الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور المجتمع المدني ومعطيات جديدة في الحدث التونسي

نقولا الزهر

2011 / 1 / 19
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


دور المجتمع المدني ومعطيات جديدة في الحدث التونسي
لم يكن الخبر عادياً لا في شكله ولا معناه الذي انبثق من تونس في اليوم السابع عشر من كانون أول الماضي: شاب خريج جامعي يدعى(محمد البوعزيزي)، يحرق نفسه في أحد شوارع مدينة (سيدي بو زيد) احتجاجا على كونه عاطلاً عن العمل. المشهد جديد وغير مألوف في منطقتنا العربية، وإنما يحدث في مناطق شرق آسيا،وكلنا يتذكر الرهبان البوذيين في فييتنام كيف كانوا يضرمون النار في أجسادهم في الستينات من القرن الماضي احتجاجاً على الاحتلال الأميركي لبلادهم. ويقال أن محمد البوعزيزي قد أقدم على حرق نفسه، على أثر صفعة من شرطي بعد أن رفض أن تصادر عربته التي يبيع عليها بعض الخضار والفواكه ليحصل على أود عيشه، بعد أن تقطعت به السبل، ولم يجد عملاً بشهادته الجامعية التي يحملها.
لا أحد يعرف ماذا كان يجول في خاطر محمد البوعزيزي في تلك اللحظة، بكل تأكيد كانت تسيطر على ذهنه مساحة كبيرة من اليأس وخيبة الأمل. ولربما لم يتحمل الرجوع إلى بيته وليس في جيبه ما يستطيع أن يساعد به عائلته الفقيرة جداً، فضاقت به الدنيا كثيراً، وانسد أفق استمرار الحياة لديه، ففضل الموت. ولكن نظلم هذا الشخص كثيراً إذا اعتبرنا ما قام به مجرد انتحار عادي؛ فإن طريقة إنهاء حياته التي اختارها كان فيها الكثير من الشجاعة والتحدي وروح الاحتجاج العميق، ولا نعتقد أن هذا الشاب الجامعي في تلك اللحظة المأسوية والدرامية كان لا يعرف أن هناك الألوف من أبناء وطنه الذين يعانون مثله من البطالة والفقر والجوع، ولذلك فخياره لا يمكن أن ننفي علاقته بذهن سياسي كان لديه، فأراد أن ينهي حياته بطريقة الحرق احتجاجاً على الوضع العام البائس الذي يسود في مجتمعه. إن الشهيد محمد البوعزيزي ربما لم يخطر في باله أن موته سيشكل شرارة انتفاضة عارمة تشمل كل مدن وطنه وتنقل تونس من حقبة إلى حقبة، ولكن لا نعرف إذا كان قد بقي بكامل وعيه بعد أن نقل إلى المستشفى وخلال الأيام التي بقي فيها قبل موته، نتمنى أن يكون قد رأى بأم عينيه تسونامي الاحتجاج الذي أخذ يعم تونس وأن تقر عينه ويتيقن من أن تضحيته بنفسه لم تكن مجرد صرخة في واد.
*******
في الواقع، إن الحدث التونسي استثنائي بكل المقاييس، وكان مفاجئاً للمجتمع الدولي ووقعه صاعقاً على العالم العربي، وحتى على مستوى الداخل التونسي ربما لم يكن مفاجئاً تماماً ولكنه لم يكن متوقعاً أن يكون بهذا السيناريو وهذا النظم المتسارع.
لم يكن أحد يتوقع أن احتجاجا فرديا يمكن أن يحرك المجتمع التونسي بأسره ويجبر زين العابدبن بن علي على الهرب؟ ولكن من الملفت للانتباه هذا الدور الفريد الذي قامت به مؤسسات المجتمع المدني التونسي، ويبدو أن هذه المؤسسات كانت متهيئة ومستعدة تنتظر لحظة ملائمة للتحرك، وكانت هذه اللحظة (إضرام البوزيدي النار في نفسه) فقامت برعايتها على الفور وأوصلتها إلى ما وصلت إليه .وهنا تكمن استثنائية الانتفاضة التونسية، في أنها لم تقاد من حزب محدد أو تحالف أحزاب سياسية، وإن كنا لا ننفي على الإطلاق التحاق وإسهام السياسيين والحزبيين بهذه الانتفاضة. وكذلك يجب أن نشير هنا، إلى أن هذا الحدث التونسي الكبير لم يكن مخضباً بأي نكهة إيديولوجية معينة ولا يتسم بأي سمة دينية أو مذهبية أو طائفية أو جهوية، وإنما كانت انتفاضة المجتمع بكامله من أجل المواطنة والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية. ولقد كان المجتمع المدني التونسي بارزاً منذ بداية أحداثها، ولقد تبين أن هذا المجتمع بنقاباته وهيئاته وأحزابه كان يملك الكثير من القدرة على الوعي والمبادرة والتحرك السلمي والتنظيم وهذا ما أسهم كثيراً في نجاح الانتفاضة. ولكن من جانب آخر يذكرنا هذا الحدث التونسي الكبير بأواخر الثمانينات وأوائل التسعينات حين تهاوت الأنظمة الشمولية في (المعسكر الاشتراكي السابق)، ويؤكد مرة أخرى أن النظام الشمولي لا يجعله منيعاً على الانهيار، حرمان الشعب من التعبير، وسد كل المنافذ على العمل المعارض بالقمع والسجن والنفي، فإن إمكانية تفجره واردة جداً، تحت وطأة اندلاع الحركات الشعبية العفوية بفعل القمع والفساد والفقر من جانب، ومن جانب آخر بسبب ازدياد حجم التناقضات والاختلاف على المصالح في داخل النظام ذاته. وهذا ما رأيناه في سياق الأحداث الأخيرة في تونس.
وفي الواقع كانت الانتفاضة التونسية اجتماعية بامتياز ويفوح منها عبق ماركس ودور العامل الاجتماعي في التغيرات السياسية، ولكن ليس ماركس وحسب وإنما عبق فولتير ومونتسكيو وأفكار الثورة الفرنسية والحرية والديموقراطية والمساواة والمواطنة. وإن تونس كانت سباقة إلى هذا الفكر الحداثي ولا ننسى أنها أنجبت أحد أهم الإصلاحيين الكبار في القرن التاسع عشر(خير الدين التونسي) وكذلك تتوفر فيها طبقة من المثقفين الكبار الذين "يدافعون عن القيم" كما قال المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، قيم التجديد والحداثة والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والمواطنة والعدالة الاجتماعية.
دمشق في 18/1/201








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أستاذنا الكريم السيد نقولا الزهر المحترم
ليندا كبرييل ( 2011 / 1 / 19 - 18:09 )
كل عام وأنتم بخير أرجو لحضرتك الصحة والسعادة والتوفيق . أستاذ : بو عزيزي انتصر للفكرة التي ألحت على ذهنه من وراء عربة الخضار وهو الآتي من الطبقة المسحوقة التي لم تكن بحاجة إلى التهريج في التصريحات التي لا تلد إلا المواقف الارتجالية، المجتمع التونسي يرفل نسبياً بنعيم القوانين الحديثة والمتقدمة التي أسس لها الرئيس بورقيبة ولديه قاعدة علمية وعلمانية الميول ومنظمة تنظيماً ساعدها على الاستجابة لتطورات الظروف. الفارق كبير بين مستوى الوعي في تونس وبينه في البلاد العربية الأخرى . شكراً لك .


2 - بوعزيزي انتصر لكرامته
فلورنس غزلان ( 2011 / 1 / 19 - 21:09 )
أيها الرائع ابا نسرين
بوعزيزي وحسب مقابلات تمت لأكثر من قناة تلفزيونية مع عائلته- والدته ، أخواته- أنه اختار هذه المهنة كي لايبقى دون عمل يذكر ويعيل منها أسرته، لكن شرطة البلدية لاتتوقف عن ملاحقته ومخالفته إن لم يدفع لها الرشاوي، وتقدم بأكثر من شكوى لرئيس البلدية لم يستمع لها أحد، وفي اليوم المشهود، الذي دفعه للإقدام اعتراضاً واحتجاجاً..على مافعلوه..كان قد ضربه أحد شرطة البلدية وأهانه ولعن أهله..فشكاه ثلاث مرات..دون أن يلقى إذناً صاغية..فما كان منه إلا أن أضرم النار في نفسه أمام البلدية...إنه يثأر لكرامته وكرامة التونسيين المهدورة على يد أزلام ابن علي، الذين رضعوا وتربوا في أحضان الفساد وانعدام الأخلاق والضمير الوطني..إنه صورة صادقة عن معاناة شعب مقهور ..يصرخ ويستغيث من الظلم ولا تسمع استغاثته...لأن آذان الديكتاتوريات لاتسمع إلا لأجهزتها الأمنية..ولا يصلها صوت الشعب والشارع..من أمثال بوعزيزي
أحييك


3 - تحية للسيدة ليندا
نقولا الزهر ( 2011 / 1 / 19 - 21:12 )
تحياتي الحارة لك السيدة ليندا.إني متفق معك تماماً بان المجتمع المدني التونسي يملك من الاستقلالية وقوة المبادرة وروح المواطنة والعلمانية وعدم التزمت الديني ولذلك فقد استطاع احتضان احتجاج الشهيد محمد بوزيدي بقوة وطور الاحتجاجات إلى انتفاضة استطاعت أن تطيح بالنظام الفاسد والمستبد.شكراً لك على مرورك وتعليقك


4 - تعليق على تعليق
نقولا الزهر ( 2011 / 1 / 19 - 23:40 )
شكراً أم رشا على مرورك وتعليقك.وفي اغلواقع نورتيني أكثر حول شخصية هذا الإنسان الذي جعل من نفسه شرارة للهيب الانتفاضة التونسية.وفي الواقع الشهيد محمد بوعزيزي صار رمزاً تاريخيا كبيراً وستبقى ذكراه خالدة لدى الشعب التونسي.تحياتي

اخر الافلام

.. ماذا قال النائب الفرنسي الذي رفع العلم الفلسطيني في الجمعية


.. لا التحذيرات ولا القرارات ولا الاحتجاجات قادرة على وقف الهجو




.. تحديات وأمواج عاتية وأضرار.. شاهد ما حل بالرصيف العائم في غز


.. لجنة التاريخ والذاكرة الجزائرية الفرنسية تعقد اجتماعها الخام




.. إياد الفرا: الاعتبارات السياسية حاضرة في اجتياح رفح