الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرسالة الثانية ما بعد الفطنه عن إسرائيل

مصطفى الحاج صالح

2011 / 1 / 12
الادب والفن


انتفاء السرطان من الجسم يعني بالقطع الصحة والعافية وإسرائيل كما كنت أراها وما زلت، سرطان وهذا الرأي لا ينبع من رؤية قومية لا أمتلكها ولا من رؤية دينية لا أرغب في حملها، يمكن القول دونما لعثمة أو تلكؤ، من دون تردد أو حسابات مستقبلية أنّ اعتراضي على وجود اسرائيل ينبع من مصلحتي الشخصية كمواطن، كإنسان. إنسان لم يعش حياة طبيعية كما يفترض بالإنسان أنْ يعيشها والرأي عندي، مذ بلغت الإدراك وسن الفهم ، بالسؤال والمشاهدة، يرتكز على أنّ الإنسان يأتي إلى هذه الحياة، كي يعيش ويحيا في أمن وسلام، كي يتمتع بمتع الدنيا المختلفة والمتاحة في الحد الأدنى، وفق قوانين الطبيعة ونـُظم الجسد، وهذا لم يحدث لي، لم يقع ولست المحروم الوحيد في أرض وبلاد ما انفكت تعاني من الحروب بأشكالها المختلفة ومن الطغيان والألغاء ، على صـُعدٍ عامة وجزئية. لم أكن آمنا في أي لحظة من لحظات حياتي، لم أشعر شعور الأمان الذي يتيح لآدميتي { ولست الوحيد} بالتفتح بحيث أدرك معنى السلام وقيمته.

عشت معظم حياتي خائفا حزينا مكتئبا، لم أشعر بالشبع ولا أدري كيف يكون . سمعت الكثير عن المتع وما زلت إلى الآن لا أعرف ما إذا كان ما أشعر به أحيانا هو متعة أم شيء آخر، سواء تعلق الأمر بالطعام أو الشراب، الجنس أو اللعب ، القراءة والكتابة ، ولست الوحيد ..! أم هذه بديهية؟. معظم العرب الفقراء المحرمون الهامشيون يشعرون مثلما أشعر ، وأعتقد أنّ ملايينا منهم يدركون ما أدركه، يدركون أنّ هذا الوجود المصطنع والعدواني هو السبب في مآسيهم وفي فقرهم وفي إحساسهم المستمر بالإحباط واليأس والهزيمة ، وسنستعرض في إطار عرض الفطنة هذا كيف أدى وجود إسرائيل في منطقتنا و سط بلداننا إلى هذه الحال المزرية، والأمر لا يتعلق بالوجود بحد ذاته بل بالدور المسنود إلى هذا الوجود وهو دور المـُعطل المـُخيف . وجود إسرائيل هو السبب في قيام الحروب والويلات في منطقتنا، وهو السبب في قيام أنظمة الاستبداد وفي دوامها وإسرائيل بصفتها الحارس الأول للنفط هي السبب في تشوه وعينا وفي انحراف أمزجتنا ، وهي السبب في كآبتي وفي عجزي عن الاستمتاع بالحياة فمن سوء حظي وحظ أبناء جيلي أننا ولدنا بعد النكبة، قبل اختلاف الوعي وتبدل مسالكه وحمولاته، قبل تشظي هذا الأخير وانقسامه شيعا وطوائفا.

القد وم إلى الحياة في هذا التوقيت الواقع بين النكبة من جهة واجتياح إسرائيل للبنان، يعني من بين ما يعني حمولات عالية من القيم الثورية، قيم تراوحت بين بعد قومي توحيدي وبعد اشتراكي يطمح إلى ما وراء العدل، إلى المساواة التامة، وليس المتعلمون من امتلك ضميرا شقيا وإحساسا عاليا بالظلم والمهانة ، فضمائر الجمهرة لم تكن أقل شقاء وتعاسة ولم يكن أحساسها بالهزائم والنكبات أقل درجة من إحساس "القـُراء الكـُتاب"، فإحساس والدتي، على سبيل المثال، بوقع الهزيمة لم يكن يقل من إحساس والدي" القارئ الكاتب"، فلما سمعت بالهزيمة لطمت وجهها وراحت تخمشة وهي تبكي بكاءا مريرا، بكاء لم أرى في مثل مرارته وحرقته إلا عندما اعتقل ( ياسين) في عام 1980، بعد سبعة عشر عاما من ندب الهزيمة.

ندبتْ نساء القرية الهزيمة كما يندبن ميتا وكان الرجال قلقون خائفون لا يكادون يستقرون في مكان، تارة يخبطون الأرض بأقدامهم كما لو أنهم يريدونها أنْ تنشق وتبتلعهم وتارة أخرى يضربون كفا بكف وهم يحوقلون ، ذلك ما ارتسم في ذهني ولم يزل راسخا عنيدا ، وكنت يومها في الثانية عشر من عمري ..

ولدتُ في عام 1955، عام انعقاد مؤتمر ( باندونغ)، بعد سبع سنوات من النكبة، في قرية صغيرة تبعد كثيرا عن فلسطين، ولم تكن زراعة القطن منتشرة آنذاك، ولم تكن الاشتراكية مدرجة على جدوال الهرج في القرية ، أما اليهود ـ على حد علمي ـ فلم يكونوا أعداء للعرب، بقدر ما كانوا أعداء للرسول، أعداء متآمرون لايكفون عن الكيد والتآمر مثلهم في ذلك مثل الشيطان ذاته، والشيطان كما عرفته أو كما تكونت عنه قناعاتي المبكرة انشق عن الله وعصا أمره ، رافضا السجود لآدم وآدم هذا ذاته ما كان ليكون لولا شوق الله إلى الأنوار " المـُحمدية" التي هي أيضا سبب وجود البشر قاطبة.

في كل اسبوع، يوم الخميس ليلة الجمعة، تقام حلقة ذكر ، يـُقرأ فيها كتاب ( المولد النبوي ـ للسيد المناوي) وهذا الكتاب، كما هو صورة عن واقع التفكير وعن القناعات السائدة بخصوص أمور كثيرة ـ سنعرضها في حينه ـ يمكن اعتباره مـُشكـِل عقائدي وملهم للخيال، فبالأضافة إلى تثبيته رؤية للكون وللخلق أخذ بها كثيرون وما زالوا يأخذون، جعل لخيالات أهل " الجرن" في تلك الفترة أجنحة، ولستُ على بينة عما إذا كانت تلك الأجنحة قد انتقلت للأجيال التالية.

بين العصرين، العصر الكبرى والعصر الصغرى، تبدأ الاستعدادات للمولد أو لحلقة الذكر. تـُعـَدُ عدة المضافة وفي مقدمتها القهوة المرة ولهذا الأعداد طقس وأسلوب مميزان، يجمعان بين الموسيقى والحماس، الجهد العضلي والمهارة. تـُنحر الذبائح ويأتي المدعون تباعا ، في مقدمتهم " شيوخ المرندية" و" المرنديه" أتباع طريقة دينية صوفية تجمع بين صنوف الضرب المختلفة وقرع الدف ولهم ،آنذاك، عند الناس مكانة، يحسدون عليها، ليس بسبب استخدامهم للسيوف والدفوف فحسب بل ولصلتهم القريبة من الدوحة النبوية وهذا القرب بحد ذاته كان كافيا ليميز المرء عن الآخرين، بغض النظر عن شخصه.

لا يأتي الرجال بأسمالهم ولا تأتي النسوة منقبات ولا محجبات، يلبسون أفضل ما لديهم ، يضعون العطور ويتكحلن وما كان اللباس الأسود للنساء سائدا.

في الأعياد، كما في المناسبات السعيدة ومنها ( المولد) يأخذون زينتهم، يتصالحون، ينسون ضغائنهم ، تتسع صدورهم وتطفح وجوههم بالبشر والسلام ، فلم تكن اسرائيل حاضرة آنذاك ولم يكن القتل وجبة يومية، يتلقاها الناس عبر الإذاعات والصحف أو عبر التلفاز، وكان اليهودي إنسان من ديانة أخرى، ديانة سابقة على دعوة النبي محمد ـ صاحب المولد ـ إلى دين جديد هو الإسلام ورغم الخصومة بين النبي واليهود إلا أنّ اليهودية ظلت دينا، يتوجب على المسلمين احترامه وظل اليهودي إنسانا ، إنسانٌ حسابه عند ربه ، وعلى حد علمي لم يكن الناس يملكون مشاعر كراهية خاصة أو متميزة لليهود ، و" الجرن" القرية الصغيره المهمله من قبل حكام الأرض وحكام السماء ورغم وقوعها في مركز الأرض ، حسب معتقدات أهلها في تلك الفترة ، لم تكن متفردة في قناعاتها تجاه أهل الأديان السماوية ، كل القرى ، كل البلدات والمدن في ذاك الزمن تحمل ذات القناعات تقريبا ، كان التسامح ميزة وكانت الألفة دعوة، دعوة يدعو إليها العقلاء والوجهاء ، هي دعوة الطبيعة ، دعوة الإنسانية. المسيحي كان جارا للمسلم وليس ذميا . الذمة أو أهل الذمة شعار ومتى طبقت الشعارات، شعار فترة مضى وانقضى ، شعار أو دعوة لم يمارسا على أرض الواقع .. كانت قرانا مفتوحة، متعددة ، يسكن فيها المسيحيون إلى جانب المسلمين ، والأكراد إلى جانب العرب، فلما أراد" ميناس" المسيحي الأرمني حضور عيد المولد لم يجد أهل " الجرن" غضاضة في الأمر بل وكان معظمهم أقرب إلى البُشر ولم تـُمنع المرأة من حضور حلقات الذكر والموالد النبوية إلا في أوقات متأخرة ، عندما اكتشف غرباء قادمون من بعيد أنَ صوتها عورة . قبل الثوره الانقلابيه وقبل الهزيمة لم يكن صوتها كذلك، قطعا، كان صوتها جميلا وحماسيا، على الأخص عندما تختلط زغاريدها مع إيقاع الدفوف وهتافات التكبير.

فمن مسخ حياتنا على هذا النحو .؟ من جعل الصدور تضيق على هذا النحو ..؟ من جعلنا شيعا وطوائف ..؟ من أفقد الأعياد بهجتها وجعلها تتحول إلى طقوس وما كانت كذلك ..؟ من أفقد الموالد فرحتها وجعلها مربدة عابسة غاضبة والناس فيها يمشون على صراط مستقيم ولم تكن كذلك .. كانت الموالد تقام كل حين ، عند الولادة وعند الطهور ، عندما يحلم امرؤ بأنّه أقام مولدا وعندما ينذر نذرا ، كان المولد بهجة ومسرة وما الرسول ذاته إلا وسيلة لاستحضار الفرح والتسامح ، والناس يستحضرون من أحاديثه بل ومن القرآن ذاته اليسر والمسرة ، كانوا يقولون يسر ولا تعسر وعندما يهددهم جدي بنار حامية وقودها الناس والحجارة، يبتسمون قائلين في سرهم "ربك غفور رحيم " وهو كذلك إلى أنْ أُثقلت ضمائرهم بما لا يطيقون ، فأصبح الله منتقما جبار، أصبح غضوبا والربُ الغاضب لا يمكن أنْ يكون إلا مـُفرقا ، طائفيا، لا يختلف كثيرا عن الرؤساء والملوك ، ينزعج عند أهون سبب مثلهم وينتقم مثلهم من الفقراء والمساكين، ممن لا حول لهم ولا قوة ، يحجب عنهم المطر ، ويسلط عليهم رعاة قساة أجلاف، يسلط عليهم إسرائيل وهذه يرونها كل يوم وهي تقتل دون رادع، تقصف دون حسبان، ترتكب المجازر دون خشية، تكسر الأيدي ، تحطم الأضلاع، تجتاح البلدان، تعتقل، تعذب ، تحطم وترسم الحدود للحكام ، تمدهم بأنواع من المدد لا يعلمها إلا الله.

قبل غروب الشمس بقليل، قبل صلاة المغرب، تفتح السماء أبوابها ويطل الله من سمائه السابعة نحو" الجرن" ، يفحج ويدحج ، يشاهد استعدادات القرية الصغيرة، يرى حماس أهلها ومسرتهم، فيعجبه ما يفعلون ، تعجبه زينة النساء ، يعجبه فرح الصبية وهم يتراكضون من طرف آخر ، تعجبه مسرحيات الرجال المرتجلة في الهواء الطلق أمام المضافة، فيرسل ملائكته للمؤازرة والدعم ولابعاد الجن والشياطين من ساحة المكان كلها.

في الصيف تقام الموالد أمام المضافة على المصطبة العريضة ، في الهواء الطلق وفي الشتاء ينعقد المولد إما داخل المضافة الواسعة والمكونة من قسمين أو في بيت من الشـَعـْر ِ، ضـُرب خصيصا لهذه المناسبة وفي الرسالة الثالثة سنتولى من الذاكرة وصف تلك الليالي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الله ابن الخيبة و المغيث منها
علي ديوب ( 2011 / 1 / 16 - 02:39 )
-.. إلى أنْ أُثقلت ضمائرهم بما لا يطيقون ، فأصبح الله منتقما جبار، أصبح غضوبا والربُ الغاضب لا يمكن أنْ يكون إلا مـُفرقا ، طائفيا، لا يختلف كثيرا عن الرؤساء والملوك ، ينزعج عند أهون سبب مثلهم وينتقم مثلهم من الفقراء والمساكين، ممن لا حول لهم ولا قوة-.
لا تكفي اسرائيل سببا لبلاوينا؛ بقدر ما تصلح ذريعة لها، و حجة في ديمومتها.. بينما اغتال حكامنا حرياتنا يا صديقي.. فهل يمكن أن نشعر بالفرح و نحن نعاني مضاضة الكبت و الإهانة؟
ضمة ياسمين تونسي

اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى