الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس وأثر الفراشة.

رائد الدبس

2011 / 1 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


بشائر يناير أو جانفي التي جاءت من تونس في مطلع العام الجديد، عبر انتفاضة الحرية والكرامة والديمقراطية، تدفع الحكام والمحكومين، والمحللين والمثقفين والباحثين، إلى محاولة فهم ما حدث وكيف حدث، وماذا يحدث الآن بعد سقوط نظام بن علي. ولعل مفتاح فهم الحدث يكمن في فهم مسألتين رئيستين هما: العودة لدراسة طبائع الاستبداد وفساد السياسة. ثم دراسة خصوصية الحالة التونسية والبيئة الاجتماعية- التاريخية للشعب التونسي.
واحدة من أهم طبائع الاستبداد هي تعميم ثقافة الفساد في السياسة والمجتمع على أوسع نطاق ممكن . وأن يجري هذا التعميم مترافقا مع نشر ثقافة الخوف والرعب من التفكير بالتعبير الحر وليس مجرد التعبير. يعرف الشعب التونسي وكل من عاش في تونس خلال سنوات العهد البائد أن فساد السياسة قد أدى إلى مصادرة كل شيء، ابتداءً من مصادرة السياسة ذاتها من حياة الناس وتفكيرهم، مروراً بمصادرة الثقافة والاقتصاد، وانتهاءً بمصادرة كل الحريات العامة، كتحصيل حاصل. ومن الإنجازات الإبداعية لنظام بن علي أنه أضاف طبعاً جديداً لطبائع الاستبداد وهو القدرة على إظهار نفسه كنظام نموذجي في السياسة والاقتصاد والثقافة والحريات العامة والفردية، وفي كل نواحي الحياة الأخرى، وفي محاولة إقناع التونسيين والتونسيات، ثم العالم كله، أن الحياة في تونس، تكاد تكون بمثابة الجنة الأرضية. وذلك من خلال ما يوفره النظام البوليسي الشديد المركزية والحزم، من أمن واستقرار وتنمية وضمان للحريات الفردية الاجتماعية . وكان يمارس إبداعاته إلإقناعية تلك، ضمن منطق خطاب " بكل حزم.. بكل حزم".
لكن من سوء حظ الدكتاتور ومنظومته الأمنية القوية، أنهم كانوا يحكمون شعباً يمتلك الكثير من أوراق القوة التي لم يكونوا يمتلكونها. فالشعب التونسي يمتلك ذاكرة وتربية وطنية أصيلة، كما يمتلك تقاليدَ عريقة في العمل النقابي والنضال الاجتماعي والوعي الحقوقي والدستوري، بالإضافة إلى مستوى عال جداً من التعليم والثقافة والفنون. كل هذه العناصر الأساسية شكلت نوعاً من البيئة الاجتماعية المميزة لتونس وشعبها المعروف بثقافة الانفتاح والتسامح القائمة على إحساس عال بالكرامة الوطنية الجمعية والفردية. فبرغم كل مساعي النظام، على امتداد ربع قرن، أن يفكك العناصر الأساسية لتلك البيئة، وقد بدا له أنه نجح في ذلك إلى حد بعيد، إلا أن حادثة الشهيد محمد البوعزيزي، وقد جاءت مثل أثر الفراشة التي شكل احتراقها سبباً كافياً لخروج الجمهور غاضباً من مشاهدة مسرحية شريرة تافهة كان مجبراً على حضورها بصمت وقهر، على امتداد ربع قرن من الزمن البنفسجي اللون للممثل الأوحد المحاط بجوقة من الفاسدين والحراس والعسس. ومن باب الطرافة، بعد إلقاء الرئيس المخلوع لخطابه الأخير الذي يمكن تسميته خطاب الدكتاتور المذعور، قال فيه لشعبه ضمن محاولة بائسة لتقليد العبارة الشهيرة للجنرال ديغول، ولكن بلهجة تونسية محببة: " أنا فهمتكم، فهمتكم" وقدم فيه سلسلة من الوعود بالإصلاح والديمقراطية والحرية، سألت صديقاً تونسياً ، هل سيسامحه الشعب ويهدأ ويقتنع بهذه الوعود؟ قال لي: "لو كان بن علي أذكى قليلا لقدم هذا الخطاب قبل عشر سنوات مثلاً، وطلق زوجته واعتقل إخوانها الفاسدين الذين نهبوا البلاد وأذلوا الناس، فربما كان الشعب سيسامحه ويقتنع بوعوده ويمنحه فرصة أخرى كي يبقى في الحكم، أما الآن فهذا غير ممكن". في اليوم التالي لهذا الخطاب كان الدكتاتور المذعور المخلوع يجوب الأجواء بطائرته ليلاً، باحثاً عن دولة تؤويه فلم يجد غير المملكة السعودية، وانتهى عهده في الظلام مثلما بدأ.

تحليلات كثيرة كتبت وسوف تكتب في هذا السياق، غير أن فهم حقيقة الوضع يتطلب شيئاً من معرفة وفهم هذه البيئة الاجتماعية التونسية، وفهم الشخصية التونسية أيضاً . فحادثة البوعزيزي التي أشعلت ثورة الكرامة والحرية في تونس، ويقوم الآن شباب عربي غاضب بتقليدها من الجزائر إلى اليمن، هي حادثة بنت بيئتها التونسية المتسامحة والشديدة العاطفة والحساسية تجاه فعل من هذا النوع. وقد جاءت تلك الحادثة في لحظتها التاريخية الناضجة تماماً لاستقبالها والتحرك بناءً عليها. فمنذ سنوات طويلة كان الشعب التونسي يعاني ليس من الاستبداد والقمع والفساد والإفقار المنظم فحسب، بل يعاني من جرح في الكرامة الوطنية الجمعية والفردية. كثيراً ما كان الشعب التونسي يهمس بالحنين إلى أيام الزعيم الراحل بورقيبة، الذي رفض هذا النظام أن يسمح لشعبه أن يودعه بجنازة تليق به، أو يهمس بالخجل من حقيقة كان يعرفها جيداً، وهي أن زوجة الرئيس بن علي هي التي تقود البلاد فعلياً بالتعاون مع عصابة آل الطرابلسي، وأنها تهيئ نفسها للرئاسة القادمة عام 2014. ناهيك عن معرفة الشعب لتاريخها الشخصي ومواصفات كفاءتها المهنية..(يلقبها التونسيون بالحجَامة، أي الحلاقة) هذه الحقائق وعوامل أخرى غيرها كان الشعب يهمس بها همساً، وبدأ يتداولها جيل الشباب التونسي المستقل عبر الفيسبوك وغيره من المواقع الاجتماعية ، هي التي صنعت الثورة أو الانتفاضة الشعبية الشبابية التونسية تماماً .تلك الانتفاضة التي ستكون بدورها كأثر الفراشة في ليل العرب.

يقال في تونس الآن وخارجها الكثير من الكلام السياسي وغير السياسي، وهنالك من يحاول تجيير الثورة لمصالح حزبية ضيقة والمزايدة عليها، وهنالك أعداء داخليون وخارجيون خائفون منها ويتآمرون عليها. خطاب القذافي يمكن أيضاً فهمه كخطاب الشعور بالمصير المشترك القادم ، فهو خطاب موجه للشعب الليبي، على طريقة المثل القائل: إياكِ أعني واسمعي يا جارة. أما إسرائيل التي تتشدق بديمقراطيتها، فلم تخفِ حزنها وأسفها على سقوط نظام بن علي، وباشرت فوراً بالترويج لخطر التطرف الإسلامي القادم في تونس، مع علمها وإدراكها التام بحقيقة الأمور، وبأن هذه الانتفاضة أثبتت غياب التيار الإسلامي عنها تماماً. لكن تصريحات الزعماء الإسرائيليين وخصوصاً سيلفان شالوم ، تحاول أن تتلاعب على مزاج شعبوي لتضخيم دور تيار الإسلام السياسي في تونس، مع إدراكها المسبق لضآلة هذا الدور.
يُراد لشعوبنا العربية كلها أن تبقى مشلولة الإرادة أمام ثنائية اختيار أحد الشرين كأنهما قدر لا رادَ له :إما استبداد أنظمة تتدثر بعباءة العلمانية وتنزع روحها وعقلها، وإما استبداد التيارات الأصولية والظلامية التي تنزع أساس وجود فكرة بناء الدولة الحديثة وتجهضها قبل ولادتها المتعثرة..انتفاضة تونس المجيدة أثبتت من بين ما أثبتت، سقوط هذه الثنائية القدرية الشريرة .
أخيراً، لا بد من كلمة لمن يوجهون النصائح للشعب التونسي البطل من المكاتب المريحة في استديوهات الفضائيات ، ويختلفون على تسمية انتفاضته المجيدة، أليس من الأفضل التوقف عن ذلك والتفكير باستخلاص وتعلم الدروس من هذا الشعب الذي أثبت جدارة ووعياً قلَ نظيره في بلادنا العربية ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حرية
ماري عيلبوني ( 2011 / 1 / 19 - 22:02 )
مقال تحليلي وعميق ينم عن فهم للشخصية التونسية بشكل عام والوضع السياسي والتاريخي لتونس بشكل خاص. والباحث الفلسطيني رائد الدبس استطاع وبشكل منطقي ان يرصد اهم تطورات الوضع في تونس و ذكر أن الناس صارت تترحم وتستذكر ايام بورقيبة بالمقارنة مع النظام الفاشي لبن علي واسرته التي عاثت فسادا بمصير وامول التونسيين وحرمتهم ،وكما ذكر الباحث ،حتى مجرد التفكير بالتعبير عن سخطهم ورفضهم لما يتعرضون له من قمع وقهر ،كانت نتيجته تلك الثورة الشعبية العارمة التي استطاعت بالارادة تحقيق المستحيل، ولنا ان نتسأل معه أليس من الأفضل التوقف عن ذلك والتفكير باستخلاص وتعلم الدروس من هذا الشعب الذي أثبت جدارة ووعياً قلَ نظيره في بلادنا العربية ؟

اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل