الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(دولة الشعب الافتراضي) لنزار شقرون - نبوءة شاعر

ثائر العذاري

2011 / 1 / 27
الادب والفن


لن يستطيع القارئ أن يخفي دهشته حين يعيد قراءة قصيدة الشاعر د. نزار شقرون المنشورة في القدس العربي في عددها 6616 في 16 أيلول (سبتمبر) 2010 بعنوان ( دولة الشعب الافتراضي)، فالقصيدة تثبت مرّة أخرى أن للشاعر رؤية تنبؤية، وبصيرة تتجاوز حدود الزمان والمكان لترى ما لا نراه.
في قصيدة ( دولة الشعب الافتراضي) نجدنا في مواجهة نوع جديد من اللغة تتحول فيه الكلمات الى محض علامات تحيل على شفرة مستقبلية لم نستطع فكها إلا في الرابع عشر من كانون الثاني ( يناير) يوم انطلاق ذلك الشعب الافتراضي من أثير النت الى مادية العالم ليتدفقوا في شوارع تونس وأزقتها معلنين إمكانية تجسد الافتراضي في الواقعي.
مغامرة شقرون تبدأ من العنوان ( عتبة النص)، فقد صيغ ببنائية تحدد أفق التوقع في ذهن القارئ في سياق الدلالة السياسية الاجتماعية، فاستعمال كلمة ( دولة) لم يكن لها ما يسوغها غير إضفاء الصبغة السياسية على النص، وبإضافتها إلى كلمة ( الشعب) صارت الدلالة أشبه بعلامة تحيل على الثورة، ( دولة الشعب) في مقابل ( دولة السلطة). وهكذا يدخل القارئ النص بفضول التعرف على بنية تلك الدولة الافتراضية الثورية.
إن فكرة الإدهاش التي تقوم عليها فلسفة قصيدة النثر تختفي تماما في هذا النص، لأنه يبني لنفسه أساسا جديدا، فهو لا يقوم على محاولة صدم القارئ بلغة غير متوقعة وانزياحات لغوية مبتكرة، بل يقوم على إزاحة الواقعي الى الافتراضي ودمجهما في كيان واحد. إنها مغامرة استكشاف جغرافي جميلة لعالم يقع خارج حدود المكان ولهذا فهو افتراضي، لكنه لا يقع خارج حدود الزمان، فمن يعيش في الفضاء الرقمي ينفصل عن عالم المادة لكن الزمن يستحيل الى حبل سري يربطه بعالمه الواقعي. وهكذا جاء النص مؤلفا من مقاطع تحمل أرقاما عددها اثنا عشر مقطعا بما يحمل هذا الرقم من دلالات زمنية تجعله واحدة من علامات ارتباط الافتراضي بالواقعي.
بكلمات قليلة يرسم الشاعر حدود تلك الدولة في المقطع الأول، ليدخل القارئ على الفور في عوالمها:
الفايسبُوكيّونْ
شعبٌ افتِراضيٌّ
خُلِقَ مِنْ نَقْرِ الكَلِمَاتْ
يَشْهَدُ أنّ العاَلَمَ أَكْبَرْ
والجُغْرَافيَا مُختَزَلةٌ في شاشَهْ
وَفِي كلِّ نقْرَةٍ
تُولَدُ أسْماءْ
تطِفُّ علَى بابِكَ
تسْألُكَ أنْ تَعْبُرَ بحْرَ الرّغَبَاتْ.

كلمة ( الفايسبوكيون) كلمة مبتكرة لتكون علامة إرشادية في أول النص، مثل تلك اللافتات التي تواجهنا في مداخل المدن والمعابر الحدودية. غير أن دولة شقرون تأخذ اسمها من شعبها فوضعت اسم الشعب على اللافتة التعريفية. وفي هذا المقطع ثمة علامتان لا ينبغي إغفالهما. أما الأولى أن الحديث هنا عن شعب يتحرك كوحدة واحدة، فالحديث عن الجمع وليس عن المفرد. وأما الثانية فهي التكاثر السريع لهذا الشعب فـ ( في كل نقرة تولد أسماء).
في المقطع الثاني يرسم شقرون نبوءته:
الفايسْبُوكيّونَ
مِلْحُ الأرْضِ هاَجَرَ معَ البَجَعَاتْ
يَحْمِلُونَ السِّبَاخَ
في حَناجِرهمْ
وَفِي عيُونهِمْ حلاَوةُ الوَميضْ
يَتَنَاسَلونَ خَارِجَ غُرَفِ النّوْم
أولئك الذينَ تمنَّوا عنَاقَ الشّوَارعْ
أولئك الذينَ في السّاحَاتِ العامّة ْ
تمنّوا حربَ القُبُلاتْ.

أناس يحملون آلامهم متجسدة في ( سباخ) الواقعي إلى ( حلاوة) الافتراضي، غير أن ما يثير الانتباه هنا استعمال كلمة ( وميض)، ربما لم نكن لنتنبه إليها في وقت نشر النص، لكنها بما تحمل من دلالة على الفجاءة والسرعة الخاطفة، يمكن أن تفهم الآن على أنها النبوءة بالثورة المنطلقة من الافتراضي الى الواقعي. ومرة أخرى يأتي التذكير بالتكاثر ( يتناسلون)، لكنه هذه المرة يأتي مصحوبا بإشارة صريحة إلى الثورة في ( عناق الشوارع، الساحات العامة، حرب القبلات).
ثم تأتي العلامة الأسطورية في المقطع الثالث لتعلن موت من يستسلم الى الواقعي ولا يعلن انتماءه الى الافتراضي، لأن الهدف في النهاية هو:
يسِيرُ بِأناملِهِ عَلَى جَمْرٍ
لِيسْرِقَ نَارَ السّماواتْ.

حبّ مثل حب ( برومثيوس) للإنسان، سرقة النار ( رمز القوة) من السماء ( رمز السلطة) ومنحها لهذا الشعب.
وفي مقطع آخر يرسم شقرون صورة واضحة لما كان يجري في السر من إعداد للثورة:
الفايسْبُوكيُّونَ
عُمّالُ مَنَاجِمِ الشّهَواتْ
يُنقّبُونَ عنْ معْدَنٍ يلْتَمِعُ فِي السّرْ
لَيْلُهمْ إبْحارٌ في ممْنُوعِ الصّباحاتْ
يَكْرَهُونَ الصّبَاحَ القَديمْ
يُحرّضُونَ النُّجُومَ علَى الشّمْس
وَلَيْسَ لَهُمْ تَوْقيتٌ للنّوْم
عُمّالٌ عُراةٌ
إلاّ منْ شَوْقِ الميّتِ إلَى الحَيَاة.

ربما تبدو الجمل هنا كأنها تشير الى فضاء للتحرر الغريزي والشهواني، لكن ختام المقطع يزيح تلك الدلالة مرة أخرى الى الثورة ( شوق الميت الى الحياة)، فعندها ينحرف الحقل الدلالي عائدا الى أفق التوقع السياقي الذي رسمه الشاعر بدءاً. ففي الليل وحده تعمل الطقوس السرية في الفضاء الافتراضي للإعداد للعودة للحياة عندما يشرق صباح جديد غير ( الصباح القديم) الذي كرهه الفايسبوكيون.
ربما تحيل عبارة ( عمال مناجم) من طرف ليس بالخفي إلى مفهوم طبقي ماركسي للثورة، غير أن النص في مقطعه الخامس يبدأ برمز مماثل مؤكد لهذا المعنى ( معاول) ثم عبارة صريحة تزيل ما تبقى من الشك في فهم العلامة ( في هذا الشعب خصلة الثورة). ويتحول فضاء قواعد اللغة الى علامة تحيل على الطغيان والتسلط فيقوم ( الفايسبوكيون) بتخريب قبر ( ابن جني) الذي قضى حياته في تقعيد أصول فهم المفردات وتصريفها.
وفي المقطع الثامن يبلغ التوتر أقصاه بنبوءة صريحة بالثورة:
الفايسبوكيّونَ
مُتّهَمُونَ بِعُقوقِ الأمّْ
موْعُودُونَ بالجحيم تحْتَ الأقْدَامْ
وهُمْ ثابتونَ علَى كراسِيهمْ لاَ يأبَهونْ
مَاذَا لَوْ تَحرّكَ هذا الشّغَبُ العفْويُّ
ماذَا لَوْ نبَتتْ في الأرْصِفَةِ عُروقُ الجُنُونْ
أَلاَ يَحْتاجُ الوجْهُ إلى مِرْآةٍ
لِقلْبِ العيْنِ إلى الدّاخِلْ
أمْ يحْتاجُ القِنَاعُ إلى دُهونْ؟

فهذا الشعب الافتراضي يمكن أن يعبر من الافتراضي الى الواقعي غير آبهٍ بالقمع، عندها ستحتاج السلطة الواقعية الى إعادة النظر في سياستها وإضفاء دهون جديدة على قناعها البالي، لكن هذا لن يخدع الشعب الافتراضي.
-11-
الفايسبُوكيّونْ
يُسرُّونَ إلَى حبيباتِهِمْ بِخطّةِ الحُرّيّة ْ
يَتجَاهَلُونَ الرّقيبَ الذِي
دَمُهُ مِنْ دَمِهِمْ
وَكُرَيّاتُهُ مَحْقُونَةٌ بالدّمِ الفاسِدْ
يَسْتبْسِلُونَ فِي تَحْرير مُتْعَةِ التَّطاوُلْ
عَلَى حَميده وحَميدْ وحامِدُونْ
وَيُشْهِرُونَ مَشاهِدَ إخْراجِ الرَّهائِنْ
مِنْ صَمْتِ الغريزة ْ.

من المهم هنا أن لا نتجاهل مفردات المواجهة بين الواقعي والافتراضي (الحرية، الرقيب، الدم الفاسد، يستبسلون، تحرير، إخراج الرهائن)، فهذه الكلمات لا يمكن أن تأتي إلا في مقال سياسي أو تأريخي يتحدث عن ثورة كبرى، وهذه الكلمات نفسها صارت أكثر الكلمات شيوعاً في الخطاب الشعبي التونسي بعد الرابع عشر من كانون الثاني ( يناير).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال


.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب




.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي


.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء




.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان