الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما يرى وما لا يرى في السياسات التدخلية للحكومات العربية

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2011 / 1 / 27
الادارة و الاقتصاد


السياسة "التدخلية" هي مفهوم أو مقولة تدل على تدخل السلطات العامة في النشاط الاقتصادي والحياة الاجتماعية، بقصد توفير العدالة الاجتماعية بين المواطنين وتيسير النشاط الاقتصادي ، بما يوفر القوة الاقتصادية للدولة والرفاهية للمواطنين.
من هنا ، فالتدخلية ليست وضعاً أو "نظاما" وسطاً بين الرأسمالية، باعتبار أنها (التدخلية) تقيد حرية النشاط الخاص، وبين الاشتراكية لأنها تقر الملكية الخاصة لرؤوس الأموال؛ بل هي بابسط صورة تعبير عن رغبة بالدولة بضبط العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين مكونات المجتمع لتحقيق أكبر انسجام ممكن بينهم، وتقليل ما أمكن من صراع وتصادم، بما يوفر للمجتمع –بالختام- نمواً متصاعداً وقوة متزايدة.
هذه هي الغاية المشروعة عالميا لمفهوم السياسة التدخلية والتي على أساسها تتدخل الكثير من الدول الرأسمالية –وقت الازمات تحديدا- للحد قدر الامكان من الازمات الخطيرة والحفاظ على الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة. لكن على صعيد السياسات التدخلية العربية ، فالأمر يأخذ منحنى أخر لا يرتبط بدلالة هذا المفهوم تحديدا بقدر ما يشكل ظاهر مستقلة لوحدها للأنظمة العربية تحت عنوان "التدخل سياسة استراتيجية ثابتة للحفاظ على الأنظمة"، فتدخلها في حركة الاقتصاد نابع من تقييدها لدائرة السياسة والحرية في البلاد ، ولان السياسة تتبع الاقتصاد –حصرا- في الدول العربية- فان الحفاظ على استراتيجية التدخلية الاقتصادية شرطا وجوبياً للحفاظ على استقرار "النظام" لا "الدولة" بمكوناتها .
وببساطة يمكن فهم آليات السياسة التدخلية للحكومات العربية من خلال تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004م الذي وصف الدولة العربية ، بدولة "الثقب الأسود" وذلك تجلياً للظاهرة الفلكية المشهور ، حيث تشكل السلطة التنفيذية "ثقباً أسوداً" يحوّل المجال السياسيي والاقتصادي والاجتماعي المحيط به الى ساحة لا يتحرك فيها شيء ولا يفلت من إسارها شيء، فغالبية دساتير الدول العربية تمنح الرئيس الأعلى للجهاز التنفيذي صلاحيات مطلقة وواسعة لا يقيدها قيد ولا يحد من سطلتها شي ، وبموجبها يحق للنظام تحديد شكل وزمان وقواعد لعبة التدخل في كافة شؤون الدولة بما فيها حق الحكومات العربية في أن تختار شعبها لا العكس !! .
والواقع أن ثمة أزمة ثقة تكاد تكون مزمنة بين الشارع العربي والسلطة جراء ما يوصف بغلبة الطابع السلطوي على تدخل الدولة المباشر في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية التي تمس مباشرة الحياة اليومية للمواطن البسيط، فعملية صناعة القرار في المجال الاقتصادي كما هي في المجال السياسي متهمة بأنها تسير في اتجاه واحد هابط من قمة السلطة إلى القاعدة الشعبية، كما أنها متهمة بغياب الطابع المؤسسي عنها بمعنى قلة استعانتها بالمراكز البحثية المتخصصة، وعملية صناعة القرار فيها تتداخل مع مصالح فئات تتضارب مصالحها مع الصالح العام أو تأتي القرارات مدفوعة بأهواء شخصية غير منطقية في كثير من الأحيان.
فضلا عن دور الحكومات بتمييع وتذويب أدوار الأحزاب السياسية والمعارضة وجماعات المجتمع المدني واتجاهات الرأي العام فيما يتعلق بصناعة القرارات الاقتصادية، التي تهيمن عليها في الغالب الأحزاب الحاكمة مع طبقة رجال الأعمال الجديدة الصاعدة المستفيدة من أغلب هذه القرارات والمتحالفة بثروتها مع ما يوصف "بفساد" السلطة، فنرى الفقر والجهل والمرض والبطالة ولا نرى مصير الثروات النفطية والمالية والحرية السياسية والاقتصادية !! .
وجلّ أسباب ضعف وانكماش الاقتصاد العربي اليوم تتمركز حول حقيقة سيطرة الحكومات العربية على مفاصل الاقتصاد والسياسة، وتدخلها بطرق مباشرة غير مباشرة فى تسيير الامور الاقتصادية بتسييسها فى احيان كثيرة للقرار الاقتصادى، ما اقعد بالاقتصاد العربى وادخله فى دوامة التاخير مقارنة بنظيره الاقتصاد الغربى .
والسياسات التدخلية التي تمارسها الحكومات العربية في النشاط الاقتصادي، جعلت من القطاع الخاص العربي برمته "هزيلُ لا يسمن ولا يغني من جوع" ولا يقدر على مقارعة شركة تجارية واحدة ضخمة في الغرب أو الصين مثلاً، لذلك نجد أن القطاع الخاص غير قادر على أن يحل محل القطاع العام الذي حل محله في كل شيء، بل انه يفرز سلبيات أسوأ من القطاع العام في إدارة وتشغيل الاقتصاد القومي.
والامثلة من واقع السياسات التدخلية الحكومية العربية في مختلف شؤون الحياة، خاصة الاقتصادية ، من الكثرة بمكانه لذكرها ، لكن سنعرض بعض النماذج العربية الصارخة في هذا المجال .
تعد ليبيا –على سبيل المثال لا الحصر- من أبرز البلدان العربية المنتجة للنفط، وليس خفيا على احد ان دخلها المالي القومي اليوم، بعد الارتفاع الكبير في اسعار النفط، بلغ عشرات المليارات من الدولارات، لكن بالمقابل وبسبب السياسة التدخلية التي تمارسها الدولة في مختلف مفاصل الحياة الاقتصادية وبسبب تحكم نخبة عليا او القيادة المركزية بالثروات المالية الضخمة للبلاد ، لا تظهر "آثار النعمة النفطية" على البلاد والعباد، وليبيا تعتبر نموذجا عربي لانتشار الفقر بين مواطنيها على الرغم من ان دخلها يقدر بالمليارات! حتى ان بعض التقديرات العالمية تشير الى ان شدة انتشار الفقر في ليبيا باتت تهدد نسيجه الاجتماعي.
واعتراف السلطات الليبية -بعد سلسلة ادعاءات تنفي فيها هذه الظاهرة- أن في ليبيا أكثر من مليون فقير في بلد يبلغ عدد سكانه فقط ستة ملايين ، واشارات الارقام الرسمية الليبية الى وجود قرابة (180) الف أسرة تعيش على دخل لا يتعدى (75) دولار !! ما يعني ان خمس سكان ليبيا يعيشون تحت خط الفقر ، الى جانب بطالة بلغت عام 2008م (30%) واليوم في ازدياد .
وفي بلد لديه اكتفاء ذاتي مثل سوريا ويصدر منتجاته المتنوعة الى كافة بقاع العالم وينافس بقوة صادرات صينية وأوروبية ، فان النظام او الحزب الحاكم يمسك ببتلابيب السلطة السياسية والاقتصادية من مختلف الجوانب ، وتتدخل الحكومة في كل القرارات الاقتصادية التي تحدد مصير الشعب السوري، وتبين نتائج دراسة ميدانية اجراها "مركز الدراسات والبحوث" التابع لحزب البعث العربي الحاكم حول واقع الشباب في سورية أن نسبا عالية من الشباب تعاني مشكلات عصيبة ونفسية وجاءت البطالة التي تعتبر احدى اهم المشاكل التي تفرض نفسها جديا على الاقتصاد السوري منذ سنوات من دون ان تجد حلولا لها في كل قرارات المعالجة المتخذة حتى اليوم في المركز الاول من مشاكل الشباب بنسبة (46.1%) يليها التفكك الاسري بنسبة (31.5%) والتعليم ثالثا بنسبة (13.3%)، والسكن بنسبة (7.2%) .
وبينت الدراسة ايضا أن (28.4%) منهم يقل دخله عن مئة دولار امريكي شهريا بينما يتراوح دخل (56%) منهم بين مئة واقل من مئتي دولار شهريا !! ، يحدث هذا في بلد نرى فيه اكتفاء ذاتي في الصناعة والتجارة والزراعة والمياء والطاقة والنفط ، ولكن لا نرى –بالمقابل- أثار هذه النعمة على غالبية الشعب السوري الذي تزداد بين صفوفه الفقر والبطالة والحرمان من الامان الاجتماعي !! .
أما في بلد صغير بموارده الاقتصادية مثل الاردن ويعتمد على المساعدات الخارجية والضرائب والرسوم ، فلا ينجو ايضا هذا البلد من تحكم صانع القرار والحكومات المتعاقبة من التدخل المباشر والممنهج في ادارة الاقتصاد الاردني التي قد قد تكون اصعب من ادارة اي اقتصاد عالمي آخر –حسب رأي بعض الخبراء الاردنيين- لان تركيبته غريبة، وقد لا تجد لها مثيلاً في اي بلد في العالم !!
فلا يوجد في العالم بلد تنفق حكومته على الاستهلاك (107.7%) من ناتجه المحلي الاجمالي الا الاردن!! ومع ذلك تحصل فيه استثمارات تزيد قيمتها عن (27.6%) من النتاتج المحلي الاجمالي، أي انه يتصرف بما يعادل (135.3%) من الناتج المحلي الاجمالي !! وهل يوجد بلد يسمح لنفسه باستيراد سلع وخدمات تعادل قيمتها (87.1%) من الناتج المحلي العام ، في حين لا يصدَّر سوى مايقارب (51.8%) منه !! .
ويقول احد الخبراء في الاقتصاد الاردني تعليقا على آليات ادارة وتدخل الحكومة للاقتصاد الأردني "الاردن بلد يعاني من عجز في الموازنة العامة للدولة كل عام، وعجز في ميزان الانتاج والاستهلاك، وعجز في تمويل الاستثمارات من المدخرات المحلية، وعجز في ميزان السلع، وعجز في ميزان الخدمات، ومع ذلك ارتفاع في احتياطي البنك المركزي من العملات الاجنبية!!، واستقرار او انخفاض في مستوى المديونية الخارجية، كيف يمكن ان يحصل كل هذا؟" ، انها معجزة لا تنفع في حل طلاسمها قراءة كتب الاقتصاد، لان الاقتصاديين لم يخطر ببالهم مثل هذا النموذج فاما ان القائمين على ادارة الاقتصاد الاردني عباقرة، او ان علم الاقتصاد بحاجة للتعديل !! .
وبلغ العجز في مديونية الاردن عام 2009م ما يزيد على المليار، وهو عجز مذهل رفع دين الأردن المتراكم إلى ما يزيد عن 13 مليار دولار رغم ان موازنة الاردن لعام 2010م لم تتجاوز نصف المبلغ اعلاه، وهو كم هائل من المديونية يثقل كاهل دولة كبيرة، فما بالك بدولة صغيرة محدودية الإمكانيات!
بعد هذه النماذج الحية لثلاث دول عربية (ليبيا ، سوريا ،الاردن) تمثل مستويات متفاوتة من الامكانيات والقدرات الاقتصادية، فان المطلوب اليوم من الحكومات العربية أن تتخلى عن دورها في ملكية الموارد الاقتصادية حتى تتفرغ لدورها الأساسي في إدارة الشؤون السياسية والقانونية والتنظيمية للفرد والمجتمع، ويمكن لهذه الحكومات أن تعوض إيراداتها من ملكية الموارد عن طريق فرض ضرائب على الدخل وعلى الملكية، علما أن هذه الإيرادات ستفوق بكثير ما تحققه الحكومات العربية من مشاركتها القطاع الخاص في ملكية القطاعات الإنتاجية التي تقوم بتصنيع السلع والخدمات.
خاصة وان القطاع العام يحتاج إلى إعادة هيكلة ديمقراطية تتيح للعملية السياسية أن تتم في شكل منظومي مبني على أسس وقواعد دولة المؤسسات النظامية، وليس على رغبة وفكر شخص أو عدة أشخاص إذا ما ذهبوا ذهب كل شيء، فالمطلوب ترسيخ مقولة "النظام المؤسسي" الذي لا يتأثر بمجيء شخص أو بموته أو تغييره .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بنحو 50%.. تراجع حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل


.. العربية ويكند الحلقة الكاملة | الاقتصاد مابين ترمب وبايدن..و




.. قناطير مقنطرة من الذهب والفضة على ضريح السيدة زينب


.. العربية ويكند | 58% من الأميركيين يعارضون سياسة بايدن الاقتص




.. عيار 21 الآن..أسعار الذهب اليوم السبت 18 مايو 2024