الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوهام ( الإقتصاد الجديد ) و ( التنمية البشرية )

منير شفيق

2002 / 8 / 5
الادارة و الاقتصاد


أوهام ( الإقتصاد الجديد ) و ( التنمية البشرية )

ليس ثمة ما هو ابلغ وأدق من التجربة العملية, والكوارث القاسية امتحان للنظريات والأنظمة ومقولات قراءة العالم ومتغيراته. ويا لقسوة الموقف الذي يجد المرء نفسه فيه حين تتدافع الوقائع (مسلسل فضائح الشركات الاميركية العولمية مثلاً) ضد كل ما كان ظنّ أنه الأفضل, أو اعتبره المستقبل, أو حسبه القدر الآتي, فلا يمتلك الشجاعة ليقول اخطأت, أو انسقت, بلا روية, وراء مقولات اميركية وغربية رسمية, ناهيك عن الاعتذار لمن ألحق بهم ضرراً, وهو يطالبهم بتبني (نظرياته), أو التكيف مع العولمة والمتغيرات الجديدة, واذا البناء الشامخ كله ينهار طبقة بعد طبقة, ولو لم تكن الطبقة السفلى متينة الاساس والجدران والسقف لأصبح الانهيار تاماً, لا وقف له, وهنا, في هذه الايام بالذات, يجب ان يُحسد أولئك الذين لا يتذكرون.

يحدث هذا, بالضبط الآن, مع من اطنبوا في تقريظ العولمة, وأشادوا بما راحت تفرزه من شركات مندمجة متعددة الجنسية متعدية الحدود, ومن سوق حرة عالمية وبورصات بأرقام ورقية خيالية و(اقتصاد جديد): اقتصاد الانترنت والتجارة الالكترونية أو (اقتصاد المعرفة) و(الدوت كوم). وقد راح بعض المحللين الاميركيين والأوروبيين يُفرّقون بين الاقتصاد الحقيقي و(الاقتصاد الجديد), غير الحقيقي, بالضرورة, لأنه بمنزلة اللعب على مائدة القمار الى حد بعيد. الأمر الذي اشاع اصطلاحاً جارحاً يرمي به اولئك الذي سحرهم الانترنت و(اقتصاد المعرفة) بتسميتهم جماعة الـ(دوت كوم).

إذا كان للرأسمالية الاميركية ان تفخر بسجلها خلال تسعينات القرن الماضي, كما يقول فرد ب. هوتشبرغ, في مقالته, في (الهيرالد تريبيون) في 26/7/2002, تحت عنوان (المشاريع الصغيرة لا تخجل من نفسها) (الصغيرة بالنسبة الى الكبرى البليونية), فليس باقتصاد البورصة والانترنت والشركات العملاقة, وانما بالمشاريع الصغيرة أو بالرأسمالية المنتجة لقيم حقيقية توجد الوظائف الجديدة وتحقق الارباح من خلال ذلك وفي اثنائه. ويورد هوتشبيرغ رقماً ذا مغزى, يتعلق بالاقتصاد الاميركي في التسعينات المنصرمة, أي في الفترة نفسها التي عرف فيها ذلك الاقتصاد نمواً محسوداً, فيقول ان 80 في المئة من النمو والوظائف الجديدة التي يرجع اليها فضل الازدهار (جاء من المشاريع الصغيرة) التي هي دون الشركات العملاقة, ومن ثم توزع العشرون في المئة الباقية على تلك الشركات كما على مشاريع البنتاغون وحكومات الولايات. والتأمل في هذا الرقم, مع عدم ابتلاعه كما هو, يظهر ان ما سجل في مصلحة شركات العولمة من ازدهار خلال التسعينات, بما فيها شركات اقتصاد (المعرفة, الرقمي, الالكتروني, الدوت كوم) كان أقرب الى كذبة كبرى, أو على الأقل, حمل كثيراً من الخداع والوهم مبتعداً عن حجمه الحقيقي. ففيما لا يملك المدراء التنفيذيون في تلك الشركات الا ان يطأطئوا رؤوسهم, ويتواروا حرجاً وخجلاً من المساءلة, فإن اصحاب المشاريع الصغيرة المنتجة (لا يخجلون من أنفسهم) ولا يحرجهم ما فعلوا.

الشركات الكبرى رمز العولمة تعصف بها الفضائح, فبعضها يواجه الافلاس, واخيريات تغذ الخطى, وقد بدأت الصرخات تعلو ليتدخل البنك المركزي وقبضة الدولة الحديد. ومَن سيُـكتب لها البقاء ستضطر للعمل ضمن شروط غير التي صاغتها نظرية رأسمالية العولمة لأنها ستكون مهددة بعقوبات تصل الى 20 سنة سجناً, لمن يتابع طريق شركات التسعينات. ومن ثم ستكون الناجيات محاصرات حتى الاختناق اذا ما نُـفّذت القوانين الجديدة الخاصة بالمراقبة والمحاسبة وشركات التدقيق. ولذا تهب رياح قوية لمصلحة اعادة الاعتبار لرأسمالية المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة دون العملاقة المعتمدة كثيراً على لعبة البورصة. وهذا يعني هزة قوية ان لم يكن زلزالاً لاقتصاد التسعينات.

إذاً أُضيف الى حالة الاضطراب الآنفة الذكر ما يحدث من ارتباك عالمي بسبب انسحاب الادارة الاميركية من أغلب الاتفاقات الدولية وسعيها الى اعادة النظر فيها, بما يفقدها صفتها العالمية لتصبح عولمية اميركية فقط. ثم هنالك الارتباك الناجم عن العودة الى الحمائية, ومثالها الجمارك الاميركية على الصلب, علماً ان هذه الحمائية لم تتوقف اصلاً (وهو ما لا يحب العولميون رؤيته أو التوقف أمامه), في حالات الدعم الزراعي وقانوني (مقاومة اغراق السوق) و(الحفز الضريبي للصادرات) لعام 1998/ 1999, حتى اصبحت اتفاقية منظمة التجارة العالمية ذات اتجاه واحد. فما يُفرض تطبيقه على بلدان العالم الثالث لا ينطبق على اميركا, وبدرجة أقل على الدول الغنية الكبرى الأخرى. بل ان اميركا في فترة انتشار الرعب من الجمرة الخبيثة (الانثراكس) وجهت طعنة حتى الى ربيبتها (المنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية) حين اتجهت الى انتاج أدوية من دون التقيد بحقوق (الملكية الفكرية) والبراءات.

وخلاصة, ثمة اضطراب عظيم يجتاح العالم, فالشركات العملاقة العولمية تخضع لعمليات جراحية خطرة جداً, وهنالك محاولة اعادة اعتبار لرأسمالية ما قبل العولمة, مع إزالة للأوهام التي صحبت ظاهرة التجارة الالكترونية التي لا تدخل في الاقتصاد الحقيقي بردّها الى حجمها وقدرها بلا تضخيم مرضي. وثمة اختراقات كبيرة لاتفاقات منظمة التجارة العالمية, والأسوأ, ذلك الخوف من انتقال أزمة البورصات الى السوق الفعلية وضربها بالركود. اما الأخطر فاتجاه ادارة
بوش الى حل المشكلات من خلال الاستراتيجية المعتمدة على الصاروخ والتدخل العسكري الى جانب الاجراءات الأمنية التي تجاوزت المكارثية بمراحل.

ولنعد الى جماعة (الدوت كوم) عندنا, ممن راحوا يركزون على المناهج المواكبة لتجارة (المعرفة) وقد رموا بعيداً بالتنمية المستقلة والمتجهة الى تحقيق النمو الزراعي والصناعي والتجاري الحقيقي, واستبدلوا بها نظرية (التنمية البشرية) و(الابداع الثقافي) من دون ان يكون في بلدانهم زراعة تحقق على الأقل الاكتفاء الذاتي, أو صناعة تلبي الحاجة المحلية, ناهيك عن الثقافة العليا بلا ثقافة دنيا. انها الخفة, بكل ما تحمله الكلمة من معنى, في معالجة ظاهرة العولمة وكيفية استجابة اقطارنا لمقولة (الاقتصاد الجديد), فضلاً عن الخضوع المذل لشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حول (الكفاءة) الادارية, ورفع الدعم عن السلع الاساسية, وبيع مشاريع القطاع العام في (سوق النخاسة) الحديث. والنتيجة استفحال الأزمات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. والمؤشّر هو الى الاسوأ ما لم يوضع حد لتلك الخفة (المندمجة) بالاستهتار, جرياً على ظاهرة اندماجات الشركات الكبرى.

وبكلمة, بعد ان يُـلحظ الوضع في أوروبا واليابان, يثبت ان الجميع (في الهمّ غرب). فمن لم تصبه الريح الصرصر التي تضرب باميركا فهي في طريقها اليه. انها الأزمة العالمية تحث الخطى, وانه عالم الحرب الاميركية عليه, عالم الفوضى والأزمات, والدوس على حقوق الشعوب والانسان. وهذه حال تنسف الكثير من التوقعات الوردية لعالم الألفية الثالثة. ومن ثم فإن عشرات المقولات التي ترعرعت في التسعينات الماضية تحتاج الى مراجعة نقدية صارمة ليُرى العالم على حقيقته, كما هو, لا كما حاول منظرو العولمة تقديمه. وهذا هو الذي يفتح باب الأمل, ويستنهض الشعوب, ويعيد التوازن الى نخب أوقعها الخداع العالمي في حباله.

الحياة (4/8/2002 )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبكات | إحباط تهريب أطنان من الذهب خارج ليبيا..


.. فرص كبيرة لتنمية التبادل التجاري العربي




.. محمد علي ياسين: غياب السلام أضاع فرص ثمينة على اقتصادات المن


.. غزة تشهد نقصا حادا في السيولة المالية بسبب تعرض البنوك للتدم




.. عرض الحرير الذهبي وحرفة النسيج القديمة في قطر