الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مديح القصة القصيرة

سعد محمد رحيم

2011 / 1 / 11
الادب والفن


شرعت بقراءة الروايات قبل أن أتعرّف على العالم الساحر للقصة القصيرة. كان ذلك في مطلع سبعينيات القرن الماضي. وكنت قد قرأت عدداً لا بأس به من قصص المغامرات ( شرلوك هولمز وأرسين لوبين ) أولاً، ومن ثم بعض روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس حتى وقعت، بناءً على نصيحة صديق، على مجموعة ( بيت سيء السمعة ) لنجيب محفوظ.. هنا اكتشفت منبعاً للمتعة والجمال لا يُضاهى. ومنذ ذلك الوقت صرت أنظر إلى القصة القصيرة بعدِّها واحدة من أرقى الفنون على الإطلاق. وكان ذلك مبتدأ حلمي في أن أصبح، يوماً ما، قاصاً.
أن تخوض في حقل السرد هو أن تقتنص.. أن تجيد فن الاقتناص.. يتفكك العالم إلى عدد هائل من الشذرات، وكل شذرة هي طريدة تتحدى مهارة ذلك القنّاص السارد.. هذه الشذرات هي أشياء العالم؛ أمكنته وأزمنته وموجوداته وكائناته الحيّة وغير الحيّة، وحركته الدائبة التي لا تستكين. وأن تكتب القصة القصيرة هو أن تتقن فن اقتناص شذرة من تكوين العالم.. شذرة عليك أن تصقلها، تعيد صياغتها وإنتاجها.. أن تحوِّلها من حالتها الخام إلى تحفة فنية.
العالم ليس متماسكاً كفاية، إنه مجموعة لا نهائية من الأجزاء والوقائع التي تترابط وتتنافر، تتوازى وتتناظر، تتآزر وتتصارع لتشكِّل، في النهاية، حكاية الوجود الإنساني، والتي هي، في حقيقة الأمر، حكايات. فليست الحياة الإنسانية رواية واحدة ذات حبكة كثيفة وصلبة، بل مجموعة لا عدَّ لها من القصص. وكل قصة يمكن أن تُحكى، وأكثر ما يتوارثه البشر هو القصص كما لو أنها السر في بقائهم واستمرارهم. والأفراد كلهم بدرجات متفاوتة قادرون على سرد القصص؛ أن يحكي بعضهم لبعض قصصاً. لكن ما يعنينا هو كيف نخلق من حكاية ما قصة، أي أن نحوِّلها إلى فن قصصي. كيف نطوِّع اللغة من أجل أن نجعل من قصة ما قطعة جمالية.
القصة تشكيل، فهي إذن فن. والقصة رؤية فهي إذن موقف من الحياة والوجود. وكل قصة محاولة لإعادة صياغة شيء عابر وبلورته في صورة حيّة، تدوم أبداً. والقصة صنيعة خيال، لكنه الخيال الخلاّق المتعاشق مع الواقع، والمتجاوز له. ففي القصص نمنح معنى لوجودنا في العالم، ونعيد الاعتبار للإنسان جاعلين منه قيمة عليا. كان السرد القصصي هو الابتكار الأذكى والأنجع لمواجهة أسئلة الإنسان الكبرى ورعب الوجود. وبدا أن الحياة لا تُطاق ما لم نمتلك القدرة على أن نسرد القصص لبعضنا بعضاً. وأظن أنه ما كان بالإمكان أن تقوم للحضارة قائمة لولا هذه القدرة على سرد القصص.
قد أكون أتحدث عن القصص عموماً، غير أن ما يضغط على ذهني في هذه اللحظة هو الغيرة على ( القصة القصيرة ). فهناك من يدّعي بأن فن القصة القصيرة قد مات أو يكاد، وأن العصر هو عصر الرواية، وطبعاً مع وجود من ينعي هذا العصر الأخير أيضاً. كيف يمكننا الإقرار بمثل هذه النهاية التراجيدية للقصة القصيرة؟ ومن يستطيع أن يأتي بالمسوِّغات لمثل هذا الإدعاء الفج. فما دام هناك من يكتبون القصص الجيدة، وما دام هناك متلقين، في أنحاء العالم كله، يقرأونها بشغف وانبهار فإن القصة القصيرة ستبقى من فنون هذا العصر والعصور التالية.
إن قصصاً من طراز عنبر رقم 6 لتشيخوف والكلب لفوكنر وثلوج كليمنجارو لهمنغواي وأحلام الناي لهرمان هيسه والنداهة ليوسف إدريس ومنزل النساء لمحمد خضير وحيرة سيدة عجوز لمهدي عيسى الصقر وسدوم لفرج ياسين ودنيا الله لنجيب محفوظ، وغيرها آلاف، ستبقى مقروءة لمدة طويلة قادمة بعدِّها من روائع التراث الأدبي الإنساني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقالة جميلة جدا
حوا بطواش ( 2011 / 1 / 11 - 16:36 )
الاستاذ سعد محمد رحيم
كلما ارى لك قصة او مقالة على هذا الموقع تنجذب عيناي اليها في الحال، اقرأها بتمعن كتلميذة تصغي لاستاذها جيدا كي تنجح في الاختبار.
وانا مستمرة في قراءة كل كتاباتك السابقة التي فاتتني في هذا الموقع.
اعجبني حين قلت: (القصة صنيعة خيال، لكنه الخيال الخلاّق المتعاشق مع الواقع، والمتجاوز له)
دام قلمك استاذي الكريم
ودمت بخير


2 - وتعليق أجمل
سعد محمد رحيم ( 2011 / 1 / 16 - 16:28 )
شكراً لك حوا.. أشكر ثقتك ولا شك أن تعليقك الجميل يشرفني وأنا سعيد لأنك تتابعين
كتاباتي


3 - جميلة وقصيرة
رياض الأسدي ( 2011 / 1 / 19 - 14:31 )
مقالة جميلة لكنها قصيرة ربما يمكنك يا صديقي العمل عليها ثانية لتعميقها.. تحياتي


4 - شكرا
سعد محمد رحيم ( 2011 / 1 / 25 - 14:20 )
شكرا صديقي رياض الأسدي وأنت على حق في ملاحظتك، والحقيقة أن المقالة مكتوبة كعمود في ملحق أوراق بجريدة المدى، وفعلا يمكن توسيعها فالموضوعة ثرية وبحاجة إلى إغناء أكثر
تحياتي

اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي