الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلاماً ناظم السعود .. ويا فقراء العراق اتحدوا !!

رباح آل جعفر

2011 / 1 / 24
الادب والفن


" الصديق رباح آل جعفر ..
قبل قليل انتهيت من قراءة خطابك المؤثر الذي وجهته إلى الروائي حمزة الحسن .
لقد وجدته شهادة أخرى على عالم تهاوى لم يكن لنا بل كان علينا ..
ولأنني خبرتك معدناً وشعوراً ولغة وقاموساً لهذا لا أعجب أن تطلق هذه القطعة النثرية الباذخة ، التي لو كنت قرأتها أمام المأمون لأعطاك وزنها ذهبا .
اسمح لي أيها الصديق أن أرسل لك تحيتي من قرية مغمورة لا أزور فيها ولا أزار واقبلها مني استذكاراً لأيام أصبحتُ أحصيها بالنهنهات .
ناظم السعود "
غمرتني وأنا أقرأ هذه الباقة من الكلمات التي جاءتني قبل يومين من صديقي الأديب الدؤوب ناظم السعود ، وبيننا غربة وحدود وقيود ، وربما قرود أيضاً ، ذكريات عزيزة على نفسي .. ذكريات أيام خوالٍ ، عشناها معاً في بلاط صاحبة الجلالة ، وفي حضرة " الرأي " الصحيفة .. يوم كان ناظم السعود يقرأ لي أكثر نتاجاته التي يكتبها ، فكنت أرضى كلّ الرضى عن بعضها ، وأسخط بعض السخط على بعضها الآخر ، ولكني في كل الأحوال كنت أتوسّم في كاتبها منذ ذلك الحين الإبداع .
وفي عتمة الحرب ، وتحت التماع القذائف ، وتناثر الشظايا ، وصوت الإنفجارات .. كان ناظم يأتينا إلى " الرأي " كلّ أسبوع مرّة .. يأتينا بنصف جسده .. ونصف عافيته ، ونصف دمه ، وبكامل فجيعته ، متوكئاً على عصاه ، وبوجه شاحب ، حاملاً حواراته وأوراقه الثقافية من نثر، وشعر، وكان يصلنا إلى مقر الجريدة بقدرة الله تعالى .. ولم يكن ثمّة ما يمنعه عن المجيء ، فهو يعتقد أن قلبه مثل محركات ( الرولز رويس ) لا يحقّ لها أن تتوقّف ، وأنه أحد الذين يدافعون لإنقاذ الثقافة العراقية من مجانية الأميّة ، والفوضوية ، والعبث .. في زمن كثر فيه المتسلّلون إلى دار ميّة ، وربع عبلة ، وهودج ليلى العامرية ، وأصبح الأميّون على رأس حركة النشر .
ولقد حدث يوماً لناظم السعود .. هذا الكائن البشريّ ، المعروق ، المسحوق ، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه ، أن سقط بطوله مُغمى عليه ، واصفرّ لون وجهه اصفرار البرتقال ، وكادت روحه تزهق ، ولم يكن حاملاً آنئذٍ علاجه للذبحة الدماغية ، التي ضربته مرتين .. وأخذنا منه صفحته الثقافية ، التي اعتاد أن يتابع تنضيدها ، وتصميمها ، بنفسه .. ونقلناه على عجلٍ إلى مستشفى مدينة الطب لتلقّي العلاج ، وكانت تلك الذبحة الدماغية التي يُصاب بها السعود هي الثالثة ، وفي كل مرّة ينجو منها بإعجوبة من الأعاجيب !.
ذكّرتني هذه الواقعة بقصة مماثلة وطريفة حدثت مع صديقنا الشاعر إبراهيم زيدان ، فقد كان إبراهيم ولا يزال يشكو من مرض الربو ، وحدث أن هبّت عاصفة عاتية كادت تقتلع جدران الجريدة من مكانها ، وإذا بي أجد صدر إبراهيم يضيق ، ولسانه لا ينطلق ، وعينيه تحملقان في عينيّ ، وتستغيثان نجدتي ، فأسرعتُ ومعي أحد الزملاء إلى حمله إلى مستشفى إبن النفيس .. وطول الطريق لم أكن مصدّقاً أنه سيعود بعافيته إلى الحياة ، التي يعتقد أنها أغنية جميلة .
ودارت بنا الأيام .. وابتعدتُ عن ناظم السعود ، وتركت صديقي ساكناً كالصخور الحزينة في قمة الليل ، يواجه مصيره وحده أمام الزمن ، والمرض ، والفقر ، ويذرع شوارع بغداد صيفاً وشتاءً ، ويبحث عن الحبّ الذي أوسع من نجد .. وكنت وما زلت أعتقد ، أن السعود محشور منذ ولدته أمّه في عربة الدرجة الثالثة ( الكوشيت ) من قطار الفقر .. حيث الخبز قليل ، والماء قليل ، والحظ قليل .
ولقد تفتّح حزن كثير غداة افترقنا .. ويا له من زمان جميل مضى ، وكان الاحتلال الأميركي للعراق كبرى أحزاننا ، وذروة مواجعنا ، نزل على رؤوسنا كالصاعقة .. وبقيت أتابع أخباره بشوق ، وفي بعض الأحيان كنت أتابع بعضاً من حواراته على شاشات التلفزيون ، ونقل لي الصديق العزيز الدكتور طه جزاع ، قبل نحو سبع سنين عجاف ، أن السعود زاره في مبنى جريدة الوطن ، وهو يرأس وفداً لجمعية أسّسها ما بعد الاحتلال ، وسمّاها ( فقراء بلا حدود ) .. ولم أفاجأ بما سمعت ، ولم يثر عجبي ، لأنني لم أكن أتوقع من السعود أن ينتمي يوماً إلى جمعية ( أغنياء بلا حدود ) .. فذلك قدره في الحياة .. وهذا الأديب العليل ، المحدودب القامة ، ذو النظرات الطيبة الوادعة ، والقلب الكبير الملتهب ، ما زال يقاسي شظف العيش ، ويعاني مرارة الحاجة ، بل ويقوم بأعمال قاهرة يسدّ منها حاجاته ، ويعيل أسرته ، وقد أطبقت عليه الحياة من كلّ جانب .
ولقد شاءت الصدف أن نلتقي أنا والسعود في صباح يوم جمعة حزين في مقهى الشابندر ببغداد ، وكان كطبعه ، باحثاً عن الحرف الملون ، والقافية الشرود .. وجلست أتأمّل طويلاً في ملامح وجهه ، وفي هيئته ، وما عليها من ثياب ، ولم أجد شيئاً منه تغيّر .. ولم أتمالك نفسي ، ورحت أضحك .. وسألني السعود مستغرباً : ما يدعوني إلى الضحك ؟!، فبادرته أقول : إنني لم أجد شيئاً جديداً يطرأ عليك ، أو يتغيّر في هذا ( العراق الجديد ) .. وكأنك يا صديقي أحد أبطال الملحمة الإغريقية ، التي تقول : ( ما مكتوب على الجبين، لابدّ أن تراه العين ) !!.
ثمّ .. أليس ذلك كلّه ، يا صديقي ناظم السعود ، ما يدعونا إلى الضحك ؟!.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سلاما ناظم السعود
سلام الشماع ( 2011 / 1 / 25 - 00:34 )
تسحرني مفرداتك يا رباح وهي لا بد سحرت السعود ايضاً.. هذا الانسان كالصبار يصارع اقسى الظروف منذ خلق، وبقي مخلصا وفيا لحرفته التي ادركته.. ولابد انه اتبع مذهب الجواهري في تعليل أاولاده:
أعلل أولادي بشر تعلة خلود أبيهم في بطون المعاجم
وفاؤك لأصدقائك تنطقه كلماتك يا رباح وناظم السعود يستحق هذه الكلمات ويستحق منا ما هو أكثر، ولكن قاتل الله الاحتلال، الذي جعل اديبا مثله لا يجد كسرة خبز يعتاش عليها، وجعلنا نراه يذوي أمامنا من دون ان نستطيع اسعافه، الا بالكلمات التي لا يحتاجها.. ولكن ناظم السعود بما فيه من ألم هو أشرف من كثيرين باعوا وطنهم، بأبخس الأثمان, وناظم السعود مصداق البيت الشهير:
بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ظنوا علي كرام
على البعد احييكما صديقيّ العزيزين، وعلى البعد أذرف دموعي على السعود، وتلك مفارقة كبرى ان يذرف انسان على السعود دموعه..

اخر الافلام

.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة