الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مئة عام على ولادة المستشار النمساوي الراحل الدكتور برونو كرايسكي

اياد حلمي الجصاني

2011 / 1 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


رجل الدولة الذي خلده التاريخ !
كرايسكي : من هو ؟ (1/3)
اجد نفسي حائرا ولا اعرف من اين ابدأ الحديث امام هذا الكم الكبير من البرامج التي تقدمها مختلف المؤسسات ووسائل الاعلام النمساوية هذه الايام والتي تعطيني الطابع بان كرايسكي الذي تحتفل النمسا بعد ايام قلائل بذكرى مرور مئة عام على ولادته في 22 يناير عام 1911 بمدينة فيينا وهو المنحدر من عائلة يهودية من الطبقة الوسطى حيث كان والده مالكا لمعمل اقمشة ، عانت الاضطهاد للفترة ما بين الحربين العالميتين ، لم يكن من الرجال السياسيين العابرين في تاريخ هذه الامة بل واكون قد قصرت تجاه هذا الرجل الذي منحني ثقته وكرمه وانا ذلك الشاب الصغير المهاجر الى النمسا الذي لا يعرف عنه الكثير حتى بت اشعر باني بعد حين عاجز عن رد الجميل الذي منحني اياه عام 1964 بعد موافقته على قبولي كاول عراقي في الاكاديمية الدبلوماسية في فيينا وحصولي على منحة للدراسة فيها لمدة عامين على حساب الحكومة النمساوية . وساروي تفاصيل هذه الحكاية في الحلقة الثالثة من هذه الدراسة . . كرايسكي هو الرجل الذي لعب دورا غاية في الشهرة على المسرح الاوربي والدولي اثناء سنوات عمله كوزير للخارجية وكرئيس للوزراء في النمسا ، نقل هذه الدولة من المجاعة والانهيار الى مصافي الدول الكبرى في اوربا . يصفه الكتاب في مقالاتهم وتحقيقاتهم المتنوعة بانه الرجل الاسطورة او الرجل الذي نال اعجاب الجميع في النمسا ، برونو كرايسكي النجم الساطع او ملك الشمس في سماء السياسة الدولية ، لا وفي العالم كله للكاريزما اوالسحر الذي كان يتحلى به في اسلوب عمله وصراحته وشجاعته وحديثة وشخصيته الانيقة الجذابة ! انه الرجل الخالد في تاريخ النمسا الحديث . فمن هو هذا الرجل الذي وضعت له الاذاعة النمساوية والمحافل النمساوية البرامج الخاصة المتعددة على طول العام 2011 للاحتفال بالذكرى المئوية على تاريخ ولادته هذا العام ؟ نعم اجد صعوبة من اين ابدأ الحديث بعد ان قرأت كتبا عن الرجل بما فيها مؤلفاته ومذكراته الشخصية اوما كتب عنه الكثير من المؤلفين وما اخرج عنه من روايات ومسرحيات من خلال نشاط الحزب الاشتراكي النمساوي في اعداد صفحة خاصة عنه على الكومبيتر في الفيكيبيديا ، الانسكلوبيديا الحرة ، تحتوي على المقالات والبومات الصورعن تاريخ مسيرة حياته والمقابلات مع العديد من الشخصيات والندوات باشراف المنتدى الدولي للحوار الذي أُسس مباشرة بعد وفاة كرايسكي وكذلك باشراف المعهد النمساوي للسياسة الدولية اضافة الى احاديث سكرتيرته الخاصة التي لازمته العمل لسنوات طوال حتى وفاته في العاصمة النمساوية فيينا في 29 تموز1990 مع الاحاديث الخاصة والممتعة عن كرايسكي مع مديري في الاكاديمية الدبلوماسية الذي ما زال حيا يرزق . اما عن نشاط الاكاديمية الدبلوماسية التي اعاد كرايسكي افتتاحها عام 1964 بعد ان اغلقها هتلر اثناء غزوه النمسا وضمها الى الرايخ الالماني في مارس عام 1938 ، فقد قامت باعداد عدة برامج بهذه المناسبة منها برنامج كان في 11 يناير الماضي وآخر سيكون في 28 يناير يتخللهما القاء المحاضرات عن السياسة الخارجية النمساوية في اطار الحوار ما بين الشمال والجنوب وتتبع التحولات التي مرت بها الدبلوماسية النمساوية منذ ان كان كرايسكي وزيرا للخارجية النمساوية واتخاذه القرار باعادة فتح هذه الاكاديمية عام 1964 . كل هذا بالاضافة الى الحفلاات التي تقيمها مجالس البلديات في عموم النمسا والبرلمان النمساوي وافتتاح معارض للصور الفوتوغرافية والكاريكاتورية عن الرجل الذي اخُرجت عنه المسرحيات المتعددة تحت اسم النبي الاحمر واخرى باسم الماركسي المشبع بالاحاسيس او مسرحية اخرى تسميه بالنمساوي الحقيقي اوالمستشار ذو الرؤيا البعيدة والعالمية او ملك الشمس او كرايسكي العملاق ، او مترنيخ النمسا اليوم او الشيخ كرايسكي .
كان من سخريات القدر ان ينهي كرايسكي دراسته ويُمنح شهادة الدكتوراة في الحقوق في مارس 1938 اي نفس الشهر الذي اعلن فيه هتلر عن احتلال النمسا وضمها الى الرايخ الالماني . وهذا ما يذكرني باحتلال العراق للكويت عام 1990 كما ويذكرني باحتلال امريكا للعراق عام 2003 ولجوء الكثير من العراقيين الى السويد ودول اخرى بعد هذين الحدثين التاريخيين . وخصوصا بالخبر المأساوي المحزن للشاب العراقي تيمور اللاجئ في السويد الذي فجر نفسه وسط استوكهولم الشهر الماضي والذي للاسف لم يتعلم شيئا في السويد البلد العظيم الذي كرمه واحتضنه كي يصبح انسانا يليق باحترام الاخرين ويرفع من سمعة العراق التي لطخها اكثر مما كانت ملطخة بالوحل . كرايسكي خرج من السجون ولاحقه الجيستابو النازي بعد الاحتلال وتخلص بالهرب الى السويد طالبا الهجرة . وفيها تعلم ، ليس الارهاب والقتل كتيمور، بل درس الاشتراكية والديموقراطية واتقن الدرس وطبقه في النمسا عند عودته للوطن الذي حرره الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 رغم بقائه تحت الاحتلال لمدة عشر سنوات حتى نيله الحرية والاستقلال عام1955. فيا ترى هل سينال العراق حريته واستقلاله الفعلي بعد عشر سنوات من الاحتلال الامريكي ايضا ؟ .
بقي كرايسكي في السويد ثلاثة عشر عاما عمل مراسلا صحفيا ناجحا لعدة صحف في اوربا . هاجم الاتحاد السوفيتي وادان اعماله اللاانسانية اثناء الهجوم على فلندنا عام 1939 ونشط في مجال العمل الانساني بتمثيل النمسا في السويد من خلال عمله كسكرتير في احدى المؤسسات الخيرية السويدية بالاشراف والتعاون مع الصليب الاحمرعلى جمع التبرعات والمساعدات الانسانية وارسال شاحنات الاغذية الى الشعب النمساوي الجائع ضحية الحرب الطويلة . كما عمل على استقبال النمساويين النشطاء لتعلم دروس في الديموقراطية السويدية . تزوج كرايسكي ابنة مهاجر نمساوي نجح في عمله في السويد منذ عام 1908 واقام اكبر مصانع النسيج فيها . رزق كرايسكي بولد اسمه بيتر توفي في نوفمبر الماضي وببنت اسمها سوزان ولم يتقدم بالطلب كلاجئ في السويد بل بقي كمهاجر حتى لا يفقد حقه في العودة . ولم يحصل على الجنسية السويدية وعاد بجوازه النمساوي الى الوطن للمرة الاولى عام 1951 بناء على عدم موافقة الامريكان على عودته مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت باندحار النازية حيث بقي في استوكهولم دبلوماسيا في المفوضية النمساوية . واتذكر هنا كيف عاد سياسيو العراق من الخارج بعد الاحتلال الامريكي عام 2003 وهم يحملون مختلف الجنسيات الاوربية والامريكية وغيرها واصبحوا يتقاضون اضخم الرواتب في العالم كوزراء او سفراء او نواب في البرلمان العراقي اضافة الى بقاء مساعداتهم الاجتماعية التي كانوا يحصلون عليها اثناء لجؤهم الى هذه البلدان في الوقت الذي يئن فيه غالبية العراقيين من الفاقة وعدم الحصول على الخدمات اللائقة او المساعدات الاجتماعية المشًرفة او حصة لائقة من ثروتهم النفطية . عاد كرايسكي الى النمسا عام 1951 ليعمل في وزارة الخارجية ويصبح وزيرا لها ما بين 1959-1966 وليتدرج في العمل السياسي والحزبي حتى تربع على عرش الحزب الاشتراكي النمساوي ما بين 1967-1983 الذي رفعه الى اقوى واكبر شخصية وظاهرة سياسية في تاريخ النمسا ليصبح مستشارا للنمسا منذ عام 1970 وحتى عام 1983 وليُعد بحق اكبر شخصية شهرة بعد مترنيخ وزير خارجيتها ومستشارها في العهد الامبراطوري الذي لعب دورا كبيرا اثناء انعقاد مؤتمر فيينا عام 1815 ! يا ترى من من الشخصيات العراقية الحاكمة اليوم في بغداد التي عادت من المنفى مع قوات الاحتلال الامريكية تستحق اي جانب من المقارنة مع تاريخ هذا المناضل النمساوي الكبير ؟
عام 1970 انتُخب كرايسكي كاول مستشار يهودي للنمسا بعد ست سنوات من توليه وزارة الخارجية واتخذ له سكنا بالايجار في احدى مناطق فيينا . تصوروا بالايجار وسياسيونا في العراق اليوم احتلوا القصور ومنهم من نهب اموال الشعب واشترى الفلل والشقق في اوربا وامريكا وغيرها من البلدان . جاهد كرايسكي في العمل على تثبيت واصلاح الديموقراطية في المؤسسات النمساوية بدلا من الدكتاتورية التي جاء بها هتلر وكان يتبع مبدأ قال فيه لا وجود للاشتراكية دون قيام الديموقراطية . فاين منا ديموقراطية العراق المستوردة الزائفة والعاملين فيها والمتكالبين بانتهازية من اجل مصالحهم الخاصة ؟ كان هم كرايسكي الكبير هو كيف يطبق ديموقراطية الدولة الغنية السويد كنموذج في النمسا الدولة الفقيرة التي خرجت منهارة بعد الحرب حتى يجنبها مأساة الفقر والمجاعة. كان ينادي في مؤتمراته ويقول اني اريد ان اخدم النمسا تماما مثلما ارادت امبراطورة النمسا ماريا تريزا !
وسار كرايسكي في العمل على بناء المؤسسات الجديدة وتثبيت استقلال النمسا واحياء اقتصادها والسير على مبدأ الحياد وتحقيق العمل في التوصل الى معاهدة الاستقلال لانهاء الاحتلال واخراج الدول الاربع من النمسا عام1955، مع السعي لانضمام النمسا الى المنظمات الدولية بما فيها منظمة التجارة الحرة والسوق الاوربية المشتركة تمهيدا لدخولها الاتحاد الاوربي. اضف الى ذلك كله تحسين العلاقات مع الدول المجاورة ودعم افق الاستقرار في اوربا من خلال مناداته بعودة الدول الشيوعية الى طريق الديموقراطية في اوربا الغربية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي الذي انتقد كرايسكي بشدة تدخله العسكري في جيكوسلوفاكيا عام 1968 مثلما انتقد تدخله العسكري في فلندا عام 1939 سابقا . ولم ينظر كرايسكي بكراهية لاي من العاملين معه في الحقل السياسي. وكان يرفض ان يسمى بالسياسي المحترف بل يقول انه الهاوي الجديد. فكيف لا تمجد النمسا شخصا مثل كرايسكي ؟ ومن من ساستنا في العراق اليوم يستحق مثل هذا التمجيد بعد ان راح الجميع يتبارزون على المناصب واخراج مسرحية الحكومة الجديدة من على مسرح الامتيازات والحصص وتقاسم النفوذ وترك الشعب يراقبهم ويسخر منهم على طول الاشهر التسعة التي سبقت تشكيل حكومة المالكي الاخيرة ؟ كرايسكي وضع النمسا على طريق الشهرة والثروة والديموقراطية الاشتراكية ورفع حزبه الى اعلى درجات النجاح في تاريخ اوربا الحديث بعد ان جمع فيه طبقات المثقفين الشباب وشخصيات من الكاثوليك وحتى من النازيين القدامى الذين آمنوا برسالة كرايسكي مثل يورك حيدر زعيم حزب الحرية النمساوي المثير للجدل الذي توفي في حادث وقع له في سيارته العام الماضي والذي قال عنه كرايسكي انه " يشكل كفاءة جديرة بالدراسة " . علما ان خلفه الشاب شتراخر في رئاسة الحزب ، ظهر اكثر عنصرية مركزا جوانب عدة من نشاطه في الانتخابات الاخيرة على محاربة الاسلام والمسلمين ومطالبة طردهم من النمسا واوربا معتمدا على ما تقوم به القاعدة والمسلمون المتطرفون ضد البلدان الاوربية المضيفة لهم بعد ان اصبحت النمسا بفضل حزب كرايسكي الحاكم ملاذا للمهاجرين واللاجئين المسلمين من العرب وغيرهم الذين يعيشون بكثير من الكرامة في الدولة التي لا تفرق بين الاديان والاجناس ، تدفع لهم تكاليف العيش والسكن اللائق وترعى اطفالهم بالتعليم والرعاية الصحية والمساعدات المالية السخية رغم كل مشاكلهم وعدم احترام الكثير منهم للقوانين اواعترافهم بالنعمة التي وهبتها لهم الدولة.
فان كان هناك تيمور باستوكهولم ففي فيينا ينزرع اكثر من تيمورحيث تنتشر في فيينا اليوم الجوامع لجمع التبرعات للارهابيين الانتحاريين الذاهبين الى قتل العراقيين واكثر من حسينية اتخذ احدها اسم مركز آل البيت الثقافي المدعوم من مراكز اخرى في اوربا حيث تقام الصلاة والخطبة وتناقش وتكشف فيه فضائح وكوارث العراق وتنقل اليه ثقافة اللطم والبكاء في جميع المناسبات الحزينة التي مر بها تاريخ آل البيت عليهم السلام بعد ان وجدت بعض العوائل العراقية فيه صورة طبق الاصل لما تحتفل به الحسينيات في المدن العراقية المقدسة والمجال الوحيد للتنفيس عن احزانها في غربتها الطويلة عن الوطن . ولا ابالغ القول ان اكثر تلك العوائل التي ترتاد هذا المركز نقلت هذه الاجواء الحزينة الى اماكن سكناها لتصبح حياة الازواج والابناء اليومية تعيش الاجواء الكئيبة باستمرار حيث العديد من محطات التلفزيزن التي تنقل البرامج الدينية المخصصة للنحيب واللطم والادعية ومشاهد المسيرات في العراق بمناسبة اربعينية الامام الحسين عليه السلام هذه الايام . ولا يخفي على القارئ مدى تاثير كل ذلك وانعكاسه على العلاقات الزوجية وتربية الابناء الذين يذهبون الى مدارس فيينا كل يوم . . كما سار الافغان والايرانيون ايضا على نفس الطريق حيث وجود المركز الاسلامي الايراني الكبير الذي يهتم بشعائر شهر رمضان ويقيم نفس المراسيم ويقدم اطيب وجبات الطعام ويزاول شئوون الاحوال الشخصية والقيام بتنظيم حملات الحجاج الى بيت الله الحرام للمسلمين في النمسا كل عام . كل هؤلاء الذين لم يشكلوا نقطة نجاح بارزة في سوق العمل في النمسا، راحوا يمارسون طقوسهم بكل حرية في هذه المراكز من دون شكوى الدورالمجاورة لسكن النمساويين الذين يعتزون بالاستماع الى الحان موسيقى شتراوس وموزارت مساء قبل النوم . . ومن مفارقات القدر ايضا ان يرحل كرايسكي عن فيينا وينهار الاتحاد السوفييتي في نفس الوقت تقريبا . والحمد لله لم تر عين كرايسكي ما حل بمدينته الجميلة خلال العقدين الماضيين التي شهدت بالاضافة الى ما مر بنا ، موجات متزايدة من هجرة الذين كانوا داخل سجن الشيوعية الكبير بعد الانهيار. لقد عمت الفوضى واندفعت الحشود التي عانت البطالة والفقر والقهر لعقود طويلة الى غرب اوربا عن طريق فيينا التي اصبحت سوقا مفتوحة للجريمة والسرقة والدعارة وتهريب المخدرات وغسيل الاموال من الروس والهنغار والجيك والسلوفاك واليوغسلاف والصرب والرومان والبلغار والبولنديين وغيرهم . والادهى من ذلك عندما سهل مجئ كل هؤلاء على نحو اوسع فتح الحدود عند دخول اكثر هذه الدول الى الاتحاد الاوربي واصبحت حدود النمسا خالية بلا رقيب لكل من هب ودب. ونضيف الى هؤلاء الاسيويين من الصين المتميزين بمطاعمهم الشهيرة وكذلك الاتراك . ورغم عدم قبول تركيا عضوا في الاتحاد الاوربي حتى الان ، الا انهم نجحوا في سوق العمل وعلموا النمساويين على اكل المشويات من الشاورمة والكباب والاغذية الطازجة المصدرة الى النمسا ، وكثر عددهم مع مرور الزمن بسبب الهجرة المتزايدة وخصوبة الانجاب لدى نسائهم حتى اصبحت المنطقة العاشرة في فيينا كمنطقة تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي لكثرتهم . وللحقيقة اقول انهم تميزوا بالانحياز لقوميتهم وبجدية العمل والالتزام واحترام القوانين وتمسكهم بدينهم وقيمهم الاسلامية ونجحوا في دخول النمسا مهاجرين بدلا من محاولات الغزو التي باءت بالفشل عندما حاصرت جيوش سلاطين آل عثمان فيينا لاحتلالها قبل قرون من الزمن . ومن هنا وجدنا اين كانت تكمن عناصر النجاح التي نالت الاعجاب والتقدير في حياة كرايسكي السياسية الذي وضع اسس التحولات الاجتماعية وبناء الاقتصاد الحديث بعد الحرب العالمية الثانية في النمسا ! ولقد وضعت جائزة كرايسكي بكل فخر لتمنح كل عامين لشخصية اختيرت من اجل العمل في مجال حقوق الانسان ! فما هي الجوائز التي يستحقها من يحكموا العراق اليوم بعد ما صاحب وجودهم للاسف من انهيار وانحطاط وسمعة مشينة نحو العراق والعراقيين في الخارج وفقر وتخلف ومعاناة وفوضى دائمة ورعب وارهاب ودماء مستمرة في حياة العراقيين في الداخل ؟ . الحلقة الثانية يتبع ............
اياد الجصاني
باحث ومترجم اكديمي
فيينا النمسا
-
00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000







مئة عام على ولادة المستشار النمساوي الراحل الدكتور برونو كرايسكي

رجل الدولة الذي خلده التاريخ !

د.اياد الجصاني

كرايسكي : مبادئ ومواقف ( 2/3 )
شكلت اتجاهات كرايسكي العلنية الصادقة ومواهبه الفريدة الناجحة تيارا معاديا له في اوربا تقوده اسرائيل التي لم ترض ان ترى كرايسكي معارضا للصهيونية التي تنشد فيها حلا لقضية الشعب اليهودي او ان يكون صديقا للعرب ومقربا من الرئيس المصري جمال عبد الناصر والزعيم الليبي معمر القذافي والزعيم الفلسطيني ياسرعرفات الذين وصفتهم الاوساط الغربية بالارهابيين آنذاك . لقد كانت له مواقف عاصفة مع رئيسة وزراء اسرائيل غولدا مائير التي قال عنها انه السياسي اليهودي الوحيد في اوربا الذي لم تستطع ابتزازه . وبالفعل برهن كرايسكي على ذلك ، مثلما جاء في مذكراته بالجزء الاول ص 320 من كتابه الصادر عام 1988 في فيينا بعنوان : كرايسكي والطوفان السياسي اترجم حرفيا ما قال فيه بهذا الخصوص : " قبل اسابيع من اندلاع حرب يوم كيبور في اكتوبر 1973، وقع حادث ارهابي قام به فلسطينيان في محطة قطار مارش ايك القريبة من فيينا واخذوا اربعة رهائن من قطار كان ينقل لاجئين يهود قادمين من الاتحاد السوفييتي . وتفاديا لتكرار وقوع مثل هذه الاعمال قررت غلق مخيم شوناو الذي كانت الوكالة اليهودية تتخذ منه قاعدة لتجميع اللاجئين اليهود القادمين من الاتحاد السوفيتي في عبورهم الى اسرائيل . واعترف ان عمل الوكالة كان بمثابة الشوكة المغروسة في عيني لانها كانت تضع حجر عثرة امام اليهود اللاجئين الذين لا يرغبون بالذهاب الى اسرائيل بل كانت تحدد لهم حق اللجوء فقط الى اسرائيل وتتصرف كما لو ان مخيم شوناو واقع خارج حدود النمسا وكأن الامر لا يعنينا شيئا. ورغم ان قراري باغلاق المخيم كان يبدو بمثابة الاستجابة لضغوط الارهابيين ، الا اني في الواقع كنت اتجنب سفك الدماء بعد ان قمت بالتفاوض بشان تحرير الرهائن " .
اما عن الحادثة الاخرى التي وقعت عام 1975 في مقر منظمة الاوبك في العاصمة فيينا التي اسفرت عن اختطاف الرهائن الوزراء في المنظمة وقتل بعضهم ، العملية التي قام بها الارهابي الدولي كارلوس، اشار كرايسكي في كتابه هذا الى انه لم تكن لهذه العملية من دواعي سياسية وانه حاول جاهدا من خلال التفاوض منع سفك الدماء وعدم تعريض الارواح للخطر ومنع تكرار حدوث مثل هذه الاعمال في النمسا مستقبلا رغم الانتقاد الذي وجه له في كلا الحادثتين . وذكر ان الاعضاء في المنظمة ارادوا ترك مقرهم في فيينا الا انه حاول جاهدا منع مثل هذا التوجه . وبهذه المناسبة اشير الى ان طبيبا من كردستان العراق الدكتور فيريا راوندوزي المقيم في فيينا هو الذي تبرع وعرض نفسه للخطر ليكون المترجم الذي شكل نقطة العبور لمهمة التفاوض ما بين كارلوس وكرايسكي وان كتابا اللفته انغريد فايز صدر عام 2004 بالالمانية كما نُشر بالانجليزية عام 2006 تحت عنوان : " وجها لوجه امام الارهاب" ، تناولت فيه جميع ملابسات قصة الهجوم على الاوبك المثيرة حقا التي كانت بمثابة العمل الارهابي الكبير الذي تعرضت له النمسا منذ ذلك الوقت والتي قصها راوندوزي على المؤلفة بالاضافة الى انتهازه الفرصة لعرض المشكلة الكردية في العراق والحديث عن العلاقة الحميمة التي قامت بينه وبين كرايسكي لاحقا عندما زار كرايسكي الصليب الاحمر للتبرع بالدم حيث كان راوندوزي الطبيب المشرف والمسئول عن بنك الدم فيه . وكما يبدو ان القضية بكل ما فيها تتعلق بمواقف ومبادئ كرايسكي ومفاهيمه الشخصية كيهودي نمساوي وطني تجاه الصهيونية وقيام اسرائيل . ويذكر كرايسكي حول الخلاف ما بينه وبين اسرائيل كما جاء في مذكراته آنفة الذكر وبالنص ايضا :" ان اسرائيل تدعي بان اصل اليهود كلهم في العالم هو من فلسطين وانا لا ارى هناك خطأ اكبر من ذلك . واذا ما اردنا ان نحكم على المسألة اليهودية بعيدا عن مفهوم الصهيونية هذا سنكون قد وصلنا الى سر قيام اسرائيل . ان اكثرية الشعب اليهودي في اسرائيل منذ قيامها هم من العرب وان المؤسسين لدولة اسرائيل اصبحوا اقلية فيها بحكم ايديولوجيتهم الصهيونية . واذا ما عرفنا حجم التناقضات الموجودة بين الطرفين ادركنا حجم المشاكل المركزية داخل اسرائيل . اضف الى ذلك ان الصهاينة يرون ان كل يهودي في العالم يجب ان يكون ولاؤه لاسرائيل فقط وعدا ذلك يعتبروه انتهازية . وهذا الامر يشكل بالنسبة لي اكبر الاخطاء وهو مرفوض بالاساس لان ليس هناك ما يمكن المساومة عليه اكثر من الاخلاص للوطن حيث لا افهم كيف يجوز لي ان اقبل بان تكون ارض الاجداد اقل حبا واعتزازا من مدينة تقع على ساحل قريب من اطراف الصحراء . كما اني لا افهم كيف يجوز لهؤلاء الذين عاش اجدادهم قرونا طويلة في النمسا وقدموا خدماتهم لها وقت السلم وضحوا بارواحهم في سبيلها وقت الحرب لا يحق لهم ان يكونوا نمساويين حقيقيين . الظاهر ان اسرائيل لم تستفد من عبرة محرقة اليهود في اوربا التي سخرتها فقط من اجل خدمة مصالحها السياسية . ومن هنا اقول ان الفارق ما بيني وبين هؤلاء في اسرائيل هو اني ارفض الصهيونية وارى ان اسرائيل هي احدى اكبر الدول الخاضعة للاحزاب الكهنوتية في العالم . وعلى هذا الاساس اجد ان الانسان الحضاري المثقف اينما يكون في العالم يجب ان تكون علاقته باليهود تماما مثل علاقته باي انسان آخر في العالم . واذا نظرنا بتمعن الى كلمة اللاسامية نجد انها كلمة مغلوطة ، وكان يجب ان يكون مكانها العداء لليهودية لان كلمة السامية تعطي الانطباع بانها بالنسبة لليهود قضية عنصرية اذا ما عرفنا ان هناك العديد من الشعوب السامية . وعليه ارفض ان اكون سطحيا وعرضة للوقوع في الخطأ الذي وقع فيه الاخرون . ان علينا ان نضع امام اعيننا الفارق ما بين الدافع الديني من جهة وما بين الدافع الصهيوني القومي او لنقل العنصري من جهة اخرى . وانا ارفض المفهوم الذي تنشره اسرائيل ان على كل من هو من اصل يهودي يجب ان يكون صهيونيا وان يضع اخلاصه لخدمة اسرائيل مؤيدا بالبراهين . وعلى ضوء هذا المنظور اجد اني وضعت نفسي في تناقض مع اسرائيل والاسرائيليين . ومن هنا اقول ان اسرائيل دولة مصطنعة اقيمت على نحو غاية في المهارة وعلى اساس الادعاء بنظرية ابادة اليهود في المحرقة الهولوكوست . ان اسرائيل ستبقى تعاني من محنة الاعتراف بوجودها وان مثل هذا الاعتراف سيواجه الكثير من المصاعب " .
نعم ان اسرائيل لم تستفد من عبرة المحرقة كما يقول كرايسكي وكان معه الحق في انتقاد اسرائيل حول قضية ولاء اليهود في العالم لاسرائيل فقط . وهو لم يستسلم لا بتزاز اسرائيل على الاطلاق بينما نرى كيف استسلم الكثير من حكام العرب لهذا الابتزاز اليوم . فكما يقول الكاتب المعروف عثمان مرغني في جريدة الشرق الاوسط يوم 13 اكتوبر 2010 عندما كتب بعنوان: " لماذا لا نستسلم لنتانياهو؟ وقال : " ان ما يقوم به نتانياهو الان من تمرير قانون الولاء هو من اجل مقايضة الفلسطينيين للاعتراف بيهودية اسرائيل مقابل الحصول على تجميد جديد لبناء المستوطنات وان ما يطرحه نتانياهو هو اعلان ان اسرائيل دولة عرقية دينية وعنصرية وان مثل هذه المطالبة ينسف كل الاسس الاخلاقية التي رفض بها العالم النازية والفاشية وحاربها بالسلاح لتخليص اليهود انفسهم من ابشع الممارسات التي وقعت بحقهم في اوربا " . اليس هذا هو مبدأ كرايسكي بالذات وما كان يعلنه تماما ؟ فمن منا ينسى ما فعلته اسرائيل برئيس الدولة ووزير خارجية النمسا الاسبق كورت فالدهايم الذي راحت تلاحقه وتتهمه بالعمل مع النازية ؟ ولكنها فشلت ان تعمل الشئ نفسه مع كرايسكي الذي كان بالاصل ضحية للنازية . وبمناسبة ذكر اسرائيل هنا اقول ان كرايسكي الذي ينحدر من عائلة يهودية كما بينت ، نشأ وهو شاب على افكار الاممية الدولية وراح يعمل بنشاط مع جناح منظمة الشباب للحزب الاشتراكي الديموقراطي في فيينا وكثيرا ما القي القبض عليه حاملا العلم الاحمر اثناء المظاهرات التي كان يقودها وجُلب امام المحاكم النمساوية وهو ابن السادسة عشر من العمر عام 1927. ومن هنا ندرك لماذا كان كرايسكي معارضا لتوجهات اسرائيل المعادية للعرب تماما كما كان شأن الرئيس الفرنسي الراحل الكبير جارلس ديغول عندما شنت اسرائيل الحرب على العرب في 5 حزيران عام 1967 ! .
ومن مواقف ومبادئ كرايسكي الشهيرة كانت له اوثق العلاقات بالشخصيات الدولية في الغرب والشرق ، فقد دعم الزعماء الدوليين آنذاك في مواقفهم الوطنية ووقف مع مبادئ مؤتمر باندونغ عام 1955 النواة الاولى لنشأة حركة عدم الانحياز وتوثيق التعاون الدولي وشجب التمييز العنصري وتاكيد حق الشعوب بما فيها العربية في الاستقلال ونيل حقوقها الوطنية وكان على طول الخط مطالبا باقامة دولة فلسطينية اسوة بقيام دولة اسرائيل التي تحارب قيامها مثل هذه الدولة حتى اليوم. وكان صديقا لجواهرلال نهرو وانديرا غاندي وجمال عبد الناصر وانورالسادات وشاه ايران وجارلس ديغول ومتيران وتيتو وادينتاور وخروشيف وفيلي برانت وكندي وكيسنجر ونكسون الذي قال عنه اثناء زيارته لسالزبورغ "بان كرايسكي هو اكثر رجل دولة شهرة في العالم" . لقد عزز كرايسكي مواقفه الوطنية في اعلاء شأن الشخصية النمساوية على انه نمساوي لان عموم الامريكان يرون ان النمساويين هم المان لانهم يتكلمون الالمانية . وسعى جاهدا في حصول السودتيرول ما بين ايطاليا والنمسا على الحكم الذاتي في مفاوضاته بالامم المتحدة في نيويورك ودافع عن مبدأ الحياد في النمسا على النموذج السويسري والامتناع عن ارسال جيوش لمناطق الحروب بل المشاركة في تقديم خدمات السلام وتطبيق مبدأ السيادة والعمل على توسيع دائرة الخدمات الانسانية في النمسا والنجاح في جعل العاصمة فيينا الموقع الثالث بعد جنيف ونيويورك كمركز لمنظمة الامم المتحدة فيها . .
الحلقة الثالثة والاخيرة ..... يتبع
اياد الجصاني
باحث ومترجم اكاديمي
فيينا - النمسا
[email protected]

((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((





مئة عام على ولادة المستشار النمساوي الراحل الدكتور برونو كرايسكي

رجل الدولة الذي خلده التاريخ !


د . اياد الجصاني

كرايسكي : وحكايتي معه ( 3/3 )

ارجو ان يسمح لي القارئ الكريم ان اذكر في الحلقة الاخيرة من هذه الدراسة وللامانة التاريخية ، حكاية رواها لي مديري في الاكاديمية الدبلوماسية البروفسورارنست فلوريان فنتر وهو خريج جامعة كولومبيا عام 1954 واستاذ في العلوم السياسية بكلية ايونا في نيويورك الذي ارسل كرايسكي في طلبه من امريكا وهو اللاجئ الذي رحل مع والده واخوته السبعة الصغار الى امريكا خوفا من الوقوع في قبضة الجيستابو قبل احتلال هتلر النمسا عام 1938 . كان الاب كارل فنترمعارضا ورافضا للنازية وهو احد علماء الاجتماع الكاثوليك عمل نائبا لمحافظ مدينة فيينا قبل دخول هتلر اليها. عاد الابن فنتر مديرا للاكاديمية الدبلوماسية التي بدأت الدراسة فيها عام 1964 . ان مديري هذا اخبرني بعد وفاة كرايسكي بسنين بامرين هيجا لي مشاعري تماما . كان الامر الاول هو ان والدة كرايسكي التي قررت ترك النمسا والهجرة مع اليهود الاخرين الى اسرائيل رفضت ان تمد يدها لابنها كرايسكي الذي هم بمصافحتها لحظة الوداع في المطار. فمن يدري ربما انها رحلت عن الدنيا قبل وقوع الهولوكوست المحرقة الثانية القادمة والقريبة في اسرائيل التي تنبأ بها بن غوريون اول رئيس للوزراء في اسرائيل عام 1945 حسبما ورد في النيوزويك الامريكية في 13 ديسمبر الماضي ، عندما قال ." ان سعينا في هجرة اليهود وتجميعهم في اسرائيل هو اننا نعدهم للمحرقة الثانية " . فهل حان وقت المحرقة التي تشيراليها الاخبار عن قرب شن اسرائيل الحرب على ايران وسوريا وحزب الله التي استعدت لاطلاق صواريخها المتعددة الانواع على مدن اسرائيل المجاورة ؟! وماذا سيكون دور السادة نوابنا اعضاء البرلمان الجديد والعاملين في اجهزة الدولة من وزراء وغيرهم في العراق الخبراء في تزوير الشهادات الذين اعفاهم المالكي من المسآلة القانونية مؤخرا رأفة بهم كما قال لو انفجرت هذه الحرب؟ . اما الامر الثاني الذي اخبرني به مديري ، فلقد كان بعد احتلال الكويت في اغسطس عام 1990 عندما وصلت الى النمسا بعد رحيل كرايسكي الى مثواه الاخير باشهر قليلة . وارجو ان ابين قبل روايتي للامر الثاني باني بعد ان تخرجت من الاكاديمية عام 1966 حاصلا على الماجستير في العلاقات الدولية عدت متلهفا الى الوطن لطاب العمل في وزارة الخارجية ببغداد التي فشلت في الحصول على اي عمل فيها والاسباب بالطبع معروفة فالواسطة والمحسوبية والطائفية والعنصرية والحزبية هي كما هي اليوم في العراق واكثر مما كانت عليه ذلك الوقت. وياليتني لم اعد واترك النمسا التي فتحت لي اوسع ابواب الحظ وكان من الواجب عليً البقاء فيها لرد الجميل الى وزيرها كرايسكي ! وبعد ان انهارت كل الاحلام الوردية التي بنيتها اثناء دراستي في الاكاديمية واثناء سفرتي الطويلة والمملة عائدا الى بغداد في قطار الشرق السريع وصلت الى الوطن لاُسحق واضيع فيه لا كما عاد كرايسكي ليعمل ويرتفع ويسمو في وطنه النمسا الذي يحترم الانسان وتقدر فيه الكفاءات ! ولقد مرت بنا نحن العراقيين تجارب عديدة على دعوة المسئوولين في العراق لاصحاب الكفاءات العراقية للعودة ولكنها كانت مهازل باءت بالفشل بل ، تذكرني في الحقيقة بمصيدة اغتيال المئات منهم في العراق على ايدي مجرمة مثلما اكدت صحيفة البينة الجديدة العراقية يوم 8 يناير الجاري عندما كتبت تقول : " كشف المرشح الأبرز لحقيبة الداخلية العراقية عدنان الاسدي تفاصيل عن ملف عمليات الاغتيال التي راح ضحيتها شخصيات بارزة وعسكريين كبار شهدتها العاصمة بغداد بواسطة أسلحة كاتمة للصوت خلال الأسابيع الأخيرة، واتهم جهات خارجية وأجنبية بالإشراف على تلك العمليات منها الموساد الإسرائيلي والجماعات الخاصة المرتبطة بايران الموجودة داخل البلد تمارس هذه العمليات عبر تجنيد بعض العناصر في الدولة " . وكما كتب عبد الستار محمد رمضان في جريدة الشرق الاوسط بتاريخ 13 اكتوبر 2010 بعنوان " انتخابات كاتمة للصوت " وقال : " وبدلا من ان تكون الديموقراطية طريقا لتداول السلطة بقوة وتاثير الصوت ، قال انها تحولت في العراق الى انتخابات ومسدسات كاتمة للصوت ". ويا لمصيبة العراق والعراقيين . ويا لكارثة ضياع اصحاب الكفاءات وابناء هذه الدولة والاخرين معهم "! . . واثناء وجودي في ضيافة مديري هذا اتناول فنجان الشاي ، اخبرني بالامر الثاني وهو كيف ذهب الى كرايسكي الرئيس الفخري للاكاديمية الدبلوماسية ووزير الخارجية ذلك العام وقال لي انه بعد ان قدمت طلب الالتحاق بالاكاديمية في سبتمبر 1964 ونجحت في امتحان القبول التحريري بثلاث لغات هي الالمانية والفرنسية والانجليزية لمواد متعددة في التاريخ والاقتصاد والمنظمات الدولية والترجمة ، المواد التي كنت ادرسها في معهد الترجمة بجامعة فيينا في وقته اضافة الى الامتحان الشفهي الذي اشرفت عليه لجنة متخصصة كان يرأسها المدير نفسه الذي لن انسى كيف طرح عليً عدة اسئلة محرجة عن الدول العربية والاسلام وعن النظام الجديد في العراق وكيف جئت الى النمسا وماذا اعرفه عنها وغيرها من الاسئلة . ولقد اجبته عليها وكنت حذرا جدا بالحديث عن الاسلام والمسلمين واكدت له ان المسيحين في العراق اخوة لنا وهم مواطنون لا فرق بينهم وبين المسلمين . اما عن قدومي الى النمسا فاخبرته بالحقيقة اني كنت اعمل مدرسا للغة الانجليزية في احدى المدارس الثانوية ببغداد منذ تخرجي عام 1958 ولقد اغتيل مديرها في سيارته من قبل البعثيين الذين تآمروا في النهاية على الزعيم عبد الكريم قاسم في العام الماضي اي عام 1963 وقلبوا نظام الحكم في بغداد واعدموه بمساعدة الامريكان لانهم اتهموه واتهموا كل من احبه وعمل معه بانهم شيوعيون . واخبرته كيف اتيحت لي الفرصة بمغادرة العراق في تموز 1962 والهجرة الى النمسا . وانا هنا ادرس على الماجستير بمعهد الترجمة واعمل في نهاية كل اسبوع في خدمة فندق صغير في قلب العاصمة فيينا لاحصل على ما يكفيني للعيش دون ان اقدم اي طلب للجوء لدى الحكومة . وفي العطلة الصيفية اسافر الى المانيا الغربية القريبة للعمل في مصانعها حيث اوفر ما يكفيني العام كله لمواصلة دراستي في جامعة فيينا ! . ويواصل المدير الحكاية معي كيف ذهب بنتائج الامتحانات الى كرايسكي ليقول له ان طالبا عربيا مسلما من العراق يدرس في جامعة فيينا تقدم بطلب ونجح في الامتحان وهو خريج جامعة بغداد فكيف سيكون قبوله في الاكاديمية الى جانب الطلبة النمساويين في مثل ظروف النمسا الحالية ؟ اخبرني المدير وبكل صراحة ان كرايسكي اجابه على الفور . الم ينجح هذا العراقي في الامتحان مثل النمساويين الاخرين ؟ اجابه المدير بنعم . وهل تقدمت الدول العربية بارسال موفدين منها للدراسة في الاكاديمية ؟ اجابه كلا .. فقال كرايسكي له ... اذن اقبل هذا العراقي ولا تقبل ايا من المتقدمين للالتحاق بالاكاديمية من اسرائيل !! لم اجد اية مبالغة او غرابة في هذا القول بعد ما اطلعنا على ما ذكرت بخصوص موقف كرايسكي من اسرائيل . ومن يدري !!! والله اعلم ولربما قص المدير على كرايسكي حكاية هربي الى النمسا خوفا من الجستابو البعثي وتذكر كيف هرب الى السويد خوفا من الجستابو الالماني بعد احتلال النمسا عام 1938 !!. هذه هي مبادئ كرايسكي السامية التي تحدثت عنها . المدير هذا ما زال حيا احتفلنا بعيد ميلاده السادس والثمانين في 16 ديسمبر الماضي ولا ازال احظى بمحبته واحترامه وعمق صداقته منذ العام 1964 وحتى الان ، ولقد اجتمعنا يوم 11 يناير الماضي في نفس الاكاديمية التي تحتفل بهذه بالمناسبة وحدثني من جديد عن حياة كرايسكي في ايامه الاخيرة. ولن انسى كيف وقف هذا الصديق الى جانبي بعد هجرتي للمرة الثانية الى النمسا عام 1990 بعد احتلال الكويت عندما قدمت طلبا عام 1991 ومنحت الجنسية النمساوية عام 1992 بعد احتساب مدة الاربع سنوات من اقامتي السابقة في فيينا حتى يتاح لي الحصول على ترخيص لفتح مكتب للترجمة بينما لم احصل في الكويت ، التي تحتفل الشهر القادم بالذكرى العشرين على تحريرها عام 1991 من قبل الامريكان بعد غزو صدام حسين لها والعام الخمسين على استقلالها عام 1961 ، الجارة العربية المسلمة حيث عملت لسنوات طويلة وقضيت زهرة شبابي فيها الا على اقامة عمل محددة المدة وبشروط معينة اسوة باي عامل او خادم آسيوي مهاجر الى الكويت! تحدثت سكرتيرة كرايسكي الشخصية مارغريت شميت البالغة السبعين عاما من العمر اليوم ، كيف لازمته طوال حياته داخل النمسا وخلال رحلاته الى الخارج لمدة 26 عاما بعد ان التحقت بالعمل وهي في الثالثة والعشرين من العمر. لقد وصفت هذه السيدة في كتابتها لمذكراته كيف وجدت هذا الرجل الذي كان يتمتع بشخصية ساحرة وانه السياسي الماهر الذي اكتسح الانتخابات بالاغلبية في الاعوام 1971 و 1975 و 1979 رغم معاداة النازيين والصهاينة له ، واصبح رئيسا للحكومة بامتياز في عهد الجمهورية الثانية . وتقول انها لم تفارق سيدها حتى بعد ان اشتدت عليه معاناته من فشل الكلى المرض الذي اقعده عن العمل واضطره للجلوس في منظر حزين يثير الشفقة على كرسي نقال ترعاه سيدة اخرى في سنواته الاخيرة تعرفت عليها بالصدفة وحدثتني الكثير عن معاناته حتى وفاته في تموز عام 1990 . . ولد كرايسكي وعاش ، عدا السنوات التي قضاها في السويد ، ومات ودفن في فيينا . لا على ملة اليهود ولا النصارى، بل كما يقال كان لا ادريا . انسان وهب كل حياته من اجل شعبه . فيينا صنفت بالعام الماضي المدينة الاجمل في العالم ، حباها الله باجمل طبيعة تغنت بها اسمهان ، "دي فيينا روضة من الجنة" . واذا قيل انها احدى جنات رب العالمين على ارضه فلربما لا مبالغة في ذلك . ولو لم يكن هناك امثال كرايسكي بالامس ومايكل هوفل محافظ مدينة فيينا اليوم من نفس الحزب الاشتراكي الذي ثبًتا اسس الديموقراطية والاشتراكية ، لما وصلت هذه المدينة الى هذه الدرجة من الرقي والنظام والشهرة . فيينا التي تفانى كرايسكي بالعمل من اجل انقاذها من الدكتاتورية والاحتلال واسعاد شعبها بعد الحرب العالمية الثانية ونيل كرامتها بعد خروج المحتلين وتحقيق الاستقلال عام 1955 لن تنسى جميل هذا الرجل . هناك الساحات والمنتزهات والحدائق التي لا تخلو من تماثيل كرايسكي . ازقتها وشوارعها وبناياتها ومخيمات اللاجئين وكذلك دور الرعاية الاجتماعية والمؤسسات الخيرية والمنتديات والنوادي والمسارح وردهات المستشفيات وقاعات الدراسة في الجامعات والمعاهد والمكتبات والمؤسسات التي تمنح الجوائز من اجل العمل الانساني لا تخلو ايضا من ان يطلق اسم كرايسكي على الكثير منها . كل ذلك جدير بهذا الرجل الذي كرس حياته من اجل الاعمال الانسانية وخير وتقدم النمسا . لقد اصبح اسم كرايسكي مدعاة للفخر ومغروسا في ضمائر ابناء الشعب الذي احبه . فكيف لا يصنف هذا الرجل من عداد الخالدين اذن ؟
هكذا انتهت حياة كرايسكي الرجل الاسطورة الذي يقف له الشعب النمساوي وكثيرون اخرون في النمسا وفي خارجها اجلالا واحتراما لذكرى ولادته قبل مئة عام . فسلام عليك يا برونو كرايسكي وعلى الحكام الوطنيين المخلصين في كل مكان من امثالك الذين خدموا شعوبهم وتركوا الذكرى والاثر الطيب الذي يخلدهم الى ابد الابدين ! واللعنة على الحكام الذين استبدوا وقهروا وظلموا ودمروا ونهبوا ثروة شعوبهم وانتهوا الى مزبلة التاريخ . والله يعلم على من من الحكام الاخرين سيكون الدور المخزي القادم بعد الذي جرى منذ اعوام للحكام في العراق وبالامس في تونس وعونك يا الله في الخلاص من المستبدين .
ويا ترى ما الاثر الذي سيتركه حكام عراقنا اليوم في نفوس العراقيين بعد كل هذه المآسي والفضائح منذ الاحتلال الامريكي ؟ .
اياد الجصاني
باحث ومترجم اكديمي
فيينا-النمسا [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و