الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة اعتذار

مصطفى الحاج صالح

2011 / 1 / 4
الادب والفن


إلى أبي

أعتذر يا أبي عن عقوقي وعن عنادي فلم أكن ابنا صالحا ، مـُرْضيا لوالديه وعذري أقدمه بين يدي روحك وهي تعود للسكنى فينا وفي أحفادك، عذري وعذر أخوتي أننا أردنا تغيير العالم، أردنا عالما أقل ظلما وأقل فقرا ، كانت أحلامنا جميلة لكنها ساذجة ولم تكن ببعيدة عن أحلامك أنت ولا عن أحلام أمي شهيدة القهر . أنت وهي أيضا أردتم قرية طيبة لا يظلم الناس فيها بعضهم بعضا ولا يظلمون أنفسهم بالجهل والتواكل، فنسجت لنا من أحلامك أسرة ودروبا، علمتنا ولم تكن أقل عنادا منا في بلوغ مآربك فينا، أردتنا أطباء ومهندسين، أردتنا معلمين، كنت تقول " أساتذة" . أتـَذكر.؟ وفي الحد الأدنى كنت ترانا رجال درك!!. كان ذلك قبل نصف قرن، في زمن لم يكن فيه أبناء القرى يصلحون لغير رعاية المواشي، في زمن كان فيه الناس جميعا يلومونك على عنادك وإصرارك على تعليمنا، عناد قادك إلى الفقر وشظف العيش، في حين كان بني قومك الأقربين يستمتعون بالظلال وأحاديث الهرج وبالتقلب بين المذاهب والطرق.. فعذرا يا أبي ، لم نحقق لك أحلامك التي تريد فلقد كنا مثلك في العناد، شابهناك ولأننا فعلنا ذلك خيبنا آمالك . ثمة شئ في دواخلنا غير مدرك على وجة التحديد يجعلنا نسلك مسالك الخطر . أهو قدر كما كنت ترى أم لعنة كما يرى أقرباء لك ولنا.؟ . أحقا نحن ملعونيين يا والدي ومن فعل ذلك..؟ قطعا ليس أنت، فكل مرات غضبك كانت مؤقتة وكل شتائمك لم تكن تعدو طرف اللسان فقلبك لم يكن يسمح وأنت من قال لي: ( كل شئ فيكم وفي شيوعيتكم هذه عظيم إلا الإلحاد وإنكار وجود الله ) وبالقطع ليست أمي من لعننا فلقد كانت تخشى علينا من الهبوب، من الغياب، من الغضب، من حسد الحاسدين .. فما دمتما لم تفعلا ذلك فكل اللعنات الأخرى لا تساوي في موازيننا شيئا.. فأنت أعلم منا باللاعنين !!. هم من حرم الصلاة ببيتك أو بالقرب منه، بسببنا، وهم من كتب التقارير على مر الأيام والسنين وهم النظام الذي نجح في تشكيل كثير من البشر ، في القرى وفي المدن ، على شاكلته.

هل كان الأمر سيتغير يا والدي لو أنك كففت عن الحلم وتوقفت عن العناد ملتزما بسنة قريتك والقرى المجاوره؟. من يدري .. لربما كان الحال أسوأ مما كنت تظن في أوقاتك العصيبة، في أوقات اليأس والقنوط، في أوقات المحنة والعذاب وما كان أكثرها .. هل تنعمت بيوم في حياتك المديدة..؟ مذ بدأت أحلامك تتخذ شكل صبية مكلفين بتحقيق تلك الأحلام في مدرسة الكتاب ومدارس التعليم في القرى المجاورة.

قبل اكتمال نصاب اللعنات واكتمال دائرة الاستبداد الخانقة في عام 1980، كـُنتَ سعيدا بنجاحانتا المدرسية، كنت فخورا بنا وبالمتميزين منا بـ" ياسين " و" محمد" وبالكاد كنت قادرا على إخفاء ابتسامتك المقتضبة كما لو أنك تخشى علينا من نفسك وفي ظن بعض منك، بعضك الموروث عن جدي، أنّ الابتسام والمرح يقللان من هيبة المرء ، من مكانته ومن درجته العلمية، فلم تشأ أنْ نراك مبتسما متبسطا متهرجا خشية علينا من طوائف الهرج ومن صغار الأفعال .

كل الآباء يا أبي يحبون أبنائهم ويرغبون في أنْ يصبحوا أفضل منهم : لكن محبتك لنا كانت متميزة، كانت عنيدة مكابرة . لبست أسمالنا؛ أكلت الطعام البائت، مسرورا بفكرتك عنا ، كتمت قلقك، أخفيت حاجتك، نهرت شكوك، حتى فاضت مرارتك.. فعذرا يا أبي .. بلا ، أنت وأمي كنتم بشكل أو بآخر ضحايا عنادنا وإصرارنا على موقفنا من الطغيان، لم نترفق ربما لأننا كنا منذورين للمساهمة في كتابة تاريخ آخر للبلاد ، فكما أحببنا قرية" جرن أسود تحتاني"، كذلك أحببنا الرقة وأحببنا سوريا، أردنا لكل تلك الأماكن حالا أفضل ، لم ننجح لكننا زرعنا غراسا في أماكن شتى ولعل شجيرات الزيتون في القرية شاهد على عصر قادم ، عصر تتغلب فيه، يا أبي، الخضرة على الجفاف ، المحبة على البغضاء، الحرية على الذل والهوان، العدل على الظلم.

ختاما.. أمانه وأمانة الله ثقيلة كما يقولون، سلم على الموتى وبلغهم أخبار الدنيا وحـِمـلُ روحك سلام إلى والدتي ، شهيدة القهر، بلغها أخبار أبنائها وأحفادها، اذكرهم بالإسم عندها وقل لها أنّ وطننا اتسع ليشمل العالم كله، لم يعد قرية صغيرة مجهولة ولم يعد مدينة مهملة، أصبح العالم وطننا ولنا فيه أصدقاء وأحبة.

ابنك العاق

مصطفى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رسالة عامة بقدر ما هي خاصة
الحكيم البابلي ( 2011 / 1 / 4 - 00:51 )
أحييك أخي مصطفى
وأفهم كل كلمة جاءت في رسالتك للوالد الراحل
كثيرٌ منا - ربما - مر بنفس الظروف أو بظروف مشابهة مُقاربة لأننا جميعاً من بلد واحد ولا يهم أن نكون عراقيين أو شاميين أو مصريين ، فالعيشة واحدة والمجتمع متقارب واللغة واحدة وطريقة حياتنا مشتركة تقريباً
أردتُ أن أقول لك ... وصلت وستصل رسالتك
تحياتي

اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية