الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبد الرحيم صالح الرحيم ...في طريقه الى أبواب الليل

حسن مجاد

2011 / 1 / 5
الادب والفن


عبد الرحيم صالح الرحيم
في طريقه إلى أبواب الليل
حــــــــــسن مجـــَّـــــــاد
كلية التربية – جامعة القادسية

هل يمكن لنا أن نقترب من عوالم تجربة عبد الرحيم صالح الرحيم الشعرية بعيدا أفق السياسية ومنعرجات التاريخ العراقي الحديث الذي يتسرب بهدوء في عوالمه من دون أن يحدث ضجيجا مفتعلا أو تكورا على إيديولوجية ما، وهل يمكن لنا أن نحدق في سماواته الشاسعة بعيدا عن النظر إلى هذا الكائن في عزلته وفي مآل مصيره ، وإحساسه العميق بالتفاصيل اليومية ؟، هل لنا أن نقف عند شوارعه دون أن ندرك منعطفاتها ؟ .
إنها التجربة التي لا يمكن لنا أن نطل عليها إلا من خلالها ، ومن هنا تستحيل المناهج إلى يافطة و ديكور من دون أن توفر لنا قدرا ممكنا في سبر أغوار التجربة و اكتشاف أعماقها ؛ لان الرحيم لا يكتب تحت موجات التأثير الكبرى التي انجرف وراءها الستينيون وبالغ في العمل عليها السبعينيون ، وهو لا يعمل في منطقة الغموض والتعقيد اللغوي واللعب في هندسة القصيدة وفضائها .
لا يكتب الرحيم ما لا ينسجم مع بنية وعيه تمثلا وانعكاسا ، ومن هنا اختط لخطواته طريقا لم يعثر فيه على اقتفاء الأثر وركوب موجات، وجعل لنفسه دربا ينسجم وموقفه من الحياة والإنسان والكون ، ومن الطبيعي جدا أن يتحمل أعباء هذا الاختيار وحده ، وان يكتشف طريقا منعرجا وملبدا بالشوك والحصى، وهو طريق يفضي إلى القلق والشعور المأساوي بالوحدة والعزلة ، فليس بعد ذلك من الرجوع والنكوص إلى الوراء ومحاولة التلصص على الآخرين ابتغاء زيف لا ينسجم مع عمق ما هو فيه ، وتكاد قصيدته " الطريق " تكشف عن سر هذا التيه الذي هو فيه يقول : -
( أضعنا الطريق إلى بيتنا ،
وساورنا هاجس أننا لن نعود ،
وان المدى بيننا
بعيد .. بعيد ..
جلسنا على تلة في العراء ،
نحدق في بعضنا ..
وكان المساء ،
نزيفا من البرد فوق السماء ..
وطاف بأرواحنا ،
صدى من نحيب عميق ..
لماذا أضعنا الطريق إلى بيتنا ،
لماذا أضعنا الطريق ؟) أبواب الليل : 216 .
إننا إزاء تجربة فريدة في عالمها وغنية في سعة دلالتها ، على الرغم من أن موضوعاتها لم تكن بعيدة عن الشعرية العربية في أزهى عصورها تلك التي تتجلى في التمثيل الرمزي والرومانسي للوحة الليل ، وعدم إغلاقها في دائرة منعزلة عن تاريخ مفرداتها ، إلا ان الرحيم يكتب القصيدة البسيطة على المستوى التركيبي العميقة على مستوى الدلالة ؛ ولذلك لا نلمس شحوبا في الدلالة على الرغم من التكرار الموضوعي الذي ربما يخدع القارئ حين يقف عليها بلا بصيرة ، ومن هنا يفرض النص منطقه وانسجامه على وعي القارئ في لحظة الإفضاء إليه ، لأنه ليس كتلة من العبارات البليدة والاجترار الدلالي الذي يكون معلقا على تجارب الآخرين، نعم ، الرحيم لا يمكن مهما حاول أن يتخلى عن إرث أجداده الشعراء ويبقى وحيدا ، وهي محاولة على أي حال مفترضة ، اذ انه يتمثل الإرث الشعري مفكرا بما يمور به الواقع وما يتغير بفعل قوى محركة لطبيعة نسيجه الاجتماعي والسياسي ، ومن ثم يستطيع عبر ذلك أن يكوّن رؤيته التي تعبر عنه ولا تعبر عن الآخرين ، ومن هنا لا بد من الوقوف على عناصر النشأة والتكوين التي سقت العشب في بدايات نموه .
ولد الرحيم في الديوانية عام 1950 في إحدى محلاتها القديمة التي أصبحت اليوم مركزا للتجارة والتسوق ، وهي محلة" الجديدة" ، وقد غابت معالمها الآن ، وانفتحت عيونه على المدينة الشاحبة ونسائها وصبيانها ، وتعرف على طرقها في الليل باحثا عن أبوابه ،و هاربا من العسس ورجالات السلطة فآمن بالصفصاف قبل أن يُقطع من جذوره ، وآوى إلى سدرة في بيت قديم ، وظلت هذه المحلة عالقة في ذهنه يتأمل أزقتها وعريها ليلا متعقبا وجوه أبنائها الراحلين والغائبين ، وفي قصيدته الموسومة بـ" الجديدة " نلمس شدة الإحساس بالمكان الشعبي و التغيرات التي طرأت عليه عبر الولوج في أزقتها وتلمس آثارها ويمكن الوقوف على ثلاثة محاور للقصيدة تفصل بلازمة التكرار :-
( أدخل فيها
أتلمسها حجرا ... حجرا )
ففي المحور الأول تصبح الجديدة كتابا يقرأ فيه أيامه التي تثير فيه البكاء على ما مضى من تاريخ شخصي
( أقرأ أيامي في أبواب منازلها ،
ومزابلها
ومجاريها
أبكي طرقا مازالت بصمات القلب عليها ،
وعصافير ا نثرت في الريح أغانيها ) 27 .
هي الكتاب السري لعالم الرحيم في عزلته ورحيله ، يبقى مشدودا إليه لأنه الكتاب الأول الذي وجد نفسه في سطوره الأولى ، وهو ما يحيلنا إلى قصيدة " الأبواب " التي تنتمي إلى بدايات ما كتب 1979 يقول فيها :

( أتمنى لو أني أقرأ كل الأبواب ...
ككتاب ...
أو أكسرها ،
و أبعثرها ،
في الريح ..
ذرات تراب ) 57 ,
ويمضي الرحيم في تقليب صفحاته عبر الولوج الى محلته ويصبح غريبا عنها لا يجد أحدا يعرفه فيها:-
( أطرق أبواب منازلها
أطرق أبواب القلب
فتلتم شوارعها ،
وأزقتها
ومقاهيها ...
وتطل وجوه أحبتها ..
وجوه غابت ،
ووجوه شاخت ،
ووجوه تعرفني ،
ووجوه تتعقبني بالحيرة والشك
فأبكي ..) 27-28 .
تزدحم حوله الوجوه لغرابته ويتعقبه من لا يعرف كنهه وهو على عتبات الابواب، وهنا يكون مهيأ لان يواري محلته بقلبه وهو ما يشكل المحور الأخير:-
( أتوقف في كل مناحيها
أتأملها ..
أتأمل حيطانا مازالت شمس الروح عليها ...
وبصمت الأحزان ،
أفتح باب القلب لها
وأواريها ) 28- 29 .
شكلت تلك المفردات معجمه الشعري " الباب ، الطريق ، الليل ، الوجوه " وهي مفردات مشحونة بالبعد النفسي لدلالات الانتظار والوحشة والوحدة ، وقد اندست في لاوعيه وتحولت إلى سلوك في الحياة .
عاش أواخر الستينات شابا يافعا ملتهما لقراءة الكتب والمجلات ، وأتقن فيما بعد الانكليزية كتابة وترجمة ، وأطل بحنجرته في سبعينيات القرن الماضي شاعرا وقاصا ومترجما من على صفحات المجلات والجرائد ، وكان على كل ذلك مقلا في الكتابة ، يعمل على إنضاج ما يفكر به بهدوء ، ولربما قد كان في يوم ما مندفعا وثوريا بحكم ما أشاعه اليسار في الثقافة العراقية من قيم الرفض ومواجهة الاستلاب ، وقد فسح له اليسار طريقا إلى بيت الأحلام الذي تهدم بفعل الأعاصير الكبرى في تاريخنا الحديث ، ويبقى الحلم عالقا في ذاكرته منسلا في لاوعيه يجيء إليه ليلا ، ويسترجعه في الذاكرة ففي قصيدته " أوهام سامة " يسترجعه ، ويسترجع انكساراته وانكسارات جيل من الأحلام بفعل محرقة الحروب يقول:-
( النجوم التي فوقنا ،
والتي خلبت لبنا ،
فانطلقنا بها في دروب الخيال ،
ربما ،
هي في السر عين علينا ...
هل ترانا خدعنا بها كل هذي السنين ،
دون ان نجتلي سرها ؟
النجوم ...
هذا الجمال المخيف ...
ربما ..
ربما ..
هي من يخطف اليوم أرواحنا ...) الديوان : 215 ، وبعد هذه الانكسارات المريرة بين الحلم وإرادة التغيير ، و الواقع وقوى الظلام ، ترى كيف عاد بعد رحلة العذاب الفردي والهم الإنساني؟ ، وهل يمكن أن تكون قصيدته " لماذا يا قلبي" جوابا لهذا السؤال المعتمل في صدره ؟؟
( فبماذا عدت ؟
كف فارغة ،
روح خاوية ،
وإناء مكسور ..
....
فلماذا يا قلبي ألقيت بنفسك في المحذور ؟!) 193- 194
ويبقى بعيدا عن الأضواء غير مكترث بسحر السراب ، ويلتقي بعد حين من الوقت مع رفاق له في مقاهي بغداد أيام الدراسة ، ويتجول في شوارعها ، ويحدث ما حدث وتضطرب النفوس في نهايات السبعينات أو منتصفها ويهاجر من كان معه قسرا أو هربا أو اختيارا ، ويمشي من كان معه رافضا أيام ذاك إلى أبواب السلطة ويلعب على حبالها ، ويُصدم بما يراه ، ويختار طريقا قل سالكوه ، ويلوذ بما لا يُحتفى به ، فلا يُنظر إليه ، ولربما قد تركت امرأة في نفسه أثرا ، وقد لا يكون ، اعني لربما قد كان هناك حدث فلَّ عرى صبره فهجر ما كان عليه وانزوى بمفرده مكتفيا بالحديث مع جارته النخلة وشوارع مدينته النائمة على الغروب ، وهناك يحدث في العراق ما قد حدث في ثمانينياته الثمانية من صور الراحلين إلى عالم آخر ومن مكرهين في أقبية الموت وزنزانات العذاب ، لهذا كيف يكون؟؟ ، انه جيل خارج من بلاد الحروب وما تتركها من اثر في النفوس وظلال على طبيعة العلاقات ، ترى أين طريقه الآن في هذا الليل المظلم؟؟ يقول في قصيدته التي ترجمت إلى الانكليزية " قطار النجوم "
( الليل قطار يمضي
أتمنى لو اركبه يوما
لو يأخذني دوما
لأرى أين يسير
أين يسير ) الديوان 77 .
ومن المعروف تاريخيا إنَّ الرحيم قد نشر مجاميع شعرية يكتسب الليل ومفرداته محورا في تكوين عناصر عناوينها وهي " على طرقات الليل " و" أبواب الليل " و الليل ثانية " وعلى الرغم من محدودية انتشارها، فان الشاعر عمل على جمع ديوانه الكامل وإسقاط ما لا ينسجم مع تطور التجربة وهو ما يؤشر له لا عليه ، وأخرجه في نهايات 2010 عن مؤسسة الرافد للمطبوعات بـ" أبواب الليل " ، وقد حرص الرحيم على عدم دخول القارئ إلى ديوانه دون محطات يكون الوقوف عليها قائما على وعي مفهوم الشعر ووظيفته ، وهنا يستعير الرحيم مقطوعتين من الأدب الياباني تفصح الأولى في بيان ماهية الشعر على حين تكون الثانية مخصصة في الكشف عن أثره في وعي القارئ ، يقول الشاعر الياباني أوزوفا – روان:-
( ما هي القصيدة ؟
أنها ليست إلا أن يرفع الإنسان صوته
ليبوح
من أعماق قلبه
بما يشعر ) ، و يقدم الشاعر أوشياي ناوبومي تعبيرا جميلا لأثر القصيدة في نفس القارئ حين يقول :
( إذا بعثت الأشعار
التي اكتبها
السعادة في إنسان واحد :
فاني أموت هادئا
إذ لم تكن حياتي بلا جدوى ...) الديوان : 5
ولكن يبقى الشاعر الذي أغفله الرحيم في هذه العتبة غير انه يذكره في إحدى قصائده المهداة إلى محمود البريكان يقول فيها :-
( الشاعر يبقى ..
أبدا يبقى
من أعلى الكون يطل
ويحدق في الأسرار
لا الجدب ، ولا الإعصار
يلوي أغصانه )
لا يكتب الرحيم إلا ما تمليه عليه الذات ، ونحن هنا إزاء صدق تجربة وموقف ، وهو بهذا الوصف ، لا ينخدع بالبرق الكذوب بحثا عن بخور الشهرة ، وطقوس الاحتفاء العابر ، انه يصغي جيدا لبئر صوته ذلك الذي يذكره بأصداء عوالم الطفولة التي تشكل مصدرا مهما من مصادر التجربة الشعرية ، بكل ما يتصل بها من مفردات وطبيعة وعالم حيوان ، لا سيما في قصائده " الناحية الأخرى ، وظل " وغيرها من القصائد التي تضفي طبائع إنسانية على عالم الحيوان وتتخذ من ذلك رمزا في تحقيق المرامي التي تقصدها.
تصبح التفاصيل اليومية عنصرا في نسيج عوالم الرحيم الشعرية من دون أن تغرق في الإسفاف والابتذال ، وهنا تبزر قدرة الشاعر في تجاوز ما يرهق نصه من حشو وترهل العبارات ، ليبتعد عما لا يوفر زخما عاطفيا وشعوريا عبر الاعتناء برسم المشاهد الحزينة ، والإحساس بما لا يمكن أن يثير للوهلة الأولى أية غرابة وانفعال عبر تكنيك الإيجاز والتكثيف الدلالي في بناء القصيدة.
وفي ديوانه " أبواب الليل " يتجلى موضوعان مهمان يرتبطان بأفق التجربة الذاتية سيرة وسلوكا، هما الطريق وما ينتمي إليه من حقل معجمي تتسع باتساع دلالاتها السياسية والنفسية والاجتماعية ، والليل لا بوصفه زمنا للرحيل وللتجول فحسب بل بوصفه رمزا للعزلة القاتلة بعد أن سافر الأصدقاء وعز عليه الملتقى ، فلاذ بالصمت والعزلة والتخفي وراء جدران مدينته ، ومن هنا يلتقي الطريق بالليل ، وتتواشج الرحلة في الدروب الضيقة مع البحث عن أبواب الليل ليبرز الإحساس العميق بالمكان الشعبي الذي يرتبط بالذاكرة ففي قصيدته " حنين " التي أهداها إلى صديق رحلته سعدي سماوي تبرز شجرة السدرة بوصفها معادلا لزمن مضى ؛ لأنها كانت تلك الغيمة التي يستظلون بها في دفء الحياة ومن هنا يمكن الوقوف على محورين في القصيدة، المحور الأول يتعلق بلحظة استدعاء الماضي بكل مفرداته ، وكان باعث الاستدعاء شجرة السدرة التي شاخت وسط البيت القديم الذي يضم في فنائه العالم الطفولي وفي هذا المحور يقول:-
( وأذكر في بيتنا ،
سدرة ...
تحت افيائها ، جدتي ، وأبي نائمان
وأمي تعد العجين
وفي ظلها إخوتي يلعبون ...
ومن بين أغصانها
تضج العصافير لاهية بين حين وحين .. ) أبواب الليل : 211 .
أما المحور الآخر فانه يتعلق في لحظ لانتباه والاستيقاظ وقطع فعل الذاكرة للتحول إلى عملية البحث عن الغائبين يقول :
( وتمضي السنون على مهلها ..
وتمضي الحياة بأثقالها ..
وها إنني الآن بعد انقضاء السنين ،
وما مر في القلب من عابرين ،
أفتش عن ضوعة للعجين ..
أفتش عن إخوتي ، وعن عصافير أمس
وعن جدتي و أبي ..
في غبار السنين ) 211- 212 .
لم تكن شجرة السدرة إلا عالم الطفولة الأولى بكل ما تختزن في وعيه من لحظات الفرح وشيوع الاطمئنان والاستقرار النفسي في ما مضى من جهة وقلق مواجهة الموت والمصائر المؤجلة من جهة أخرى .
ترتبط الشجرة في الوعي الشعري عند الرحيم دلاليا بمصائر الفرد وذبوله وترتبط أيضا بالمسافة التي يقتطعها الفرد من عمر سنينه، فهي في هذا الفهم ليست تعبيرا عن جمال الطبيعة بالمفهوم الساذج والمدرسي للكلمة بل على العكس من ذلك ترتبط تعبيريا بعمق تاريخ الإنسان وتحولاته ، ومن هنا نرى شيوعها في شعره ما يقرر ذلك المعنى حين يقول في قصيدته "قبل الخطوة الأخيرة " :-
( وحينما أوشكت أن أصل
جلست قبل الخطوة الأخيرة ،
محدقا
في الهوة السحيقة الكبيرة
وكل ما رأيت ،
شجيرة وارفة الظلال ،
في أول البداية
وبعدها
خط من الرماد ينحني ، ويلتوي
لنقطة النهاية ) 182 .
ها انه يضع الشجيرة في أول البداية تعبيرا عن بدء رحلة الإنسان وبواكير اغترابه الذي يشكل الوعي الطفولي مرتكزا لاسترجاع الذاكرة والوقوف على خراب ما آل إليه ، بينما يضع خطا للرماد بانحنائه والتوائه إلى نقطة النهاية إشارة إلى الطريق الذي خبره ومر به بفعل الصدمات الكبرى وأعباء الحياة ، ومن هنا فان البداية والنهاية تبنى على مبدأ المفارقة في طبيعة البدء والمنتهى لتشكل عمق الإحساس بمدى جدوى حضوره ، لان الهوة السحيقة تصبح منعطفا بين طريقين ، وبرزخا بين عالمين ، لا يمكن أن يكمل خطواته إلا المرور بها والوقوف متأملا بأسرارها .
وإذا كانت قصيدته " انكسار " قد انبنت على مباعدة ضمير المتكلم بالحديث عن شخص آخر ، فإنها أتاحت قدرا من المساحة الفاصلة في تأمل الفرد لذاته ومن ثم الوقوف على أسرار عزلته وانكساره مفكرا في مصير القصيدة وصعوبات ولادتها :
( رجل مخبول
يتأمل في صمتٍ أحوال الدنيا
ويريد
أن يكتب ما لم تكتبه الأسفار
ويدون أدنى الخلجات
لكن الكلمات
كانت تتصادم مثل قطيع مهتاج في درب مسدود
فيعود
منكسرا ، مخذولا دون نشيد ) الديوان : 170 .
وإذا كان الليل يقترن بالطريق فان شيوع هاجس قلق الموت في نهايات التسعينات حتى الآن في شعر عبد الرحيم ما يفسر لنا سببا آخر ، لأنه قد تعرض إلى وعكة صحة اضطر خلالها لإجراء عملية خارج البلاد ، غير أن الإحساس بالموت لا بمعناها الفسيولوجي والعضوي قد رافق تجربة الرحيم منذ بواكيرها الأولى إلا أنها لم تكن لتشيع على ما هي عليه لولا الشعور الحاد في الوصول إلى درب مسدود وفي قصيدة " من أنت " تتسع الدلالة في تحويل الموت إلى شخص يرافق الرحيم في رحلته ويصبح شبحا يلاحقه ،و يطل عليه بين حين وآخر وفيها ما يمكن إن نضع أيدينا عليه يقول :-
( سار جواري ضاحكا
ممازحا ،
وغامزا يبعثر النكات ..
وقال لي :
رحلتنا انتهت
وحان موعد الإياب ..
قلت له من أنت ؟
أجابني مبتسما : الموت ..
غاض دمي ..
وغامت الأشياء
فقال لي مهدئا مرات :
تريد أن تظل سادرا في رحلة العذاب ؟
إليك ما تريد

ثم غاب ) 217-218 .
وفي ظل هذه الهواجس يتحول الليل إلى دلالة أخرى يتصل بالموت والفناء بعد إن كان في مرحلة من مراحله الشعرية يتصل بالعزلة والوحدة والاغتراب ، انه الليل ثانية يقول في قصيدته " احياء " :-
( ما نحن ؟
ولماذا نلهث حد الإعياء ؟
ألكي نركض خلف الخوف صباح مساء
ونقعي في الليل حيارى ..
نتمنى الموت ،
ونخاف الموت ..) 197 .
وتصبح الحياة في منظوره لعبة كبرى تدرك في المنتهى ، وتتسع أطوارها حين نكبل بالهزائم والخسائر ، وفي قصيدته " اللعبة " رسم حي لمشاهد الإحساس بالموت وقلق الأفول
(وتهاويت على الشارع وحدي كومة أحجار
ساعتها قلت لنفسي أن الدنيا دارت دورتها ،
وانتهت اللعبة
كانت ومضة ..
فتهاوى الرأس على الرقبة ،
وانثنت الركبة ،
واختفت الأشجار ) 179 .
وإذا كان الإحساس بالموت يولد قلق الشعور بانقضاء الأجل ، فإن الاستبطان الذاتي يولد صورا ومشاهد لتاريخ منسي في الذاكرة تتجمع لحظة الوقوع في شباك هذه الهواجس الحادة والانفعالات المتوترة ، ومن هنا فما الذي يبتغيه الرحيم عبر هذه الرحلة الطويلة التي امتدت إلى أكثر من ربع قرن من الدخول في لجج الحياة خبرة ومعرفة ومواجهة واستسلاما ...؟؟
( كل ما ابتغيه
رحلة في سلام
أطير بها في الظلام
من ضجيج المدينة
ودوار الزحام
نحو باب السكينة ) 102- 103
ترى ما حجم مأساة الفرد حين لا تتحقق أمانيه الأخيرة ؟ ، وما حجم ما سيصاب به حين يدرك إن للقطار محطته الأخيرة ، وله بعد كل ذلك طريقه المختلف ؟ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا


.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور




.. كواليس عملها مع يحيى الفخراني.. -صباح العربية- يلتقي بالفنان


.. -بين المسرح والسياسة- عنوان الحلقة الجديدة من #عشرين_30... ل




.. الرباط تستضيف مهرجان موسيقى الجاز بمشاركة فنانين عالميين