الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آخر تقمصات كارل ماركس: إلى أين وصل باراك أوباما؟

أبو العباس ابرهام

2011 / 1 / 6
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


الأسمر النشط الخفيف المثقف الذي نافس على تسلق قمة الغول في المغارة و ترويضه، الذي شكل انتصاره مفاجأة تابعها كل العالم باهتمام و تلذذ، ماذا حل به؟ ما فعل به الله بعدها؟ آه، تقصد باراك أوباما. أوه، يمكنك أخذ انطباعك عنه من خلال أكثر الكتب السياسية بيعا هذا العام في الولايات المتحدة الأميركية. هو انطباع مخيف بالنسبة للكثيرين في هذه الدولة الرأسمالية: لقد تمت إحاطة وجهه النحيف بالشعر الكثيف من الأعلى و في الجانبين و تم غرس لحية له وإنباتها بشكل كث إلى الإسفل في الإستدارة الشهيرة لأيقون الإشتراكية الراديكالية: كارل ماركس.

في المبيعات الأفضل كان التحرق لرمي قناع ماركس على وجه أوباما يحقق رغبة لذيذة لكتاب اليمين المحافظ. عندما أشار أوباما إلى سكان المدن من الشباب في بنسلفانيا المفقرين بفعل تجاهلهم من سياسات كلينتون و بوش والذين لا يجدون ككل -فقراء العالم المهمشين- غير إعطاء أنفسهم للمخدرات و التدين، فإن المحافظ الجديد ويليام بريستول قفز عاليا إلى السطح في الفوكس النيوز ثم نزل ممسكا بالكلمة بيديه الإثنتين ليريها لكل أحد قائلا: "أرأيتم إنه ماركسي. ألم أقل لكم؟ هذه العبارة هي عبارة ماركس الشهيرة: "الدين إفيون الشعوب". ألم قل لكم؟". كان بريق الظفر واضحا في عين المحافظ العتيد.

ماذا، بحق الجحيم؟ كارل ماركس يجلس بهدوء، واضعا قدما فوق أخرى، على طاولة المكتب البيضاوي!! ماركس يحكم الولايات المتحدة الأميركية، أكبر عدو لماركس على مر العصور !! انتقام تاريخي بهذه التفاصيل الدرامية: بعد عشرين سنة من تولي "عميل رأسمالي" رئاسة الإتحاد السوفياتي وقيامه بتصفيته هاهو "عميل شيوعي" يتولى رئاسة الولايات المتحدة و يشرع في تصفية قيمها الرأسمالية و المحافظة؟. هذا هو الكاريكاتور الذي اجتهدت أحسن الكتب مبيعا في تقديمه في الأشهر الماضية.
المتذاكي بيل أورايلي أنزل للتو كتابه "الأغبياء و الوطنيون" Pinheads and Patriots، و برأيه فإن أوباما هو اشتراكي حتى أسنانه، يهدد النظام الذي قامت عليه الولايات المتحدة، و يعد بتحويلها إلى دولة اجتماعية مثل فرنسا، معاذ الله. (التعويذة ليست من عندي طبعا. هي من عند أورايلي. أما أنا، القادم من بلاد تتوق لأبسط تدخل اقتصادي من الدولة، فكنت سأضع محلها "يا ريت" المصرية، العزيزة علي جدا).

نويت جينغرتش، البرلماني اليميني الأهم منذ منتصف التسعينيات، وجد وقته الكافي ليشارك في جوقة "اشتراكية أوباما". وفي الصيف الماضي أتحفنا بكتابه المرتجف من العودة اليسارية، كتاب بعنوان موح جدا: "أن تنقذ أميركا : أن توقف ماكنة أوباما العلمانية و الإشتراكية" To Save America: Stopping Obama s Secular-Socialist Machine. يعتقد جينغرتش أن علمانية أوباما تهديد للقيم الأميركية المبنية على الهجرة الدينية و الإعتماد على الله، كما ينص إيمان الدولار الشهير. أما اشتراكيته- المتمثلة-برأي البرلماني- في إعادته للإقتصاد المتدخل في الصحة و التعليم و الدعم المالي للتشغيل- فلن تؤدي إلا إلى المركزية و بالتالي الديكتاتورية و الشمولية. خذوا بالكم: هذا ليس صوت ميزس أو حايك أو فريدمان، هذه ليست تداعيات الإقتصاد الرأسمالي في الحرب الباردة، المنجرف في الدعاية المضادة ضد دولة الخدمات. هذا كتاب مبيعات عالية بقيمة سياسية أساسا و بغرض كسب جمهور.

إن أطروحات جينغرتش ليست سوى إعادة تحريك للأفكار السائدة في أحد أكثر الكتب السياسية مبيعا في الولايات المتحدة بعد صعود أوباما، وهو كتاب اليميني المحافظ، جوناح غولدبرغ، "الليبرالية الفاشية: التاريخ السري لليسار الأميركي من موسيليني إلى سياسات التغيير" Liberal Fascism: The Secret History of the American Left, from Mussolini to The Politics of Change، و المقصود بسياسات التغيير استيقاظة اليسار العالمي الجديد و محاولته كسر الجمود السياسي المتمثل في السياسات الوسطية المتشابهة بين اليسار و اليمين منذ عشرين سنة، نتيجة الإعتناق الأهوج لإجماع واشنطن. وهو يحاول جاهدا في هذا الكتاب قلب مسلمة يمينية الفاشية و النازية إلى القول بأنهما يساريتان و أن الفاشية و الليبرالية (المصطلح الأميركي دوما لليسارية) قد تفرعتا من مصب واحد، و أن اليساريين الأميركيين، و كثير منهم في أوروبا، نظروا إلى الفاشية في بداية ظهورها على أنها حركة تقدمية. في آخر الكتاب يقوم غولدبرغ بإعادة صب أفكاره هذه في رواية ماركسية أوباما لتعادل شيئا آخر: فاشية أوباما، و اليسار عموما. من المهم أن نعلم أن منطلق الكتاب يبدأ في صرف تهمة الفاشية عن بوش و اليمين ليصل بها إلى هذا الإستنتاج.
كما نعلم فإن نقاش اشتراكية أوباما و ماركسيته المزعومة قد صار الموضوع الإنتخابي الأهم في انتخابات النيابية الماضية. وفي هذا الإطار تشكلت ردة فعل يمينية قوية، الأقوى في تاريخ أميركا القريب: حزب الشاي، الذي صار قوة راديكالية سيطرت على الحزب الجمهوري، وظهرت كقوة سياسية أساسية في المشهد النيابي الأميركي
الحالي، وتصطف الآن في الكونغرس تحت قيادة جون بوننر بدموعه الأشهر في البلاد و التي أصبحت تبلل كل مكان يلقي فيه خطابا.

كاتب آخر في قصة "نازية أوباما" هو غلين بيك الذي يواصل منذ مدة عادة نوحا رتيبا في برنامجه الإذاعي على أميركا الرأسمالية التي قتلتها اشتراكية أوباما. ولقد وصل نوحه حتى مهرجانه الكبير منذ أشهر في ساحة الناشيانال مول في ذكرى احتجاج حركة الحقوق الأهلية يوم خطاب حلم مارتن لوثر التاريخي، ولكن للمفارقة، في احتجاج على نتيجية هذه الحقوق، التي هي انتصار جيل سياسيي الحقوق المدنية المتحالف مع التقدمي و اليسار الراديكالي. ولقد قنع هذه الحجة بالتأليب اليميني الشائع: القيم الأميركية الفردية مهددة بالإشتراكية الزاحفة.

إن هذا النوع من النوح هو شائع في اليمين مع كل سيطرة ديمقراطية. فكما نعلم هم وصفوا كلينتون قديما بالإشتراكي، و أشاروا إلى جوزيف ستيغليتز في محيطه الإسشاري، ستيغليتز الإقتصادي الحائز على نوبل في الإقتصاد و المعروف بنقده الدؤوب لرأسمالية فريدمان و النيوليبرالية السائدة منذ ثنائي ريغان-تاتشر. ولكنهم أيضا تغاضوا عن نقد ستيغليتز للإشتراكية و دعوته للإقتصاد المشترك. و اكتفوا بالإشارة التقليدية لنظرية المؤامرة: هذه اشتراكية مقنعة.

الحقيقة أن اليمين المرتبط بالأحوال الإقتصادية القائمة و جزء كبير من الشعب الأميركي لم يدرك بعد عمق أزمة الرأسمالية الأميركية و لم يفهم حجم الحاجة للتغيير التي عبر عنها الأميركيون في هذا الإطار. إن ما يسمى هنا باشتراكية أوباما هو ردة الفعل الطبيعية على التغيرات الهائلة في السياسة الأميركية و العالمية منذ عشرين عاما، منذ انتصار إجماع واشنطن و الشيكاغو بويز و متعلقاتهما السياسية و الطبقية. في الحقيقة لقد تعفن النظام النيوليبرالي بعد أن لم يعد ممكنا من الناحية الإقتصادية و المنطقية بناء المال بالمال: هذا هو جوهر أزمة الرهن العقاري، حيث تبين أن ثلاثين عاما من الرخاء كانت مبنية على أساس وهمي من حركية المال بالمضاربات و استغلال الشركات العملاقة للطبقة الوسطى و تخديرها باقتصاد الديون الذي انفجر مدمرا هذه الطبقة فما تحتها. ولقد ظهر أوباما في لحظة أكبر أزمة تمر بها الرأسمالية منذ ستين عاما و تم الإلتفات إليه للإنقاذ من نظام يحتضر، بغض النظر عن قدرته على هذا الإنقاذ من عدمها.

إن ماحصل في 2008 في الولايات المتحدة هو ما حصل في أمكنة عدة من العالم في نفس الفترة و قبلها، وهو عندما تفشل السياسة في التعبير عن قطاعات هائلة من الشعب. كان أوباما هو تعبير الشرائح الهائلة -التي ظلت صامتة إلى لحظة الأزمة- عن الإستياء من السياسة السائدة التي يصوغها تحالف المال و السياسة، مجموعة من المتمصلحين من العمل العام الذين وصفهم يوما طارق علي بـ"أعضاء المكتب السياسي الرأسمالي". طوال العقدين الماضيين -و قبل ذلك حتى- قام هؤلاء بإقصاء المواطن العادي من خلال سياسات نزع التنظيم و الإنسحاب الإقتصادي و الخصخصة المحمومة. مع نهاية عصر هؤلاء الذهبي في سنوات بوش الثمانية كانت النتائج قد بلغت حدا رهيبا: وصلت نسبة البطالة إلى 15 بالمائة، وكان واضحا أن أزمة اقتصادية كبيرة قد حلت بالبلاد. تفرقعت أزمة النظام في فشله و حاجته للدفع من الخارج من خلال عمليات إدماج الشركات و البنوك الكبرى و من خلال عمليات التنفس الإصطناعي الممتمثلة في دعم الشركات المفلسة بالـBail-outs. رغم كل هذا هوت الشركات العملاقة في نهر الفشل الرأسمالي: "فاني هيل و فريدي" كانتا على رأس الغارقين في الطوفان.


قام "المكتب السياسي الرأسمالي" بإدخال بالزج في بلاده في أسوأ الحروب في العراق و أفغانستان لآنه كان في حاجة إلى وضع قدمه الإستراتيجي على الثروة. و كانت شركات السلاح والنفط في هذا المكتب على رأس الجيش الذاهب في حملة بوش الصليبية. اليوم يعرف اليمين أن انتخاب أوباما كان رد فعل على توريط السياسة بمطامع المال. الآن شاهدوا هذا: في يونيو الماضي عندما سال النفط من ديبووتر هورازون في المحيط الهادي، صرخت الصحافة اليمينية شاكية من أوباما، وقالت إنه المسؤول عن إراقة النفط وأنه يقوم بمؤامرة لضرب شركات النفط التي تشكل جوهر تدافع الإقتصاديين الجمهوريين.

لهذه الدرجة؟ أكيد.

المشكلة الآن ليست في أن أوباما اشتراكي، بل في أن اشتراكيته دون المأمول. إن ما يقدمه من اشتراكية لهو ضئيل جدا. صحيح أن إصلاحاته الآن تعني إعادة نظر في الأطروحات الإشتراكية القديمة: فرصا أكبر للعمل بفعل الإنفاق العام و ضرائب أكبر على الأغنياء (تمت إعاقة هذا مؤقتا، بفعل اليمين المنتصر في النيابيات)، وصحيح أنه أنهى التعذيب (ولو أن مازال عليه إنهاء التسليم Rendition)، وصحيح أن الرأسمالية الشريرة لم تعد قادرة الآن على رمي المرضى الذين لا يدفعون خارج المستشفيات و ذلك بفعل الإصلاح الصحي "الإشتراكي". ولكنه مازال في الحاجة إلى المزيد من الإنفاق العام الإجتماعي، ومازال في حاجة لترجمة مواقفه السلمية شفهيا في الشرق الأوسط إلى مواقف حقيقية، أما موقفه في أفغانستان والعراق فما زال إمبرياليا بشكل واضح (الحضور العسكري، الفشل في دعم الديمقراطية، تكريس نظام-الدمية). أيضا ما زال موقفه من الدور الأميركي الإنساني في العالم الثالث خجولا، و مازالت العلاقات الأميركية مع العالم تسير في نفس الفلك الإمبريالي المعتاد.

الحقيقة أن أوباما ليس اشتراكيا بل هو عائق أمام الإشتراكية. إن دوره التاريخي في سياسية الولايات المتحدة هو إطالة عمر النظام من خلال إعادة التصحيح للإقتصاد السائد بمزجه قليلا بالإقتصاد المتدخل. إن دوره هو نفس دور روزفلت في بداية الثلاثينيات في مواجهة أكبر أزمة اقتصادية عالمية في التاريخ. كان عليه أن يقوم بـ"صفقة جديدة" من أجل إنقاذ الرأسمالية. إن أوباما ليس ثوريا، ولا يهدد النظام في حياته، بل في طريقة تفكيره ليواصل نفس طريقة حياته.

هو ليس ثوريا. ولكنه تعبير عن أصوات ثورية. و للأسف فهو لم يدفع بهذه الأصوات للأمام. كان توافقيا في حكمة، وسعى دوما إلى محاولة كسب آراء المعارضين. هذا هو الخطأ الأبدي في السياسية: لا تحاول أن تكون توافقيا بقدر ما تحاول أن تعبر عن الأصوات التي أوصلتك، لأن التوافقية تعني خسران تلك الأصوات. هذا هو ماحدث في الإنتخابات النيابية. لقد خسر أوباما الأصوات الغاضبة، وأمام الغضب العنصري المضاد لم يجد كتلة تاريخية يعتمد عليها في رد هجوم "الشاي". إنه يقف الآن على ساق البطة السليم رافعا الساق المعطوب في مواجهة الأفواه الكثيرة التي تصرخ في وجهه وترميه بأوصاف الأشباح من القرن التاسع عشر: كارل ماركس، باكونين، برودون... بطبيعة الحال هو لا يمكنه تفاديها في هذه الحالة. سيحافظ على ابتسامة لا معنى لها ككبش قطع رأسه للتو، فيما الملحمة الحقيقية تمضي في نهش لحمه اللذيذ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحليل صائب يثير الاعجاب
علي الأسدي ( 2011 / 1 / 6 - 15:47 )
أخي أبا العباس
أحييك على هذا التحليل الواقعي لأزمة دولة لا ينظر اليها إلا عبر ناطحات السحاب متجاهلين اهمال تلك الدولة لمن هم دون خط الفقر أو حوله وهم بعشرات الملايين. المشكلة الاقتصادية الراهنة في أمريكا لا تكمن في نقص رأس المال، بل في سوء توزيعه ، وهو ما لم تسمح به قاعدة دعه يعمل دعه يمر المقدسة . كما أن التعصب الأعمى لهذه القاعدة جعلها في نظرهم في مرتبة الله الذي على كل شيئ قدير. وما أراد الرئيس أوباما تنفيذه هو اعادة الاعتبارلدور الدولة في حماية مواطنيها الذي تخلت عنه في ما مضى لصالح أرباب رأس المال. وما نراه اليوم من حملات ضد مشروع أوباما الداعي لدور أكبر للدولة في مجالالرعاية الصحية الا انعكاسا للهاث الرأسمال الاحتكاري للابقاء على الاستغلال الفاحش للمواطنين الذين قد يستفيدون من قانون الرعاية خالص تقديري
علي الأسدي


2 - تحليل علمي رائع
محمد عبد الله ولد احبيب ( 2011 / 1 / 6 - 18:15 )
رفيقنا ابا العباس
تحليلك رائع ومن خلا له تتضح الصورة المعبرة عن السياسة العامة لاوباما
شكرا لك علي هذا التحليل العلمي الذي يعبر اعن ثقافة صاحبه وتمسكه بمبادئه ولاغرو فقد عودتنا في موريتانيا علي مقالاتك الرائعة الواحد تلو الاخر
والي الامام


3 - تحليل رائع
فيروز بنت الشيبانى ( 2011 / 1 / 6 - 22:18 )
مقال رائع لكنه احتوى نقاطا خاطئة

اخر الافلام

.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح


.. الرئيسان الروسي والصيني يعقدان جولة محادثات ثانائية في بيجين




.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط