب مرطب او احد اعيان المنتفق .كان الصمت مشتعلاً وانا اتخيل صورة فتاتي الجميلة معلقة على ذلك الاطار يرمقها المارة بنظرات وجلة وهي محاطة بتجل نقي .
انزلق الترباس الذي دفعه (كاظم) بيده اليمنى فوق سكته محدثاً صوتاً مفرقعاً في قلب الصمت ليعيدني لعتمة الملجأ الباهتة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في


.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد




.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين