الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


»موضة« الموت حرقاً!:بيانات سياسية بالأجساد

سعد هجرس

2011 / 1 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


بعد أن فعلها محمد البوعزيزى، وأضرم النار فى نفسه، بدأت »عدوى« هذا الاسلوب تنتشر خارج تونس شرقاً وغرباً، وأصبحت محاولات »الانتحار حرقاً« خبراً »عادياً« فى نشرات أخبارنا.
وهذا أمر عجيب وغريب يستحق أن نتوقف أمامه بالرصد ومحاولة التفسير.
صحيح أن »الحالات« معدودة لايتجاوز عددها حتى الآن أصابع اليدين، ولم تتحول بعد إلى »ظاهرة« .. لكن من غير المعقول أن نجلس مكتوفى الأيدى حتى يتزايد عدد من يضرمون النار فى أنفسهم ويصل إلى مستوى الظاهرة ..ثم نبدأ وقتها فقط الاهتمام!!
من ناحية أخرى فإن عملاً فردياً و احداً، قام به الشاب الجامعى التونسى محمد البوعزيزى، الذي لم تنفعه شهادته الجامعية بشيء، واضطرته الحاجة إلى أن يبيع الفجل والجرجير على ناصية الطريق، واسودت الدنيا فى وجهه ولم يجد مايفعله عندما صفعته واحدة من أعوان الحرس البلدى رغم هذا البؤس المروع، فما كان منه إلا أن أشعل النار فى نفسه.
هذا العمل الذي قام به فرد واحد كان بمثابة الشرارة التى أطلقت ثورة الشعب التونسى ضد واحد من أكثر النظم الحاكمة استبداداً وقسوة.
ومع أنه لايمكن القول بأن رد فعل »البوعزيزى« هو »سبب« الثورة الشعبية التي أجبرت الديكتاتور التونسى على الفرار والهرب من البلاد، فإنه بكل تأكيد كان »الشرارة« التي تفاعلت مع الكثير من العوامل الموضوعية، اقتصادية واجتماعية وسياسية، تراكمت علي مدار سنوات، وكانت تنتظر لحظة الانفجار..
وجاء هذا العمل اليائس من الشاب التونسى المحبط ليوفر هذه اللحظة.
إنه عود الثقاب الذي كان برميل الزيت ينتظره كي يشتعل ..وقد كان.
والتاريخ ملىء بمثل هذه الاحداث الفردية الصغيرة، التي توافقت مع ظروف ومعطيات موضوعية وتفاعلت معها فكانت بمثابة نقاط تحول فى مسار البشرية.
الجديد هو أن فعلة »البوعزيزى« أصبحت مثالاً يحتذى به البعض خارج تونس.
وللأسف الشديد راح ضحية تقليد هذا الاسلوب شاب سكندري لايزيد عمره عن 25 عاماً أشعل النار فى نفسه احتجاجاً على البطالة التى لم يجد طريقاً للخروج من طوابير جيشها العرمرم!
وأول سؤال يطرح نفسه هو: لماذا يفعل شخص، أى شخص، ذلك بنفسه؟!
الاجابة السريعة على مايبدو هى المعاناة من مشاكل اجتماعية تتعلق بـ »البقاء« علي قيد الحياة، وأخطرها البطالة.
لكن البطالة ـ وغيرها من المشاكل الاجتماعية ـ موجودة فى كل بلدان العالم، بما فيها البلدان »المتقدمة« ـ فلماذا لايقوم المتضررون من وحش البطالة باحراق أنفسهم هناك؟
الواضح أيضاً أن السبب هو أنه لايبدو ـ فى حالة البلدان العربية ـ ضوء فى نهاية النفق، ولايكترث المسئولون ـ كباراً كانوا أم صغاراً ـ بأن يشفوا غليل هؤلاء الشبان الذين تمثل البطالة لهم نوعاً من القتل البطيء، أو أن يعطوهم أملاً حقيقياً فى الغد، خاصة وأن هذه اللامبالاة الحكومية تكون مقترنة غالباً بشيوع المحسوبية والواسطة فى شغل الوظائف البعيدة عن مبادىء الكفاءة أو تكافؤ الفرص.
أضف إلى ذلك تفشى الفساد والثراء غير المشروع.
ثم إن وسائل التعبير، المشروعة والسلمية فى معظم أرجاء العالم العربى تبدو مسدودة بإحكام على عكس الغالبية العظمى من سكان الكرة الأرضية، سواء كانت هذه القنوات سياسية أو نقابية. فتداول السلطة سلمياً مثله مثل الغول والعنقاء والخل الوفى، وكلها أمور محبطة بلاشك، بحيث يصبح البقاء معها على قيد الحياة هو والموت سواء بسواء.
***
وعلى الأرجح أن هذه الصورة التعيسة هى مارآه »البوعزيزى« فى اللحظة التى اتخذ فيها قراره باشعال النار فى نفسه.. فهو شاب جامعي اضطرته الظروف الظالمة إلى أن يبيع الفجل والجرجير على قارعة الطريق . ثم لم تشعر السلطات المعنية بالخجل لفشلها فى توفير فرص عمل للخريجين الجامعيين بل إنها كانت من الصفاقة بحيث طاردته وضيقت عليه حتى فى بيع الفجل والجرجير وطالبته بالحصول على ترخيص!!
ثم زادت الصفاقة ووصلت إلى حد »الإفتراء« ـ بالمعنى المصرى ـ عندما صفعت شرطية البلدية الشاب الجامعى لأنه تجاسر على مناقشتها.
ثم إن حصوله على حقه أو رد اعتباره مستحيل لأن المعارضة التي يمكن أن تدافع عنه وعن أمثاله فى مواجهة هذا الظلم إما مدجنة أو مطاردة.
حتى »الفضفضة« و»التنفيس« عبر الاعلام التقليدي، أو الاعلام الجديد من مدونات وخلافه، مكبلة بألف قيد وقيد.. فأين المفر؟!
تخيل نفسك مكان »البوعزيزى«.. فماذا يمكن أن تفعل؟!
لهذا يمكن القول بأن الإقدام على محاولة الانتحار حرقاً ـ على طريقة البوعزيزى ـ هو »بيان سياسى بالأجساد« احتجاجاً على واقع ظالم وفاسد ومستبد ومسدود الأفق، حتى وإن كان احتجاجاً يائساً وعدمياً.
***
وهو بهذا ا لمعنى موقف يستحق التعاطف، وإن كان لايستحق التشجيع، لأن الاصل هو الانتصار للحياة لا للسعى إلى الموت، وحتى إن كانت الطرق المؤدية إلى استمرار الحياة والبقاء مسدودة ومغلقة بالضبة والمفتاح فان الحل ليس هو التضحية بالحياة بل النضال ضد أعداء الحياة وضد السياسات التي خلقت هذه الأوضاع اللا إنسانية.
ولهذا نرى أن شاعر تونس، والعرب، العظيم أبوالقاسم الشابى لم يبشر بالموت بقل قال "إذا الشعب يوماً أراد الحياة.." وليته كان حياً حتى يرى كيف حركت كلماته الخالدة الملايين ومنحتهم طاقة جبارة فجرت ثورة شعبية رائعة ضد الطغيان والقيد الذى يوشك أن ينكسر.
***
ويبدو أن هناك مستجدات أدت إلى ظهور هذه الوسيلة الجديدة من وسائل الاحتجاج حرقاً.
من هذه المستجدات شيوع »ثقافة الانتحار« فى كثير من المجتمعات العربية والاسلامية، فرأينا انتشار العمليات الانتحارية مثلاً، بالتوازى مع انتشار الأدبيات التى تسوغ هذه العمليات.. وهى أدبيات ترفع شعار »من يبايعنى علي الموت« وتجعل الموت هدفاً نبيلاً .. في حين أن الحياة هى الأنبل بكل تأكيد.
وعندما نتحدث هنا عن الحياة ..فإنما نتحدث عن الحياة بكرامة طبعاً.
>>> وإذا كانت حالات الانتحار »العادية« تنطلق من هشاشة واختلالات نفسية، فإن العمليات الانتحارية »الاحتجاجية« ـ بأشكالها المختلفة ـ لها أدبياتها التى تعطيها »منطقها« و»حوافزها« و»مكافآتها« ..سواء في الدنيا أو الآخرة.
وبدون الدخول فى تفاصيل هذا الموضوع المعقد، والذي تتشابك فيه اعتبارات السياسة والاقتصاد والثقافة، فإن خلاصة القول هى أن » ثقافة الانتحار« دخلت إلى حياتنا بطريقة أو أخرى.
***
ونحن العرب، والمصريين، لم »نخترع« هذه الثقافة الانتحارية، أو على الأقل لم »نحتكرها« وهى بالمناسبة ليست كلها ثقافة سلبية، بل إن لها تجليات إيجابية منها فلسفة الاستشهاد الذى هو وجه ايجابى للانتحار عرفته كثير من الشعوب فى حروبها.. لعل من أشهرها ثقافة »الهارى كارى« اليابانية حيث رأينا الطيار اليابانى يقود طائرته ويقتحم بها أهداف العدو ليدمرها ويدمر نفسه معها.
>>>
لكننا رأينا أوجهاً سلبية لهذه الثقافة الانتحارية واكتوينا بنارها .. ومن أمثلتها أولئك الذين يلبسون أحزمة ناسفة ويفجرونها فى تجمعات من يتصورون أنهم أعداؤهم، ويفجرون أنفسهم معهم.. وهو ماحدث على الأرجح فى كنيسة القديسين بالاسكندرية أول أيام هذا العام مثلاً...
وهذا يعنى أننا بحاجة إلى تعزيز »ثقافة عشق الحياة« فى مواجهة ثقافة الموت والانتحار، وهذا لن يتأتى بترديد الشعارات، وإنما بتوفير »البنية التحتية« لهذه الثقافة التي تقدس الحياة.
يعني باختصار.. المطلوب القضاء على الأعشاب السامة التي جعلت الحياة فى وجه »البوعزيزى« التونسى والمصرى والموريتانى،..، أسود من قرون الخروب.
وعلى أنقاض هذه الأعشاب السامة ..مطلوب بلورة الخطوط العريض لعقد اجتماعى جديد بصورة ديمقراطية، وإرساء دعائم البنية التحتية لدولة مدنية ديمقراطية حديثة ..تكون الحياة فيها ممكنة.. وممتعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لإن عادوا لأقطعن يدك
د.فؤاد حمادة ( 2011 / 2 / 8 - 00:19 )
وقف الفقهاء والمفكرون والأدباء والأحرار واجمين أمام فعل البوعزيزي فترحموا عليه حينا ولاموه حينا ومجدوه حينا وكفروه حينا
وأنا هنا استشهد بحالة تاريخية بحاجة لقراءة جديدة وهي حكم عمر على الرعاة في يوم الرمادة
حيث كانوا أكلوا خروفا من القطيع وادعوا بأن الذئب أكله لكن سيدهم استطاع أن يعرف الحقيقة ويأخد منهم الإعتراف ثم يذهب بهم للأمير عمر بن الخطاب ليقيم عليهم الحد ولكن عمر لما علم أنهم فعلوا ذلك لأن سيدهم جوعهم حتى سرقوه قال قولته المشهورة لإن عادوا لأقطعن يدك
وبناء عليه يمكن قياس الحكم على كل حاكم ألجأ شعبه أو واحدا منهم إلى حرق نفسه أن يأمر القاضي ببراءة المحترق وأن يأمر بحرق الحاكم جزاءتقصيره وظلمه

اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-