الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية- حليب التين درهم حلاوة وقنطار خشب

ابراهيم جوهر

2011 / 1 / 7
الادب والفن


حليب التين لسامية عيسى
درهم حلاوة وقنطار خشب - بقلم : إبراهيم جوهر – القدس

لقيت رواية سامية عيسى الأولى استقبالا لافتا للانتباه ، وحظيت باهتمام لم تحظ به رواية أخرى في عامها الأول الأمر الذي يضيء شمعة السؤال ( لماذا ؟ ) .
هل للغتها الشعرية دور في هذا الاهتمام ؟ أم لشخصياتها المتمردة على أجسادها الممنوعة بالصد والقمع ؟ أم للجرأة في طرق غير المألوف ؟ أم لأسلوب الغرابة ( المقززة ) في نقل رائحة المكان وأجوائه وحتى ( الكوميديا الفاصولية الغريبة ) ؟

الأدب ينتقي اللغة ذات الدلالة والفكرة الغريبة المدهشة والشخصية النموذجية المقنعة ، ويحمل رسالته في تلافيف لغته وشخصياته وأحداثه . فما الذي قدمته الكاتبة هنا لتستحق هذا الاهتمام اللافت ولم ينقض عام واحد على صدورها ؟!

إن مشروعا ثقافيا ذا سمات خاصة به يتكامل في الساحة الثقافية العربية والفلسطينية منها على وجه الخصوص لخصوصية المكان والمواطنين والقضية ، وهو يدعو إلى التغيير وفق نظرة خاصة به تغييرا ثقافيا يحمل بين جنباته رؤى ومفاهيم ودعوات جديدة . إنها ثقافة جديدة تغازل الثقافة الغربية في انفتاحها الاجتماعي بضوابطها الخاصة التي تتعارض مع الضوابط والقيم الشرقية بل تتوازى معها وتتنافر . إنه عصر العولمة الذي يؤسس لضياع الخصوصيات الثقافية هذا الذي بدأ ينتشر مؤخرا في ساحتنا الثقافية من خلال أعمال فنية وأدبية وأنشطة تربوية تهدف إلى نشر ثقافة جديدة بمواصفات خاصة غريبة عن ثقافة البلد الأصلية .

لقد لفت الانتباه الداعي إلى الاستفهام والاستغراب محاولة عدد من النقاد ومراجعي الكتب والمروجين لها الإعلاء من شأن رواية حليب التين بمقارنتها ببعض أعمال غسان كنفاني الأدبية ذات الأبعاد الفكرية والوطنية الداعية إلى تأصيل الإنسان القارىء ودفعه لاتخاذ موقف عملي وفكري مثل رائعته ( رحال في الشمس ) أو ( أم سعد ) التي أعلت من شأن المرأة كجنس أنثوي واع يعلّم الرجال الذكور بوعيه وصبره ومثابرته وحضوره وامتداده .
إن مقارنة ( صديقة ) فتاة سامية عيسى ب ( أم سعد ) فيه ظلم كبير للمرأتين معا ولغسان وللأدب .

لقد أسس غسان كنفاني لمشروعه الثقافي المقاوم تأسيسا واعيا متكاملا ذا أفق واضح المعالم ، في الوقت الذي تبدأ فيه سامية عيسى مشروعها بروايتها الأولى ( حليب التين ) وهي تتلمس خطواتها الأولى في عالم الروي الفني ، وتراجع مفاهيمها الخاصة بالمرأة الفلسطينية في المخيمات الفلسطينية ، فحملت مطرقتها اللغوية وشحذت أدواتها الفكرية وجنّدت شخصياتها الخاصة بها لتهدم ثقافة مقاومة وتسخر من واقع زائف يحمل الآلام والتناقض والفقر والحاجة ، ويوفر مادة خصبة لرواية حقيقية ذات أبعاد فكرية ولغوية ومضامين ورؤى وحلول منتمية لثقافتها الخاصة بمجتمعها لا تغادر الرسالة الوطنية – الفكرية التي يحملها الأديب في نصّه الأدبي .

لقد أمات غسان كنفاني رجاله الثلاثة الذين غادروا في الصحراء بحثا عن خلاصهم الفردي الخاص ولامهم لأنهم لم يقرعوا جدران الخزان ، وما زالت صرخته تدوي حتى اليوم ... أما ( الحل ) الذي اختارته الكاتبة في حليب التين لبطلتيها فاطمة وصديقة فهو الهجرة إلى الدنمارك بعيدا عن هموم المخيم وناسه وحماماته التي لم تعد توفّر الخصوصية الغريبة لفاطمة ( !! ) وبعيدا عن حمامات دبي الجميلة الدافئة ذات الشهوة والرغبة والانبهار ( !! ) إلى حمامات الدنمارك الواعدة بتوفير الحرية الشخصية !!

غريب هذا الحل ، بل مشبوه !!

هذا مطب فكري وطني وقعت فيه الكاتبة في روايتها ولا يشفع لها طيب النوايا كما أرى ، ولا حماستها المبالغ فيها لقضية المرأة ذات الجانب الواحد الذي اعتمدت عليه –رغم أهميته – إذ للمرأة الإنسانة قضايا أخرى أعم وأشمل من مداعبة الجسد على الطريقة المراهقة المقززة !!
أرادت الكاتبة في حليب تينها الإشارة إلى عدم وضوح الرؤية ( استنادا إلى الموروث الشعبي حول المادة البيضاء اللزجة لثمرة التين ... بعيدا عن الإيحاءات الجنسية للسائل ، وبعيدا عن الشجرة نفسها التي ورد ذكرها في القرآن الكريم مما يحاور فهما خاصا لدى الكاتبة ! )
وأشارت إلى عدم وجود خصوصية للإنسان يمارسها ويتمتع بها ، من هنا جاءت الحمامات محورا أساسيا تنطلق منه شخصياتها وتكتشف فيه ذواتها وتمارس ما تريد بعيدا عن الغرض الأساس للمكان ، كما تختبىء فيه عن العيون ، وتبكي .

لم تلتفت الكاتبة وهي في وطأة حماستها لفكرتها إلى اللامنطق الواقعي وعدم التبرير في الحدث والإقناع فنيا ، فتدفع بفاطمة المرأة الجدّة أم الشهداء ابنة الخامسة والأربعين عاما إلى ممارسة العادة التي اكتشفتها حين اكتشفت جسدها في الحمام !! يوميا فتصبح لعبة ممتعة تمارسها يوميا وكأنها تعوّض الحرمان بهذا الاكتشاف في هذا المكان ، وهي التي بإمكانها ممارسة عادتها الجديدة في بيتها .

قد يبرر التحليل الرمزي أحداث الكاتبة هنا لأنها أرادت الإشارة إلى أن المرأة لم تكتشف جسدها وذاتها إلا متأخرة ، لأن اللاجىء الفلسطيني لم يفقد وطنا فقط إنما فقد جسده وروحه وحياته بمعناها الإنساني ، وهذه فكرة جميل التعبير عنها والإشارة إليها بهدف توسيع معنى النكبة والفقد ، ولكن هذا الجمال لا يشفع للكاتبة عرجها الفني كما اتضح في الرواية .
تتحمس الكاتبة للجدة فاطمة أم الشهداء فتهوي بها من مكانتها المقدسة التي اعتادت عليها الذائقة العربية إلى الحضيض ، حضيض الحمامات المزكمة للأنوف ، وحضيض الممارسة التي تورث ألما نفسيا للمراهقين حين يكتشفون أجسادهم للمرة الأولى . فأم الشهداء وهي تكتشف اكتشافها المبهر وتتأوه بصوت مسموع أثار ( ركاد ) (( للاسم هنا دلالة الركود الذي أرادت الكاتبة تحريكه ونسفه )) مسؤول اللجنة الشعبية في المخيم رمز القيادة الفاسدة غير المؤتمنة التي تمارس عكس ما تقول ، وتظهر بمظهر خارجي حازم عكس واقعها المأزوم المتمفصل فلا يجد في النهاية هذا القائد حلا سوى هدم حمامات المخيم وهو يصيح متهما النساء بأنهن أساس البلاء وأن المخيم لمم ! فيصادر بهذا العمل الغريب مكان متعة والدة الشهداء الوحيد انتقاما من عشيقها الخمسيني .

حليب التين رواية أفكار غير معبّر عنها فنيا ، أسقطت فيها الكاتبة رؤاها الثقافية التغريبية على واقع له خصوصيته الثقافية وقيمه الاجتماعية رغم ما فيه من فساد وفاسدين وسلبيات مجسدة على شكل أشخاص ومفاهيم وأحداث يجب انتقادها وتغييرها بلغة أدبية بعيدة عن الإسفاف والمباشرة المقززة التي استخدمتها الكاتبة ، وبأشخاص يمثلون شبكة العلاقات القائمة ونماذجها الاجتماعية التي لم تقترب منها شخصيات سامية عيسى في حليب تينها .
لقد وجدنا أشخاصا لم تقترب الكاتبة منهم ، وأحداثا باهتة أشارت إليها من بعيد ، ولغة تقريرية سريعة مخلة بالسياق العام للغة الرواية نفسها التي توسدت لغة الشعر والوصف والإبهار في مقاطع كثيرة من أحداثها .
وفي الوقت الذي أعلت فيه الكاتبة من نماذج بعينها فإنها قد غيّبت نماذج أخرى صادقة وشريفة تمثّل الوجه الأخر الذي ألمحت إليه إلماحا وهي تستذكر ما قاله محمود درويش عن الثلج الأسود إذ إن لكل شيء وجهين ،والعمل حين يتصدى لمسألة شائكة بهذا العمق والاتساع مطالب بهذا لأنه مسؤولية أولا وإسهام في التثقيف والتوجيه والنقد والهدم والبناء .

لقد أعلت الكاتبة من نموذجيها الأنثويين انتصارا لقضية المرأة كما شخصتها هي بنفسها وما درت أن هذين النموذجين يمسّان مكانة المرأة الفلسطينية على وجه الخصوص لأن النماذج الإيجابية الفاعلة ما زالت تتقدم الساحة والمساحة بعيدا عن التخطيطات الغربية الغريبة ، ولعلها بهذا الرسم لشخصياتها قد مهدت الطريق لحلّها العاجز الذي لم تجد له من سبيل سوى دفعهما إلى الهجرة بعيدا عن المخيم وركاد وأبو طارق ودبي ، وبعيدا عن الوطن نفسه ، بحثا عن خصوصيتهما في حمامات كوبنهاجن !!

تمثّلت حلول الكاتبة في الرواية بهجرة الوطن / مكان العيش ، وبالإصرار على اكتشاف الجسد وممارسة لذته الخاصة بأسلوب خاص ، ومن ثم مسايرة ما خطط لجسد ( صديقة ) من نوال في دبي التي استدرجت للعمل هناك ففوجئت بطبيعة العمل المشبوهة التي تصادر روحها وخصوصيتها وإرادتها واحترامها ،فتتحول عاهرة تجتني المال ، لتجد نفسها وقد ارتضت عملها الجديد لتعيش وترسل المال لأبنائها وحماتها وكأنها تنتقم من ذاتها وقد استمرأت هذا الانتقام مما أتاح لها العيش في بناية ذات خصوصية توفر لها التمتع بحياتها الخاصة التي تسعى الكاتبة جادة وهي تركّز عليها وتجعل منها منطلقا لأحداثها وأفكارها . لقد توفر الحمام الخاص الذي صار قصرا في العمارة في دبي وتحققت الخصوصية والحياة مقارنة مع حمام المخيم القذر والتلصص والكبت ، ولكن هذا كله لم يقنع بطلة الكاتبة ( زوجة الشهيد ) فتقرر السفر إلى الدنمارك للعمل في شركة مراحيض !!

سامية عيسى في حليب التين أرادت الإشارة إلى النفس والجسد وحق الحياة ، ونوت الإشارة إلى الغربة الاجتماعية والسياسية ، وإلى تحطّم الأحلام وضياعها . أرادت انتقاد الواقع بمكوّناته المتعددة ، ولكنها من الناحية الفنية لم تقدم ما يقوم بهذه المهمة النبيلة الصعبة لأنها اختارت النظر من شق ضيق إلى هذا الواقع الموّار بالحركة والتباين ، هو الشق نفسه الذي أوجدته في الحمام العمومي لركاد في المخيم .

هذه رواية ذات لغة جميلة وإن لم تعتن الكاتبة بها حتى النهاية ، وذات أفكار تصلح للبحث والنقاش والتوظيف ، وذات شخصيات غير مقنعة وأحداث مفتعلة .
لقد تسرعت الكاتبة في دفع مخطوطتها إلى المطبعة وكان من الأولى لها التريث والمعاودة والمراجعة والعمل على سدّ الثغرات الفنية الكثيرة والاهتمام بالرسالة التي ترسلها ، فكل عمل يحمل رسالته ، ولكن رسالتها هنا جاءت برائحة مقززة أكثرت الكاتبة من أشاعتها في روايتها ذات القسمين ؛ قسم فاطمة وحمامات المخيم ، وقسم صديقة وحمامات دبي النظيفة .
الكاتبة نوت الانتصار لقضية المرأة ، فبدأت بتحطيم اللغة السائدة والقيم الناجزة ، فكانت تخبط خبط عشواء ( الناقة العمياء ) وقليلا ما أصابت ، ولكنها دمرت مكانة المرأة الفلسطينية نفسها من حيث أرادت الدفاع عنها .
لقد غابت نماذج المرأة المتمثلة في الشهيدات وفي ( أم سعد ) وتسيّدت نماذج غريبة غير سوية .
حليب التين هنا أشبه ما تكون بالخروب ؛ درهم حلاوة وقنطار خشب .

_________________________
صدرت الرواية عن دار الآداب في بيروت عام 2010 وجاءت في 214 صفحة .
ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع التي نقشت الرواية يوم الخميس 6 /1 / 2011 م.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز


.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال




.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا