الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموديل قصة قصيرة

محمد عبد الله دالي

2011 / 1 / 16
الادب والفن


ما يميز غرفة الجلوس، الطقم القديم الذي اشترته والدته منذ سنين الذي امتاز بنقوشه وزخارفه التراثية، كان يعتز بأحد مقاعده، ذو المسندين الجميلين، أما ظهر المقعد والذي كان على شكل تاج مشجر، يكسوه قماش احمر اللون مُطَعّم بخيوط ذهبية رائعة .. كان عندما يتكأ يقول كأني ملك، كانت امه تقول له:

- ماما هذا لزواجك، بعد أن تتخرج من الجامعة.
_ إن شاء الله .. وأنتِ سالمة.

لا زال يتخذ من المقعد نفسه، مكاناً للراحة، والتأمل، بعد سنين من وفاة والدته .. وهي آخر ما تبقى له، وبعد أن أخذت الحرب أباه وهو صغير كم تمنى أن يسعدها، ويحقق أملها .؟

أحرقت السيكارة أصابعه، انتبه من ذكرياته، دَفن سيكارته في المطفأة ونهضَ متوجهاً الى المرآة الصدأة المعلقة على الجدار، تأملَ وجهَهُ الشاحب عينان غائرتان، شَعرٌ لم يرَ المشط منذ أيام .. تحسس وجنتيه ، هَمس (كل هذا يهون ما دام القلب طيباً).

رجع الى مقعده .. أَشعل سيكارة ثانية، ملأ فيها رئتيه، ونفث الدخان من فمه وأنفه، أعقبها بسعال متقطع .. رفع سيكارته، مَدَّ يده .. أغمضَ احدى عينيه، نظر اليها .. كأنه يستعد لقياس شيء يريد رسمه .. كما كان يفعل في مرسم الكلية، حفزه هذا الوضع الخاص .. ضرب رأس المقعد بيده نهض متثاقلاً ... اتجه نحو مرسمه ،وبخطى متعبة ... دفع الباب، نسي أنه أغلقه منذ عام فتش أدراج مكتبته ، تراجع عن البحث ، أسعفته الذاكره انه دفع به خلق صورة والده، دس المفتاح بالباب بيد مرتجفة بصعوبة، ولف إلى مرسمه ، اندفعت رائحة الألوان والقماش والخشب المتعفنة، أثارت حواسه، تسمّر وسط المرسم، طأطأ رأسه خجلاً واحتراماً لهذا المكان الفني المقدس لديه والذي أفنى عمره فيه كانت الإضاءة لاتكفي أزاح الستائر، المغطاة بالغبار وخيوط العنكبوت، دخلت أشعة الشمس، معلنة حياة جديدة ، بدأ يدفع بعض الأغطية من بعض الأثاث واللوحات المعلقة ،كان يقف أمام لوحة ... ويعيد قراءة الذكريات التي رُسمت بها .. انتهى به المطاف إلى الحامل الخشبي الذي وضعت عليه الصورة ،وأمامه مقعد خشبي مرتفع لم تطاوعه يده ،رفع الغطاء الأبيض عنها، كل شيء على حاله ،لوحة الألوان وريشة الرسم قد جفت ، وقد انتهى عمرها الزمني ... ومطفأة السكائر، لازالت مليئة بأعقاب سكائرها العفنة استدار وهمّ بالخروج لم تسعفه قوته أن يواجه الموقف ... كاد ان يهرب من المرسم ، أثارت انتباهه زقزقة العصافير، وتغريد بلبل من خلال الشباك استدار متوجهاً إلى مصدر الصوت ،واجهته شجرة التين التي غطاها الغبار ، وجفت أغصانها ،حول نظره إلى قفصٍ من جريد النخيل قرب الشباك كان بيتاً مفتوحاً لبلبله الجميل ، لم ينسَ هذه الغرفة وهذا الشباك واليد التي كان يقف عليها يأكل منها ...
اتجه إلى الشباك ودقق النظر بالطائر الجميل، أشار إليه بيده، أقترب البلبل كانت التفاتاته سريعة، طار مغرداً ودار عدّة دورات كأنّه يحتفل بقدوم صاحبه، اقترب وقف على حافة النافذة، راقصاً ومرحباً ، وقف على كتفه، ألتفت في كل الاتجاهات وكأنه يبحث عن رفيق ثالثٍ لهم، طار إلى قفصه الخالي من الأكل والماء معاتباً حاوره قائلاً :-

- إنك لم تفهمني جيداً ، منْ كانت تحنو عليك وتداعبك وتطعمك ؟ ذهبت ولم تعد أردف قائلاً :-
- دعني اجهز بيتك من الطعام والشراب !

إن هذا المشهد، زاد من حزنه وألمه ... عاد إلى المقعد أمام تلك اللوحة أزاح الستار عنها نظفها، أزال الغبار عنها ... حتى المقعد الذي كانت تجلس عليه، طالته النظافة عادت الحياة لها .

وجه السؤال لبلبله .. سنكمل اللوحة أنا وانت، أمسك بلوحة الألوان وفرشاته، أراد ان يمزج الألوان ، شعر وهو يحاول ترتيب أدواته ان يديه لايقدران على الحركة ، وفقد القدرة على التركيز ..أمسك إطار اللوحة بكلتي يديه ... رمقها بطرف خفي خجلاً منها .. بالرغم من انها لم تكتمل .. الشعر كستنائي اللون وهلالين فوق عينين نرجسيتين ،كانت التفاتت العينين تدل على حوار ما ،كان يجري بينهما ...تحسس بيده الوجنتين اللامعتين كالورد في الربيع، كان قد أكمل الوجه القمري الساطع، اتفق معها على إكمال رسم باقي الجسم في جلسات أخرى تذكر أنها قالت له: (هل تريد ان تكملها بسنتين ؟) قال لها :-

- بودي لو لم تكن بسنه ولا بسنتين لأتمتع بهذا المنظر الجميل ،وأعيش أجمل حلم عرفته، انت كل شيء في حياتي التفت إلى الطائر الوفي قائلاً :-
- ألا ترى إني عاجز عن إكمال الرسم ... كان مصمماً على التسوق وشراء مايلزم لمرسمه محاولاً كسر هذا الحاجز النفسي الأليم .

عاد في المساء .. وألقى بنفسه على مقعده المفضل .. كانت السيكاره هي المعين الوحيد له على التفكير .. بيد انها انهكته وجعلته عاجزاً حتى عن النفس أحياناً ولكنه مدمن عليها .. أخلد إلى النوم وعدّة هواجس تلازمه .

استيقظ على صوت تغريد رفيقه ومجموعة من العصافير، معلنة يوم جديد، لملم أشياءه، وأفطر على قدح من الشاي وحبات من الزيتون، شاركه البلبل فطوره البائس، نهض مستعيناً بمقعده المفضل مصمماً على وضع اللمسات الأخيرة على الصورة، أمسك بلوحة الألوان، مزج عليها عدة ألوان وحاول ان يوازن بين اطيافها، اختلطت عليه، ماعاد يميزها بشكل جيد، عاد مة أخرى لترتيب أفكاره، رفع رأسه إلى اللوحة ،.. هل تسعفه ذاكرته ؟ وهل يسيطر على دموعه ؟ تماسك تسمرت عيناه على المقعد الخشبي المرتفع الذي كانت تجلس عليه التفت إلى البلبل وهو يقف على حامل الصورة قائلاً :-
- لايمكن ان انساها .. أبدأ تجلت أمامه وهو في قمة التأمل كأنّه في صومعة العباده، التقت روحه بروحها .. رآها صورة حيّة أمامه لاحت على وجهه ابتسامة الرضى ... سألها :-
- أيتها الحبيبة اتفقنا ان نكمل الصورة بقي الفم، والقلب، ألا تذكرين ؟ كانت يده وهو يتحدث توازن بين تدرج الألوان ركز عينيه على فمها .. وعلى تلك الرضاب الوردية .. وهي تحاوره قائلةً:-
- إنك مغرم بالعيون والشفاه ؟
- الشفاه تنقل ماتقوله العيون بصمت، ولغة العيون أبلغ وأدق تعبيراً .. العيون تملك سر الحياة ، باستطاعتها ان تنفذ إلى القلب بدون استئذان، والشفاه تنقل ما في القلب، إنكِ سر حياتي أيتها الريحانية، إنكِ ملهمتي ... يقطع تفكيره تغريد صديقه الوفي يلتفت له قائلاً :-
- ألاترى من تحبك وهي جالسة بهيبتها وجاذبيتها، يعود يضرب بفرشاته وهي تنقل الألوان إلى اللوحة، ويتحدث مع الصورة الماثلة في خياله وهو في قمة التأمل :-
- أراك تبتسمين ... لن يسرقوا البسمة من شفاهك الضاحكة المرحة حتى لو سرقوا كل الدنيا ... ستبقى شفاهك تهتف للحياة. أكمل الوجه ورسم بدقة متناهية على الجهة اليسرى من الصدر وردة الرازقي التي تحبها ... مما أوهم صديقه البلبل بمداعبتها ، بمنقاره الوردي الجميل، وهو ينظر في كل اتجاه.
يتكأ بعد تعب التأمل، وكأن الصورة تنبض بالحياة، ولاينقصها إلاّ الحديث نظر إلى صديقه .. قائلاً:-
- هذا هو ثالثنا .. هذه اليد التي كنت تقف عليها، وتأكل من أناملها يطأطأ البلبل رأسه الملون، محدقاً في الصورة، ولسان حاله يقول (لاحول ولاقوة )..!!
- أتدري ياصديقي، إنها فارقتناإلى الأبد ... عثروا على هذه الوردة التي ملأت عليَّ حياتي ... طافية في أحد الأنهر.. بعد ان سلب الظالمون أجمل وأغلى شيء لديها ..ولكنها ستبقى حيّة بيننا .. وساد بينهما صمت وهما ينظران إلى الصورة بشوقٍ وهي تبتسم للحياة !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل