الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما حدث وما يمكن أن يحدث في تونس

سلامة كيلة

2011 / 1 / 18
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


تطور الوضع التونسي إلى اللحظة التي فرضت هرب الرئيس زين العابدين بن علي، ولم يفد التهديد الذي مارسه الرئيس السابق، ولا فادت الوعود التي أطلقها في لحظاته الأخيرة، ولن يفيد الحل الذي أخرج به الهرب، ويجري فيه نقل السلطة إلى رئيس الوزراء. وربما لن ينجح الحل "الدستوري" الذي أتى برئيس البرلمان كرئيس مؤقت يعمل على التحضير لانتخاب رئيس جديد خلال مدة لا تتجاوز الستين يوماً.
ما يجري العمل على أساسه هو إعادة إنتاج السلطة من خلال إبعاد الرئيس وتحميله كل وزر الماضي، واستقطاب بعض أحزاب المعارضة، وبالتالي إبقاء السيطرة الطبقية للفئات ذاتها. فالخطوات أخذت على أساس الدستور الذي صاغه زين العابدين بن علي، والذي يحدد شكل الصيغة "الديمقراطية" التي كانت تمارس، والتي تبقي الحزب الدستوري هو المحدِّد لشخص الرئيس القادم من خلال البرلمان الحالي الذي يهيمن عليه. ولتبقى أجهزة السلطة ذاتها، البوليس والبيروقراطية اللذين حكما طيلة ربع قرن في عهد بن علي، هي المقررة لنتائج الانتخابات التي ستجري.
وبالتالي يجري التركيز على الدمقرطة وحرية الأحزاب والصحافة، وإشراك المعارضة في السلطة، بينما تبقى البنية الاقتصادية كما هي، وتظل الطبقة الرأسمالية المافياوية هي ذاتها، ربما مع إبعاد مافيا العائلة، وربما لمصلحة مافيا عائلة جديدة.
هذا ما أوضحته التجربة حينما يجري "التغيير" على أرضية السلطة ذاتها، ووفق القوانين ذاتها، والأهم وفق البوليس والبيروقراطية ذاتها. ليكون هناك مرحلة انفراج ديمقراطي، وحرية سياسية، لكن دون لمس المشكلة الأساس التي قادت إلى تفجُّر الانتفاضة، وهي مشكلة النمط الاقتصادي الذي تشكل خلال العقود السابقة، والذي أفضى إلى الإفقار الشامل من جهة، والبطالة الواسعة من جهة أخرى. بالتالي تتراجع نخبة السلطة قليلاً من خلال تحقيق الانفراج "الديمقراطي"، واشراك بعض المعارضة في السلطة، وإعطاء الوعود بتحقيق كثير من المطالب، وتستغل "نخبة" من السياسيين "المعارضين" كل هذا الانفجار الاجتماعي الذي يعبّر عن مشكلات عميقة تفضي إلى الانتحار أو الموت جوعاً، من أجل القفز إلى السلطة، وإن كان ذلك يتحقق من موقع الهامش والملحق لأن البيروقراطية الحزبية القديمة (الحزب الدستوري) ستبقى هي الممسكة بمقاليد السلطة. وهي "اللعبة" التي يراد لها أن تمتص الأزمة، وترحلها إلى أمد أبعد.
إن كل هذا الانفجار الاجتماعي، ولكي يحقق أهدافه، لا بد له من أن يفضي إلى أن يتجاوز ليس الرئيس، بل كل بنية السلطة التي شكلها، بما في ذلك وأساساً الحزب الذي حُكم باسمه، والبوليس والأجهزة الأمنية اللذين تدربا لكي يخدما مصالح مافياوية لتلك الطبقة التي تحكم تونس منذ عقود، وتوثق ارتباطه بالطغم الإمبريالية. وهي التي، وانطلاقاً من هذا الارتباط، فرضت الإفقار الشامل والبطالة المفرطة، إضافة إلى الاستبداد الشامل الذي هو ضرورة، ليس من أجل ذاته بل من أجل تحقيق السيطرة الطبقية التي تسمح بالنهب وبصياغة النمط الاقتصادي. لهذا فإن تقدم الانتفاضة وانتصارها ليس ممكناً إلا من خلال فكفكة أجهزة الدولة البوليسية، وتجاوز الدستور الذي فرضته المافيا، وكذلك تجاوز كل بنية السلطة القائمة، فهذه يجب أن تنتهي، أن تهزم، وأن يجري تشكيل حكومة من القوى الأساسية التي لعبت دوراً مهماً في الانتفاضة، أي النقابات والاتحادات والأحزاب، من اتحاد العمال إلى المحامين وأحزاب اليسار التي كان لها دور بارز، إلى الهيئات واللجان التي تشكلت خلال الانتفاضة. حكومة مؤقتة تعد لانتخابات لمجلس تأسيسي يضع دستوراً جديداً يقر الحريات، ويضع سياسة اقتصادية مختلفة تخدم الطبقات الشعبية.
وهنا لا بد من أن نلحظ بأن المسألة لا تتعلق فقط بتشكيل نظام ديمقراطي، يعتمد الانتخابات والتعددية وحرية الصحافة، فهذه لا تحل مشكلات الطبقات الشعبية وستفضي إلى أزمة بعد حين تفرض انتفاضة جديدة. ولاشك في أن لعب الطبقة الرأسمالية المافياوية كان يجري على هذه المسألة، حيث يجري التنازل في المجال "الديمقراطي" وغض النظر عن كل ما يتعلق بما يتعلق بالنمط الاقتصادي وبالفروق الطبقية، وخصوصاً بوضع الطبقات المفقرة، التي هي أساس كل انتفاضة. ولسوء الحظ تقبل بعض قطاعات المعارضة بهذه اللعبة، فتنقاد خلف السلطة، وتتجاهل الوضع الطبقي الذي كانت تعتبر أنها تعبّر عنه. ويصبح همها هو "اللعبة الديمقراطية"، في وضع غير متكافئ لا يسمح لقوى تطرح بديلاً اقتصادياً أن يحقق ما يجعله يفرض برنامج يمثل الطبقات الشعبية.
وتونس تقف الآن في هذه اللحظة، هل تقبل المعارضة، واليسارية خصوصاً السير مع الحل الذي طرحه أفراد نظام بن علي (أو نظام المافيات)؟ أو تقول بأنها تسعى إلى تحسينه، لكنها تقبل في الأخير؟ أو تشكل سلطة بديلة، وتفتح الطريق لانتصار حقيقي للانتفاضة؟ فالحل من خلال آليات السلطة ذاتها سوف يوجد متنفساً مؤقتاً في المستوى السياسي، لكنه لن يحل مشكلات الفقر والبطالة، لأنه لن يغيّر من النمط الاقتصادي القائم، الذي هو كما أشرنا نمط رأسمالي مافياوي. وبالتالي سوف يعيد الصراع إلى نقطة الصفر. وهو حل يجب أن يرفض نهائياً. ومن ثم ليس غير البديل الذي يقوم على أنقاض النظام القائم، حتى لو لم ينجح الآن، لكن يجب أن يكون واضحاً بأن الأزمة العميقة التي تعيشها الطبقات الشعبية لن يحل عبر الحل السلطوي، وبالتالي حتى فيما إذا توقفت الانتفاضة الآن فإنها سوف تعود في فترة قريبة بعد أن يتوضح للعاطلين عن العمل والمفقرين بأن شيئاً لم يتحقق. وهنا يكون طرح البديل الآن من قبل اليسار هو الأفق الذي سيحكم الانتفاضة القادمة.
المسألة إذن لا تتعلق بشكل السلطة فقط، بل أساساً في طبيعة التكوين الاقتصادي الذي صيغت فيه تونس خلال العقود الماضية. ومن استطاع أن يعرف السبب الذي جعل الطبقات الشعبية تنتفض بهذه القوة عليه أن يعرف بأنه لم يعد من الممكن أن يتحقق حل شكلي تمويهي كما تريد المافيات، وأن الأمور سوف تندفع نحو تصاعد الصراع الطبقي، حتى وإن كان قد هدأ الآن. لهذا سوف يموت اليسار إذا وافق على لعبة المافيا المطروحة من خلال بيروقراطية السلطة القديمة، وبالتالي عليه أن يتبلور كبديل واضح، وأن يدفع الطبقات الشعبية لإكمال الانتفاضة لكي تنتصر حقاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بصراحة
زكرياء الفاضل ( 2011 / 1 / 18 - 20:50 )
تحية للرفيق سلامة كيلة في البدء.. ثم أقول للرفيق بأن اليسار الحقيقي والمتمثل في الحزب الشيوعي التونسي في محنة وعزلة بمعنى أنه المخلص الوحيد لطبقة الكادحين في الوسط اليساري، إذ باقي الأحزاب المحسوبة، ظلما، على اليسار لا تعدو أن تكون أحزابا للبرجوازية المتوسطة والصغرى وقد يلتحق بها عناصر من البرجوازية الكبرى، لذلك هي تعتمد فكر الاشتراكية الإصلاحية وتنبذ الفكر الثوري. لكن لماذا حزب العمال الشيوعي أصبح في هذه الوضعية التي لا يحسد عليها؟ الواقع أن الاسباب اختلفت وتعددت والذاتي فيها، حسب منظوري، أكثر من الموضوعي لأن الحزب لم يعرف كيف يتأقلم مع الوضع بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي. وهذه مشكلة كل الأحزاب الشيوعية العربية وغير العربية. صدقني رفيقي حتى ولو تجرى انتخابات ديمقراطية مائة بالمائة فإن هذه الأحزاب لن تنال حتى ربع الأصوات وليس نصفها لأنها عمالية كادحة في نهجها نخبوية في فكرها. إن أغلب أعضائها من الطلبة والمثقفون عموما بينما العمال والفلاحون لا يشكلون نسبة بها تسمح لها فعلا بأن تكون أحزاب الطبقة العمالية كيفا وكما. سامحني رفيقي على هذه الصراحة، النابعة من غيرتي


2 - إن الثورة ليست تبديل أشخاص
هرمز كوهاري ( 2011 / 1 / 18 - 20:53 )

صحيح إن الثورة ليست بإزاحة أشخاص وإتيان بأشخاص بدلاء عنهم ، إن الثورة هي إنتقال الحكم من يد طبقة مستغلة جشعة مستبدة الى يد طبقة عاملة منتجة شغيلة مع الطبقة الوسطى والطلبة والمثقفين والمرأة إن هذه الفئات هم أكثرية الشعب العامل المنتج ، وعلى الثورة أن تكسب الجيش أو تؤسس جيشا لها لحمايتها من المتربصين بها ، لا يمكن للثورة بالإستمرار إذا لم توفر الحماية لمكاسبها .لأن عند الردة ستدفع الثمن غاليا وغاليا جدا كما رأينا في ثورة الردة في 8/شباط الأسود ، وردة ثورة د. مصدق في إيران 53 وغيرها .


3 - حول حزب العمال الشيوعي التونسي
محمد المثلوثي ( 2011 / 1 / 18 - 21:14 )
بالنسبة لحزب العمال الشيوعي التونسي فيكفي أن نعرف انه يعقد تحالفا مع حركة النهضة الاسلامية وهي فرع من فروع الاخوان المسلمين في تونس حتى نعرف مسبقا طبيعة هذا الحزب. لكن اكثر من ذلك فهذا الحزب لا يعتبر أن المرحلة اليوم هي مرحلة تحول اشتراكي بل هي مرحلة تحول ديمقراطي مثلما يسمونه، وبناء ما يسمى بالاقتصاد الوطني المستقل، ولذلك فمن الطبيعي أن نجد أنه لا يناضل من أجل تحويل اقتصادي اجتماعي جذري حقيقي بل ان أفقه هو التحويل السياسي، أي تغيير شكل الدولة البورجوازية نفسها بصبغها بصبغة أكثر ديمقراطية. وفي الواقع فكل التيارات اليسارية في تونس لا تتجاوز هذا السقف، لذلك نجدها للأسف تتنازع وتتصارع فقط من أجل موقع أفضل في الدولة وهي الآن تحاول جر الجمهور من ميدان الثورة الاجتماعية الى ميدان الصراع السياسي حول السلطة، وبدل تركيز كل الجهود لتطوير الأشكال التنظيمية التي ابتدعتها الجماهير للتعبير عن أهدافها التاريخية نجدهم يبثون أوهامهم في صفوف الجمهور ونزعاتهم السكتارية التي من شأنها مزيد تقسيم الحركة واضعافها


4 - الحل ليس بالديمقراطية فقط
رائدخليل التوبة_ سوريا_حمص/مخيم العئدين ( 2011 / 1 / 18 - 21:30 )
أشكر الرفيق سلامة على اسهاماته حول ما يجري في تونس وهي اسهامات مفيدة جداً ..وأؤكد مع الكاتب أن الديمقراطية لن تطعم فقراء تونس , لأنه يمكن بسهولة تسليعها لكن القضاء على النمط الاقتصادي المافيوي هو الذي سيبقى جذوة الانتفاضة متأججة ..هذه مهمة حزب العمال خاصة و اليسار عموما و هذه الانتفاضة تربة خصبة للعمل على تثبيت مكتسبات تاريخية للشعب التونسي..


5 - الرفيق سلامة تحية
فؤاد محمد ( 2011 / 1 / 19 - 06:04 )
كل الذي يطرحه الشيوعيون واليسار بات قديم وحلقه مفرغه
الجديد والصح هو اللجان الشعبسة اي الكومونة والتسير الذاتي
وهذه ليست فوضويه انه الطريق الصحيح الى اسقاط الراسمالية
وهذا ما تفضل به طل الرفاق وخاصةالرفيقان انور ومحمد
وشكرا


6 - هل ما حدث بتونس ثورة
جلال البحراني ( 2011 / 1 / 20 - 06:20 )
لدي سؤال ،، أرجو أن أنال الرد عليه من أي كان، لعلمي بانشغال الأستاذ سلامة
أيعد ما حدث و يحدث بتونس،، ثورة و فقا لمعنى الثورة الماركسي،، أو الأناركي حتى،، بحسب نظرة ميخائيل باكونين


7 - للثوريين فقط
غسان العوني ( 2011 / 1 / 20 - 16:08 )
تحية لكل المتابعين الثوريين لما يجري في تونس.
مشكور الرفيق سلامة كيلة على كتاباته الهامة حول ما يجري في تونس و اعتبرها قريبة جدا من خط حزب العمال الشيوعي التونسي.
في تونس يوجد حزب واحد يتبنى الماركسية اللينينية و هو يعتبر نفسه حزب الطبقة العاملة التونسية هو حزب العمال الشيوعي التونسي.
ما يحدث الآن في تونس هو اندلاع ثورة حقيقية تتتصاعد وتتجذر يوما بعد يوم تطالب بالحريات السياسية والعدالة الاجتماعية ، لن ندخر جهدا حتى تحقق كل أهدافها.
دعوة خاصة للرفيق سلامة لمواصلة تناول الاوضاع في تونس و تتطوراتها بالدراسة و التحليل.
شكرا للجميع.

اخر الافلام

.. أخبار الصباح | فرنسا.. مظاهرات ضخمة دعما لتحالف اليسار ضد صع


.. فرنسا.. مظاهرات في العاصمة باريس ضد اليمين المتطرف




.. مظاهرات في العديد من أنحاء فرنسا بدعوة من النقابات واليسار ا


.. خلافات في حزب -فرنسا الأبية-.. ما تأثيرها على تحالف اليسار؟




.. اليمين المتطرف يتصدر نوايا التصويت حسب استطلاعات الرأي في فر