الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مديح - نساء حسن سليمان -

هويدا صالح

2011 / 1 / 12
الادب والفن


" خارج النافذة ظلام تام ، وعتمة تغطي الخلفية ،بينما الضوء الذي تواجهه ، يغمر الوجه ويحدد الملامح ، ويضيئ آلة العود . لا حاجة إلى العالم الخارجي ، والكون كله ينبع من تلك الآلة الصغيرة التي تمسك بها ، حيث الموسيقى هي معنى الأشياء " .
بهذه اللغة تتأمل عبلة الرويني عالم الفنان حسن سليمان في معرضه الأخير : " نساء القاهرة " بهذه اللغة التي تقف على تخوم الشعر ، وتقيم عالما سرديا موازيا قدمت لنا عبلة الرويني كتابها الجديد الصادر عن النجلس الأعلى للثقافة المصرية : " نساء حسن سليمان " .
يعتبر حسن سليمان ظاهرة في الإبداع المصري المعاصر ،فلوحاته التعبيرية وتأثيرها الدرامي تتميز بالتنوع والثراء ،فالفن عنده تأمل واستبطان ، ومحاولة القبض على الروح ، و للإمساك بالشكل ، فلا تقبض فرشاته إلا على ظلال، تقوى حينا وتبهت أحيانا لتترك على السطح أثرا من روح عاشت في الظل بعد أن أعياها الإمساك بخامة العالم ومادته
تتعانق في أعماله الأصالة مع الحداثة ،وتنصهر فيها الأضواء والظلال ، تتجاور وتتحاور ، جدلية تصطخب في صمت ، كائنات تضطرم فيها الألوان النارية التي يغطيها الفنان بالرمادي ليعطيها العمق .
يستمد أعماله من القاهرة القديمة حيث نشتم روائح التاريخ والظلال التي تنعكس على الدروب والحارات التي تتألق بالسحر ،فيضفي عليها الفنان أبعادا من الرهافة والسكون ، يصورها في ظلال قاتمة واضواء ساطعة وهدوء وصفاء ينعكسان على وجوه النساء ، نساء حسن سليمان أو نساء القاهرة

تخرج سليمان من الفنون الجميلة بالقاهرة عام ١٩٥١ وأكمل دراساته العليا في أكاديمية بريرا بميلانو ١٩٦٦ واشتغل مدرسا بمعهد السينما وكلية الفنون، كما شغل منصب أستاذ الدراسات العليا في جامعة بلاكسبورج بولاية فرجينيا. وفي مرسمه، تخرج عدد كبير من الفنانين المصريين المعروفين. وكان قد أشرف على إخراج وتحرير قسم الفنون في مجلتي "المجلة" و "الكاتب" . وله كتاب "حرية الفنان" الذي يشي عنوانه بتلك الرغبة الأصيلة التي تملكته ليعلن للعالم رصيد تأملاته وخواطره التي شغلته وانشغل بها سواء على قماشة الرسم أم على منسوجة الوجود بشكل عام.

وربما كل ما سبق هو الذي دفع الناقدة عبلة الرويني لتنشغل به وتتأمل عالمه ، عالم يقف على حافة الجنون ، ويتاخم الجمال بظلاله وأنواره .
من يقرأ كتاب عبلة الرويني يدرك تماما أنها وقعت في فخ الجمال الحي والطبيعة الصامتة ، فكما عرفنا منها تعرفت على عالمه أول ما وقعت عيناها على لوحات الطبيعة الصامتة الفخارية التي عرضها في معرض في الهناجر ، توقفت أمام اللوحات متأملة ، اللوحات التي أمسكت بتلابيبها تماما ، وقررت لحظتها أن تنداح مع هذا العالم وتختبره ، تختبر ظله ونوره ، وتقرأ لوحاته قراءة ثقافية ، وتكتب نصا موازيا يليق بمعرض : " نساء القاهرة " الذي أقيم بقاعة الهناجر والذي كان يضم أكثر من خمسين لوحة في فن البورتريه لنساء في حالات من الحركة والسكون ، نساء قد تواجهك بطلتها المغوية أو رفعة ذراعيها لتتشابكا فوق رأسها ، فيظهر الصدر النافر ، أو تمد يديها لتضم خصلات شعرها ،فتبين تقاسيم الظهر من وراء ظلال الرمادي . مشاهد لنساء عرف كيف يُظهر أرواحهن من خلال الثنيات والتعاريج وانعكاس الضوء وظلال الألوان .
التأمل في لوحات حسن سليمان، سواء كانت طبيعة صامتة ، أم طبيعة حية ، يعادل النظر في اللانهائية ، فالشكل يصبح ظلا والظل يصير شكلا، وكلاهما، الشكل والظل، يتماهيان مع الرمادي الساحر . ورغم استخدامه للألوان النارية إلا أنه يخاتل نارية الألوان ويطفئها قليلا بطبقات من الرمادي ، فتطفر الشاعرية والصوفية من لوحاته ، هو أقرب للصوفي الذي رأي في جسد المرأة عالما صاخبا يضج بالحياة ، لكنه ورغم اشتغاله على جسد المرأة إلا أنه أفلت من غواية الجسدانية والإثارة ، فهو لم يقدم لنا نساء مغويات وصاخبات ، بقدر ما قدم لنا نساء تنفلت أرواحهن وتشاكس العين ، وتحاورها ، هل تظهر الرواح من خلف طبقات الألوان حقا أم هو خداع بصري أجاده الفنان ؟
تقول الرويني في نصها الموازي ، وهي تتحدث عن زيارتها الأولى لمرسم الفنان ، ورؤيتها للضوء واللون وهما يتحاوران : " للضوء خصوصية في غرفة الرسام ، لعلها المرة الأولى التي أرى فيها الضوء بكل هذه الكثافة ، وبكل هذا الحضور ،كدت ألامس درجاته ، وأتابع ظلاله ،بدرجة أدهشتني ،كيف يتكاثر الضوء في تلك المساحة الصغيرة جدا ؟! كيف بالإمكان الإمساك بإيقاعاته وإدراك تدرجاتها ؟!
كانت أشعة الشمس تغطي الغرفة بلون ذهبي ،بينما بضعة ظلال داكنة بنية اللون تغطي الأواني النحاسية المنتشرة على جانبي الغرفة ، وحين أغلق الشرفة ، كان الضوء القادم من الفتحات الضيقة للشباك الخشبي ، يمنح الغرفة ضوءا رماديا بظلال صفراء بينما الأبيض المشع من المصباح الفلورسنت ، يحتل مساحة صغيرة فوق اللوحة"
تتابع الرويني في لغة شعرية مكثفة جدلية الحضور والغياب بين اللون والضوء ، ليس في لوحات سليمان ، بل حتى في مرسمه ، ألم اقل أنها تكتب نصا موازيا لمعرض " نساء القاهرة " : " رحت أتابع امتدادات الضوء واشتقاقات اللون والظل فوق اللوحة وفي الغرفة بأكملها ، لعبة مدهشة ، ذكرتني بمرايا الأطفال العاكسة للضوء فوق الحيطان وفوق وجوه الناس ، وملاحقة الفراشات ومحاولة اصطيادها ، كانت مطاردة الضوء والوعي به ، تفتح نوافذ الطفولة ، وبواكير الدهشة ، لعبة الضوء والعتمة ، لعبة تبادل المواقع والمؤثرات لمشاهدة الآخر والبحث عن كينونته "
وكأن الكاتبة حينما قررت أن تكتب ذلك الكتاب ، لم تكتف بتأمل لوحاته ، بل جلست أمامه تتأمل علاقته بالألوان وخلطها ووضعها على اللوحة تقول : " يمر بالرمادي فوق الأزرق ، ويضيف طبقة أخرى من الأزرق فوق الأزرق داخل اللوحة ، ليس لدى حسن سليمان لون صريح ، إنه يكره الفجاجة وصراع الألوان الحاد ، ذلك الصراع المجاني بلا طائل ،ليس بالإمكان رؤية ألوانه تماما ، يلتصق اللون باللون الآخر الذي يكاد يشبهه . وهناك دائما لون وراء لون ، أو لون أمام لون ، إنه العمق برى ما لا تراه العين العادية ،فمع برودة زرقة سواد الليل ، يمكنه ملاحقة دفء حمرة قرمزية غريبة ، أو اخضرار ، أو اصفرار ، يراه في نسيج اللون الأزرق نفسه "
ألم أقل منذ قليل أن حسن سليمان يطفئ نارية الألوان بالرمادي المحبب ، وأنه صوفي عاشق يخجل أن يبوح بسره ، ويرى أن كتم الوجد والشوق أفضل من الإفصاح عنه ، فالصوفي الحق لا يبوح بالحال ، بل يكتمه ، ويبغي من ورا ذلك درجة من درجات الترقي ، وها هي الرويني تؤكد على ذات الفكرة فتقول : " يستخدم الألوان الساخنة ، الأحمر ، الأزرق ، والأخضر ، والأصفر ، والبرتقالي ، لكن بعد أن يدخلها في نسيجه الخاص وإيقاعه وروحه ولا يبوح بها أو يفصح عنها ؛للإفصاح معنى عاطفي يتجنبه تماما ، وللإفصاح ايضا وظيفة ،بينما يحرص دائما طوال تجربته على هدم وظيفة الرمزية للون ، بأي شكل من الأشكال ، هكذا يختبئ اللون لديه ، يمتزج بعناصر متعددة ، في تركيبة مدهشة يخفيها داخل روحه ، تماما كصوفي لا يحب أن يفضح علاماته ويبوح عن نفسه " .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ، هل صوفي بدرجة فنان أو فنان بأحوال صوفي ينشغل طوال الوقت بجسد المرأة ؟ مع ذلك الحضور الطاغي للمرأة في لوحاته ، حتى المعرض تحت عنوان : " نساء القاهرة " والكتاب تحت عنوان : " نساء حسن سليمان " هل يتناسب ذلك والحس الصوفي الوجداني الذي اشرنا إليه ؟ !
تبرر الرويني موقفه من المرأة بما يتفق بذلك الشعور الوجداني الذي ينتقل للقارئ وهو يتأمل اللوحات حتى وإن كانت لسنا عاريات فتقول : " عند حسن سليمان الموديل وجهة نظر ، إنه يرسم رأيه في المرأة ، في المجتمع ، في الحضارة ، ومثلما تمنحه الروح والإحساس ، يمنحها الكمال والاكتمال ، إنه يصحح الطبيعة بالطبيعة ذاتها ، ويصحح النقص في حالتها بحالتها الأقرب إلى الكمال ، إنه البحث مرة أخرى عن " الجمال المثالي " القادر على تمييز النقائص والشوائب والتشوهات في الأشياء من صورها العامة ، واستخلاص فكرة مجردة من أشكالها ، تكون أكثر كمالا من الشكل الأصلي ، وهي صفة غالبة في التقاليد الكلاسيكية حيث للجمال قانون أو نموذج نمطي يُرضي العقل في تطلّبه للكمال ، وحيث " الشئ الناقص قبيح بقدر نقصه " كما يرى سان توماس الأكويني " .
وهكذا رأينا كيف أفلحت عبلة الرويني في أن تُنهض نصها الخاص الذي يتماس مع لوحات حسن سليمان في كتابها البديع : " نساء حسن سليمان " وتقدم لنا قراءة واعية لفنان إشكالي عرف كيف يقبض على الجمر والثلج والنور والنار في آن .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأردن يتراجع 6 مراتب في اختبار إتقان اللغة الإنكليزية للعام


.. نابر سعودية وخليجية وعربية كرمت الأمير الشاعر بدر بن عبد الم




.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع