الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التساؤلات اللزجة ضد ثورة الياسمين

مجاهد عبدالمتعالي
كاتب وباحث

(Mujahid Abdulmotaaly)

2011 / 1 / 19
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


بعد خروج الملك فاروق من مصر، ردد الكثير: ذهب الملك فاروق وارتحنا، وقال العقلاء: ذهب الملك فاروق وبدأت المتاعب، يقصدون ذلك النوع من التعب الذي يجعل الكثير يخاف من الحرية، ـ راجع إريك فروم (الهروب من الحرية ) ـ وهذا ما يخلق لدى كثير من الشعوب مفهوم الحاكمية، كهروب من مسؤوليات المواطنة في الدولة المدنية، إلى طفولة (الراعي والرعية) وحضانة (ولي الأمر) من خلال (كهنة المعبد)، أو بالهروب إلى تبريرات العجز بنظرية (المستبد العادل)!!.
بعد ثورة الياسمين في تونس بدأ كثير من بعض (اللزجين) يطرح تساؤلات من نوع: هل ما فعله (محمد البوعزيزي) صح أم خطأ عندما أقدم على إحراق نفسه؟ وهل واجب المثقف أن يكون داعية موت وإشعال أجساد أم داعية حياة؟ ولماذا لا نبدأ بتغيير نفوسنا قبل محاولة التغيير بالمظاهرات والثورات حتى ولو أسميناها بأسماء الزهور؟.
قبل البدء في محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات اللزجة، سنتجه إلى (الشعب) لندرك أنه عندما يجتمع في مكان واحد ويحمل خطابا واحدا فإنه يتحول إلى (جمهور) مع ما في كلمة جمهور من دلالات الروح الواحدة كامتياز يحمد لها، وعمى الإرادة التكتيكي كأحد عيوب مفهوم كلمة (جمهور).
إن ما يحمل الشعب على التكتل لصناعة هذا الموج الجماهيري في الشارع، هي تلك النواة المؤمنة بقضاياها حد الفناء فيها، بمزاج ترتطم فيه قوى الإيمان والعدمية داخل الوجدان الشخصي، فتنتج لنا رغبة الاشتعال وإحراق الذات أمام الجماهير، فالعدمية لوحدها تورث رغبة الانتحار وحيدا، والإيمان لوحده يورث عنفا تجاه الخصم/المستبد/ العدو....الخ.
نعود إلى سؤال هل إحراق بوعزيزي لنفسه صح أم خطأ ؟ وقبل الإجابة على السؤال لنتأمل حالنا، على أريكة ومتكأ مع فنجال من القهوة، ليتبادر إلى أذهاننا ونحن في هذه الظروف الرخوة أن ما فعله خطأ، متناسين أن الأفعال من حيث الصحة والخطأ تستلزم قدرا من الحرية، ليتحقق في حقها سؤال الصواب والخطأ، فإن لم تملك حريتك فلا يقع في حقك سؤال الصواب والخطأ, وسنحاول تكثيف صورة الحرية من خلال مثال السجين الذي أمضى في السجن بضع سنوات يأكل ويشرب ويحصل نصيبه من التشميس فما الذي ينقصه، فها هو الخبز والشمس بالمجان؟! فهل نطرح في حقه لو حاول الانتحار سؤال الخطأ والصواب، أنسينا: (أعطني ظروفا إنسانية أوجد لك الإنسان).
إن أولئك اللزجين الذين يرون خطأ ما فعله البوعزيزي يذكروننا بعبارة تلك التي قالت لشعبها عندما لم يجدوا خبزا: فليأكلوا الكعك، فهل أدركنا أن امتيازات العقل ومحاكماته لا يمكن طرحها في حق مسلوبي الحرية، ولا أظن عاقلا يظن الحرية بمفاهيمها الإنسانية العليا يقصد بها احتياجات الثدييات فقط من مأكل ومشرب ومسكن وتوالد مجردة دون ما يستتبعها من قيم إنسانية، فما الذي بقي لنا من مفاهيم إن لم تزد مطالبنا عن هذه المسائل.
كان الشعب التونسي مختنقا، والمقرف في الأمر أن تجد من يعترف بأهلية الجماهير ما دامت تعطي الهتاف لأجل المستبد وكل التصفيق الحماسي لخطبه الرنانة، وعندما يتقيأ الشعب هذا الدور السمج الذي يساق له بالحديد والنار، ترى الغضب والازدراء ممن يتساءل عن مستوى الثقة بالجماهير وآراءها المتقلبة، متناسيا أن تقلبها مرتبط بتقلبات الحاكم في وعوده التي لم يصدق فيها، وسجونه التي ملأها ببني جلدته من شعبه، وبعد كل ذلك يأتي بكل فجاجة ليقول لهم: (نعم أنا فهمتكم... فهمتكم) أبعد ثلاث وعشرين عاما للتو تفهم ؟!!!!.
هل المثقف داعية حياة أم داعية موت وإحراق جسد؟ المثقف داعية حياة إنسانية حرة أما أقل من ذلك فيلزم الصمت لأن في مثيلاتنا من الثدييات الكفاية، إن دوره يكمن في تعرية الواقع المزيف ليراه الناس، وبعد ذلك تتنوع القدرات الإنسانية في التعبير عن ما فهمته، واللوم كل اللوم يكون في حق المستبدين وأنظمتهم التي تضطر الشعوب إلى أضيق الطرق في (حرية الرأي والتعبير) من خلال حرق أجسادها، أو فلنرتل مع مظفر النواب هذا الدعاء: (وطني! أنقذني رائحة الجوع البشري مخيفة.... وطني! أنقذني من مدن سرقت فرحي... أنقذني من مدن يصبح فيها الناس مداخن للخوف وللزبل مخيفة).
إن إلغاء دور المثقف من المجتمع ليبقى ذيلا من ذيول السلطة المستبدة، يجعلنا نضطر لتكثيف الصورة من خلال حكاية تلك القرية التي كانت تعاني الجهل والفقر والمرض عندما زارها الوالي يسألها عن نواقصها وما تحتاجه، ولأن أهل القرية كانوا آمنين مع أغنامهم وحقولهم، فقد طلبوا من الوالي أن يأذن لهم: بإقامة صلاة الاستسقاء كي يهطل المطر، ليأتي ذيل السلطة فيقترح على الوالي انتداب أحد الملالي للصلاة بهم، وليذكرهم أن حلول جميع مشاكلهم بكل تنوعاتها يكمن في (تقوى الله، والتوكل على الله) التي يكررها كلازمة يستجيب لها القروي بخضوع مرددا (ونعم بالله ونعم بالله) !!! إن واجب المثقف هنا أن يوضح ويبين، ليحكي ويذكر القرية بكل استحقاقاتها من تعليم ومراكز تنموية وصحية وطرق وكهرباء.... ليصل بهم أخيرا إلى حقوقهم السياسية، فهل نقول إن المثقف (ينكد على الناس طمأنينتهم) أم نستكمل دعاء النواب :(أنقذني من مدن ترقد في الماء الآسن كالجاموس الوطني وتجتر الجيفة).
ما زال الكثير من المستبدين يظن أن حرية الرأي والتعبير تعني عنده حرية الصراخ لتشكيل ظاهرة صوتية (لا تهش ولا تنش) متناسيا أن التعبير لا يكون إلا بعد امتلاك الرأي، والرأي لا يكون إلا بعد إشغال الذهن، بحثا عن مخرج لحياة كريمة، من خلال ما يستحق القول، فهل تقبل الانتلجنسيا الشعبية أن يذهب ما حاك في نفسها من تساؤلات ملحة قتلتها تمحيصا وتفكيكا مما يمس كرامتها اليومية في نوع حياتها وشكلها؟!!، هل تقبل الانتلجنسيا الشعبية أن يصبح رأيها والتعبير عنه مجرد صراخ لا يفهم منه المستبد شيئا، ولا يفيق لدلالاته إلا إذا اقتربت من عرشه؟!!.
حرية الرأي والتعبير لا تعني كل ما سمح به زين العابدين بن علي من خلال أبواقه، فما كان يُكتَب أو يقال في إعلامه ليس إلا هوامش تشبه كلمات الحرية لتزييف الوعي، مما تتطلبه مسائل الدعاية والإعلان فقط.
بقيت المواعظ الرخوة التي يطرحها البعض من خلال قولهم: ابدأ بتغيير نفسك ولا تنشغل بغيرك؟ فكيف أغير نفسي عند من لا يقبل تغير المجتمع وأنا أحد أفراده؟!!، وما هو التغيير الذاتي الذي يحقق امتداداتي الإنسانية بتنوعاتها الفكرية والفنية عند من لا يقبلها سوى في نهر أمجاده، وتحت عباءته، وإن كانت خارج هذا السياق فيجب أن تكون كلمات لا تحمل الروح في معانيها، وإن حملت تلك الروح فالإيقاف والسحل.... كيف يكون التغيير الذاتي عند من يتفذلك به، وأنا أخالط مجتمعا مقموعاً لا يكفي فيه قراءة كتاب (الإنسان المقهور) الذي اكتشف فيه مؤلفه بعد الانتهاء منه أن الفرد في الوطن العربي لا يعنيه هذا الكتاب، فما يعنيه هو مؤلفه الثاني بعنوان (الإنسان المهدور).
إن (معذبوا الأرض) الايجابيون يدركون حقيقة الوجود التي تتجلى في البحث عن معنى... عن هيولى.... وإن لم يوجد، فلا أقل من سديم لقوس قزح في أمل يجعل الياسمين يتكرر في كل زمان ومكان، لأولئك الذين يختارون اشتعالهم خيرا من حياة الاستبداد.
ختاما لنقرأ على أرواحهم: (والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد ومشهود * قتل أصحاب الأخدود) ونحن يا (بوعزيزي) على ذلك شهود، ولا ننسى أن نقول: لقد ذهب بن علي وبدأت المتاعب، لكنها متاعب الحرية، وفي تونس الخضراء أمل.

مجاهد عبدالمتعالي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزارة الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني كان يستهدف


.. قنابل دخان واشتباكات.. الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا لفض اعت




.. مراسل الجزيرة: الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل عددا من


.. شاحنات المساعدات تدخل غزة عبر معبر إيرز للمرة الأولى منذ الـ




.. مراسل الجزيرة: اشتباكات بين الشرطة وطلاب معتصمين في جامعة كا