الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ياسمين الغضب التاريخي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2011 / 1 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


إن ما يجري في تونس ومصر واليمن والأردن وحلقاتها التالية يؤسر القلب والرؤية بالشكل الذي يجبر المنطق على الرقص أمام دقات الهتاف المدوي للجماهير في مواجهة العنف المنظم للسلطة. فالصور المباشرة عن مواجهة الشرطة للشعب المصري تكشف عن ضخامة الجهاز البوليسي القمعي. بحيث كشف عن وجود دولة داخل دولة. بوليس أضخم من الجيش! بوليس أنيق الملبس حاذق في القمع والترهيب! وما وراءه تشكيلات بوليسية عديدة هي الحلقات التي تربط في كلها حياة ووجود "منظومة" البؤس والزيف الشامل للسلطة.
إلا أن هذه الصور ليست إلا الوجه المعكوس في مرآة الواقع التي تشير الى قوة وشكيمة الشعب في مواجهة السلطة الدكتاتورية وفسادها الحزبي الشامل. ومن ثم تكشف عن تحدي المجتمع لها. وفي الحصيلة نقف أمام معادلة لا يمكن حلها إلا بالوصول الى نتيجة منطقية تامة. ولا نتيجة منطقية إلا بالحل السليم. ولا حلا سليما إلا بالقضاء التام على دكتاتورية الفساد والتحلل التي أدت بمصر الى قاع الحضيض، بعد أن كانت على مدار قرنين من الزمن "القلب النابض" للعالم العربي.
كشفت أحداث مصر الحالية، كما هو الحال في تونس وقبلها في العراق، بأنها الأجهزة القمعية للسلطة بلا وقود ذاتية. وإنها صدئة لا تتحرك إلا بالضرب! والسبب بسيط للغاية وهو أنها مجرد شرطة بلا شروط اجتماعية وإنسانية ووطنية. شرطة مشروطة بالدفاع عن "سيدها"، مع ما يترتب عليه من تكليبها بوفاء لا قيمة له. الأمر الذي جعل منها مجرد هراوة لسحق الروح الاجتماعي. وقد كانت تلك هي الآلية التي حاولت من خلالها الدكتاتوريات العربية تجميد أركانها على أرضية رملية سرعان ما كشفت أحداث تونس عن رخاوتها.
لقد صنع الحدث التونسي لحظة "الزمن التأسيسي"، أي بداية التاريخ الفعلي. فالأخير وثيق الارتباط بحركة المجتمع في التعبير عن نفسه والدفاع عن مصالحة الخاصة والعامة والمستقبلية. وهذا بدوره وثيق الارتباط برفض فكرة الوصاية والعناية ومصادرة الإرادة الفردية والاجتماعية والقومية الحرة. فهي اللحظة التي يتحول فيها الزمن الى تاريخ. وقد جسد "يوم الغضب" المصري هذه لحقيقة عندما حول اليوم الى لحظة تاريخية عميقة في الوعي الاجتماعي تجاه إشكاليات السلطة والدولة والمستقبل.
لقد جعل "يوم الغضب" من اليوم تاريخا، ومن الغضب فضيلة. وهي مفارقة بمعايير القيم الأخلاقية، لكنها حقيقة بمعايير الحق ولمستقبل. فالغضب حالة عمياء، لكنه حالما يكون صانعا للتاريخ، انه يتحول الى مأثرة. والتاريخ الحقيقي مأثرة. ومأثرته تقوم في كشفه عن الحقيقة القائلة، بان الجذوة المحترقة في أعماق مصر تحتوي على وقود الفكرة الاجتماعية والسياسية والوطنية والقومية. وبالتالي فان "يوم الغصب" هو استمرار واستكمال وتوسع لشهر الياسمين. لقد أعطى الشعب التونسي لرائحة تضحياته عطرا خاصا ذلل روائح العربة الخربة للدكتاتورية. ويصب الشعب المصري روافد كفاحه من اجل تذليل عربة الدكتاتورية المتهرئة لحسني مبارك في بحر الغضب الاجتماعي والوطني والقومي. وفي كلا الحالتين نقف أمام تشابه كبير. شعب يقف بالضد من دكتاتورية عائلية وحزب مضخم فارغ تابع ذليل. ومن ثم يذلل الحالة المثيرة للغثيان عن وجود حزب ذليل "يقود" الدولة والمجتمع، كما لو أنهما فاقدان للعقل والإرادة. بحيث أعطت لهذا النمط من التعامل مع الدولة والمجتمع والنظام السياسي والأفراد وهم "الانتصار" الأبدي. وأثار في الوقت نفسه هزيمة الروح الاجتماعي التي دفعت للامس القريب الكثيرين من "محترفي" الثقافة المثيرة ولع الاتهام المفرط بموت العرب وما شابه ذلك، عوضا عن مواجهة السلطة الخارجة على قانون التاريخ، باعتبارها قوة ميتة.
إن الأحداث التونسية والمصرية تكشفان عن موت الدمى المحنطة وهشاشة تصنيعها، كما أنها تشير، وهو الأهم، على أن الإرادة الاجتماعية والسياسية والوطنية والقومية العربية "اللينة" أقوى من كل القوى الخشنة لأجهزة القمع والإرهاب. ومن ثم البرهنة على أن هذه الإرادة صانعة التاريخ الفعلي.
إن العالم العربي ليس بحاجة الى معجزات! انه بحاجة الى تذليل مسار الزمن الفارغ وصنع تاريخه الذاتي. فالزمن الفارغ هو رديف السلطة الدكتاتورية. والدكتاتورية هي زمن فارغ لأنها تعيد إنتاج رخويات محنطة. وضمن هذا السياق يمكن النظر الى التجربة المصرية في صنع التاريخ الاجتماعي للدولة هو استكمال جوهري للتجربة التونسية. وكلاهما يصححان الخطأ التاريخي للتاريخ الخاطئ في العالم العربي. فقد التجربة الأولى لتدمير الدكتاتورية قد جرت في العراق. لكنها تحمل وصمة عار أيضا. أما التجربة التونسية والمصرية واليمنية والأردنية (ولاحقا السورية وغيرها) تشير الى حقيقة آخذة في الجلاء وهي أن الموجة الأخيرة للزمن الراديكالي والدكتاتوريات في العالم العربي في طريقها الى لزوال التام. وهذه بدورها المقدمة الضرورية للحياة.
إن التجربة التونسية والمصرية تكشف وتبرهن على أن كل الضغوط (الخارجية والداخلية) الهائلة التي تعرض لها العالم العربي في مجرى القرن العشرين، والهادفة الى تقييده وإخماده وتذليل قواه الحية وروحه القومية قد أخذت بالانهيار. فالعالم العربي الذي واجه على امتداد قرن من الزمن الكولونيالية الأوربية واستكمالها الجديد بالأمريكية قادر على تذليلها، كما فعل قبل قرون في تذليل الهجمات الصليبية. وهنا تكمن المقدمة الضرورية للمستقبل، أي لصنع التاريخ الفعلي للعالم العربي.
فالتاريخ الفعلي هو مستقبل. وهو الأكثر تعقيدا لأنه ملزم بتذليل التحديات الكبرى في كافة الميادين وعلى كافة المستويات. وهذا بدوره يحتاج الى إرادة حرة عاقلة فاعلة حية واعية لطبيعة وحجم وأولويات التحديات وتذليلها أيا كان مصدرها وشكلها ومستواها.
إن ما يجري الآن في تونس ومصر وغيرها هو الخطوة الأولى في المسار التصحيحي للتاريخ. ومن ثم فهو نفي حقيقي للمرة الأولى لمسار "الحركات التصحيحية" المزيفة للدكتاتوريات "الثورية" وأمثالها. وبهذا المعنى يمكن النظر الى أن ما جرى ويجري في تونس ومصر هو تصحيح للتاريخ العربي بدأ بعطور الياسمين واستمر بيوم الغضب، كما لو انه يذلل بطريقته الخاصة الخطأ العراقي في الموقف من الدكتاتورية. ويكشف في الوقت نفسه الى أن التاريخ العرابي واحد وموحد على مستوى الشعور والوعي والمصالح الكبرى. وفي حصيلته ليس هذا التصحيح المعادي والمعنوي الفعلي سوى الثأر القومي السليم والعقلاني والإنساني والحي من النفس أولا وقبل كل شيء.
لقد علمّت النكبة فيما مضى أجيال العرب على حب الوطن والقومية، وسوف يعلمه استنشاق عطور الياسمين ورؤية ايام الغضب على توحيد الوجدان والعقل من اجل تنقية النفس والإرادة، وبالتالي بلوغ الحرية الفعلية وبناء الدولة الحديثة والمجتمع المتطور. فالعالم العربي يحتوي على كل ما يؤهله لان يحتل موقعه المناسب له في العالم بوصفه وريث الحضارات الكبرى لوادي الرافدين وقرطاجة ومصر، أي لتاريخ الخلافة الكبرى. وهي بداية الطريق. والباقي هو استكمال ذلك بخلافة العرب التامة والشاملة والكاملة لأنفسهم.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حسن نصر الله يلتقي وفدا من حماس لبحث أوضاع غزة ومحادثات وقف


.. الإيرانيون يصوتون لحسم السباق الرئاسي بين جليلي وبزكشيان | #




.. وفد قيادي من حماس يستعرض خلال لقاء الأمين العام لحزب الله ال


.. مغاربة يجسدون مشاهد تمثيلية تحاكي معاناة الجوع في غزة




.. فوق السلطة 396 - سارة نتنياهو تقرأ الفنجان