الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانقلاب التونسي ومشروع المستقبل

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2011 / 1 / 16
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


إن الأحداث الكبرى عادة ما تغري العقل النظري بالتأمل والمقارنة، وذلك لما فيها من طاقة قابلة للتجسد بأشكال ومستويات مختلفة ومتباينة. إضافة الى ثقل الماضي وكمية الهزائم التي تعرضت لها الحركات الاجتماعية السياسية الكبرى في العالم العربي على امتداد قرن من الزمن، أي منذ أحداث الحرب الاستعمارية (الأوربية) الأولى عام 1914 وحتى عام 2011 في تونس.
إن الحدث التونسي الأخير قابل للانعكاس اللغوي بكلمات الثورة والانتفاضة والتمرد والعصيان والانقلاب والهبة الاجتماعية والاحتجاج المدني والهجوم الوطني العام وما شابه ذلك. لكنه من حيث مقدماته وأسلوبه وطبيعته وقواه وغايته يحتوي على كافة هذه الجوانب ويتعداها الى مدى ابعد من حيث نموذجيته الفعلية، بوصفه انقلابا سياسيا كبيرا قابلا لمختلف الإمكانات. لكنه يحتوي، حتى في حال اشد التوقعات سوداوية، على قيمة كبرى تجعل منه الحدث الأكبر للعالم العربي في بداية هذا القرن. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان الحدث التونسي هو الحدث الذي يمكنه تأسيس بداية القرن العربي ، أي تاريخه الخاص بالانتقال من نظام السلطة الى نظام الدولة، ومن حكم العائلة الى حكم القوى الاجتماعية الحية، ومن حكم القبيلة والمنطقة والجهة والإقليم الى حكم النظام الاجتماعي الحقوقي، أي من مختلف نماذج البنية التقليدية الى مشروع التأسيس الذاتي للنظام السياسي الفعال والشرعية.
انه الحدث الأولى في التاريخ العربي الحديث والمعاصر الذي ارتقى من حيث أسلوبه وغايته الأولية الى مستوى الثورة الاجتماعية الكلاسيكية. وبالتالي، فانه الحدث التاريخي السياسي والاجتماعي الأول من نوعه في التاريخ العربي الحديث.
فعندما نتأمل تاريخ الانقلابات الكبرى والصغرى العديدة التي جرت في العالم العربي، بما في ذلك في تونس، فإنها لم تتعد في أفضل أشكالها، أكثر من مؤامرات متنوعة الأشكال. الأمر الذي جعلها منذ البدء أسيرة الحصار والزوال، بوصفها مغامرات قوى هامشية أو مغامرة راديكالية. وليس مصادفة أن تتحول جميعها مع مرور الزمن الى عصابات أحزاب وعوائل وبالتالي الى دكتاتوريات فجة. وبما أن هذه الظاهرة قد عمت العالم العربي ككل، فان ذلك يعني احتواءها على قدر من "الضرورة" لعل جذورها الكبرى تقوم في طبيعة الانقطاع التاريخي الذي مس العالم العربي بعد خروج اغلب مناطقه من عالم العثمانية المتهرئ.، وخضوعه المباشر وغير المباشر من جانب الكولونيالية الأوربية. من هنا تناسخ التقليدية القديمة والراديكاليات "المحدثة" بمختلف أشكالها وأيديولوجياتها في أصناف متنوعة من مسخ "الحداثة" المزيفة. وليس مصادفة أن يؤدي هذا التصنيع الغريب لهذه الحالة الغريبة، الى ما يمكن دعوته بسيادة الزمن وانتهاك التاريخ الفعلي، أي تاريخ بناء النفس بمعاييرها وتجاربها الذاتية. ومع كل انهماك عنيف في عنف السلطة لتمرير برامج الحداثة لم يحصل غير توسيع مدى الاغتراب والخراب. مما أدى في نهاية المطاف الى ظهور ما يمكن دعوته بمرحلة الخمول الاجتماعي والسياسي والقومي ومن ثم اضمحلال وتلاشي وعي الذات الاجتماعي والقومي. لهذا لم ينتج القرن العشرين في العالم العربي غير زمن الخراب (نموذج مصر والعراق وسوريا وليبيا وتونس والسودان واليمن وأمثالها). أما البلدان "الأمينة" التي حافظت على بنيتها التقليدية (الملوكية والسلطانية والأميرية)، فإنها في أمانها كانت وما تزال في الأغلب وليدة السبيكة الخربة للغش والخداع والجريمة المنظمة ضد المصالح الكبرى للوطنية والقومية. من هنا ضعفها البنيوي وهشاشتها الفعلية أمام الاستعمار القديم والجديد، كما هو جلي في المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية، وبدرجات اقل في المملكة المغربية وسلطنات وإمارات الخليج.
والحصيلة هو إننا نعثر في التاريخ العربي الحديث على انقسام جلي بهذا الصدد بين قوى نزعت صوب التحرر فسارت ضمن سياق دكتاتوريات خشنة. وقسم ظل أمينا لعبودية قديمة بعد أن جرى ترميمها بشراء أجساد الأفراد والجماعات والإبقاء عليها بوصفها ذرات سابحة في رمال الخداع الذاتي. وذلك لأنها من حيث الجوهر بهرجة وزيف، وتقليد وأعراف لا علاقة لها بالدولة الحديثة والمجتمع الحديث والمعنى الإنساني للوجود الفردي والاجتماعي.
وبغض النظر عن الخلافات بينهما، فان ما يجمعهما هو تفريخ الزمن وتوسيع مدى الخلاف والاختلاف في كل شيء. ذلك يعني إنهما يشتركان في كونهما يعيشان في القرن العشرين والحادي والعشرين فقط، أي في زمن لا تاريخ فيه. وإذا كانت زمن القرن العشرين قد توج بنهايات وهزائم شنيعة على كافة المستويات، فانه يشير من حيث الجوهر الى أن العالم العربي مازال يعيش خارج التاريخ الفعلي، أي خارج مشاركته الفعالية في إنتاج نفسه وتقويمها مع ما يترتب عليه من تصنيع للتاريخ الذاتي والعالمي.
أما القرن الحادي والعشرين، المليء بتناقضاته الخاصة، فانه أنتج لنا حالة الاحتلال الأمريكي للعراق، أي إعادة إنتاج بداية القرن العشرين والاحتلال الأوربي للعالم العربي. وكما كان الحالة في المرة الأولى من إجهاض "للثورة العربية"، فانه قام بإجهاض "الثورة العراقية" (المرة الأولى عام 1991 والثانية عام 2003). وبالتالي لم تكن الإطاحة بالدكتاتورية الصدامية جزء من تاريخ العراق، بقدر ما كانت جزء من تاريخ الولايات المتحدة وزمنا في المسار العراقي.
وضمن هذا السياق يمكن النظر الى الانقلاب التونسي الحالي، من الناحية النظرية والعملية، على انه ثأر من طراز نوعي جديد للثورة العراقية المجهضة. وليس مصادفة أن تتحول تونس الرسمية "لقبح الفاسقين" (الاسم الفعلي لزين العابدين) الى مسرح "التضامن" مع "الشهيد صدام حسين" (الى جانب ليبيا وأمثالها من السلطات الدكتاتورية الفجة). غير أن مفارقة الظاهرة تقوم في أن تعويد الناس على "التضامن" بالآلاف يعني تدريبها على التجمع والاحتجاج ورفع الأصوات والأيادي، أي كل تلك المكونات الفنية الضرورية التي تتحول الى قوة فعالية حالما يجري إشهارها وتوجيهها بالمسار الصحيح. وهو ما حدث في بداية العام الحالي، كما لو أنها بداية سنة تونسية وعربية جدية فعلا. بل يمكنني القول، بأنه الحدث الفعلي الأكبر في التاريخ العربي الحديث الذي يمكن أن يجعل منه بداية القرن العربي الذاتي.
فللأسماء والتاريخ مكرهما الخاص. فقد أراد زين العابدين بن علي الاستهزاء بتاريخ الثورة الروحية العربية والإسلامية التي جسدها زين العابدين الفعلي، كما أصدمت صدام محاولاته الانتماء الى الحسين! وفيما لو نحينا جانبا اثر التأويل المحتمل في هذه المقارنات، فان للكلمات منطقها وأثرها في التاريخ الفعلي للأمم. فرئيس الدولة ينبغي أن يكون رأسا لا ذيلا. والوزير من يوزر الناس والأحداث وييسر أعمالها وليس من يعسر نومها ويقظتها! بينما وقفنا ونقف في حال الدكتاتورية الصدامية والزينية(!) على انقلاب في الأسماء والكلمات والمعنى. غير أن النتيجة واحدة، وهي أن السير ضد حقائق الأشياء والأسماء يؤدي بالضرورة الى الهلاك.
وإذا كان القرن العشرين قد عرف في العالم العربي أحداث اجتماعية وسياسية كبيرة مؤثرة وفعالة، فان أكثر ها ارتقاء الى مصاف النموذجية الفعلية بالنسبة للتاريخ القومي، كانت كل من حركة التحرر التي قادها جمال عبد الناصر، وحركة المقاومة التي قادها حسن نصر الله. والخلاف بينهما هو خلاف الإمكانية والمقدمات. الأولى ظلت فردية رغم جوهريتها الاجتماعية والقومية، والثانية كانت وما تزال منظومية رغم طابعها الوطني (اللبناني). من هنا اضمحلال وتلاشي الأولى وبقاء وفاعلية الثانية. وفي حال ارتقاءها الى مصاف الدولة، بمعنى اندماجها في فكرة الدولة وقيادتها، عندها ستبرز إمكانية التأسيس الواقعي للبدائل الكبرى في العالم العربي بوصفها بدائله الخاصة.
إن النقص الجوهري في العالم العربي المعاصر يقوم في فقدانه للمعاصرة الذاتية. وبالتالي، فانه مازال مفتقدا للقوة القادرة على توحيد الأبعاد القومية الجوهرية ومنظومة البديل الاجتماعي السياسي الحر. والقيمة التاريخية الكبرى للحدث التونسي تقوم لحد الآن، أو من حيث صيغته الأولية وأسلوبه، في كونه الحدث الفريد الذي يحتوي في الواقع على كل المكونات الجوهرية لتأسيس البدائل العقلانية والإنسانية.
فهو الحدث الذي لا ينبغي أن يؤرخ له بسنوات القرن العشرين والحادي والعشرين. بل من الضروري التأريخ له بما يمكن دعوته بقرن التحولات الاجتماعية السياسية الحقيقية، أي التي جرت خارج مؤامرات الجيش والأمن والاستخبارات ومقامرات الأحزاب السياسية الضيقة. انه الحدث الذي يمكن رفعه الى مصاف الحدث التأسيسي للقرن العربي الأول في تاريخه الحديث. وفي هذا يكمن مضمون وآمال الانقلاب التونسي بوصفه مشروع المستقبل.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حسن نصر الله يلتقي وفدا من حماس لبحث أوضاع غزة ومحادثات وقف


.. الإيرانيون يصوتون لحسم السباق الرئاسي بين جليلي وبزكشيان | #




.. وفد قيادي من حماس يستعرض خلال لقاء الأمين العام لحزب الله ال


.. مغاربة يجسدون مشاهد تمثيلية تحاكي معاناة الجوع في غزة




.. فوق السلطة 396 - سارة نتنياهو تقرأ الفنجان